شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
كأني عشت حياتي بتكلفة أقلّ

كأني عشت حياتي بتكلفة أقلّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 5 أغسطس 202311:26 ص


 

في المرآة

لن أدرك جسدي

لن أتحسّسه وأغمره بلمعة الحياة

لكن سأركل الحائط خلفي، وأتسع كفجوة لا تنتهي...

الإنكار ورطتي الأبدية

كان لا بد من إيجاد حيلة، صنع نمط مستقل، يجري اختباره في حياة بأكملها؛ لعله ينجح معي، في تخطي نوبات البكاء والهلع، تجاهل الألم وتضميد جروحي. بذهن صاف ومرتب، برفق وحياد، أحذف المشاهد القاسية وأجعلها تبدو مثل خطأ مطبعي أو محنة إملائية سقطت بين يدي رغماً عني، بهذا السهو المتقن أكون مستعدّة، أبدو في حال أفضل، وفي أزمنة أخرى، أعيد تجهيز حياتي كأنني عشتها بتكلفة أقل.

الدرس الأول: أصيص فارغ تتناوب عليه الزهور

في الجزء الأول من حياتي نسجت حكايات، أو بمعنى أوضح، أكاذيب كثيرة، أستعين بها على تفسير الأحداث، وأحياناً في التخلّص منها. فعلت كل ما تستطيع أن تعتبره "إبراء ذمة" من التورّط في المصائب. حين يتم استجوابي أنكر كل شيء ببساطة: لم أكن موجودة، لم يخطر هذا في بالي، لم أكن أتوقع... إلخ. كلمات مثل هذه، لا تعد، استخدمتها بحرفية سطح مرآة، تتناوب عليه الصور، بلا رائحة، بلا ذاكرة، وبلا مشاعر، رأيت أن مجرّد اعتبار ما أمرّ به من خوف وأحزان مجرّد حلم، سأصحو منه قريباً ولا أثر لشيء من الجروح والندوب. هل المرايا تحلم؟ كنت هذه المرآة المعلقة في أقصى جدار في بيتنا تمشي، تتكلم وتمارس حقها في ابتلاع جرعات الأكسجين مع وجبات القسوة، وتتحطم أيضاً كعرض مؤقت.

رميته ببيضة ثم أخرى، حتى وهو يحتمي بالمسجد وصله فاصل من البيض والشتائم أيضاً. لطخت ملابسه وباب المسجد وسجّاده، فعلت كل ما يلزم لأعود إلى أمي بكيس فارغ من الأحقاد... مجاز

الدرس الثاني: أنت لا تكذب حين تنجو بنفسك

أذكر أنني بدأت استخدام الإنكار، كحيلة دفاعية، وأنا في السابعة من عمري. كنت عائدة إلى البيت بمشتريات البقالة، وللصدفة الفاسدة ضايقني ابن الجيران لامتناعي عن اللعب معه، أو بالأحرى لأنني أتجنّب دائماً ملاطفاته كباقي الفتيات، لا أدري إلى الآن ما السبب في أنني لم أستطيع أن أحبه. كنت أمرّ جوار المسجد القريب من بيتي، ولم يكن في يدي شيء أدفع به ملاحقته لي، ولا حبات الزلط التي يقذفني بها لأعيره التفاتة، سوى الهروب بخوفي وبعض البيض الذي أحمله لأمي.

رميته ببيضة ثم أخرى، حتى وهو يحتمي بالمسجد وصله فاصل من البيض والشتائم أيضاً. لطخت ملابسه وباب المسجد وسجّاده، فعلت كل ما يلزم لأعود إلى أمي بكيس فارغ من الأحقاد، الأمر سُوّي هناك بيننا بلا ضغينة؛ حتى أنني لا أذكر أنه ضايقني. يومها هرع خلفي خادم المسجد، وجارتنا شكتني إلى أمي. أخبرتهم أنني لا أتذكر مما حدث، إلا أنني تعثرت، سقطت، وطارت أشيائي. رأيت أن هذه الكذبة لائقة حتى في وجود الشهود. لا حقيقة تذكر إذن، إلا ما صنعتها بنفسي، للخروج من هذه الورطة. هل الخائف مذنب؟ كان هذا مبرّري لأنجو، حتى وأنا في خصومة مع بيت الله. لا أنكر أنني ابتسمت.

الدرس الثالث: لا تندم حين تقابل الموت

لم أر الموت من قبل يطوف حولي، يطوّقني بأجنحته الرمادية الكئيبة، مثل عصفور مبلّل يترنح، إلا حين ماتت جدتي، كان يرجوني أن يدخل ليؤنس وحدتي أو ربما لألعب معه هو الآخر! أو أن أدعه يتسلّل إلى بيتي، غرفة نومي وسريري الذي تركته لجدتي، حين جاء بها أبي لتعيش معنا في سنواتها الأخيرة.

رغماً عني أمسكت بالكذبة، وقرّبتها من فمي، تذوّقتها فأعجبني طعمها، ولو أن مرارتها أصدق ما فيها

كنت في الصالة أرتجف على الكرسي، وهي ترقد شاحبة في مرضها يحاصرها الألم، كانت تنادم عماتي بعينين حنونتين، تسكت كثيراً، بشيء يشبه الخوف الذي نتجرّعه حين تكون هناك كلمة خشنة في حلقنا لا تذوب أبداً. هادئة وخائفة تلاحق وجوهنا، وتمتلئ عيناها بصور أولادها، ربما لمرة أخيرة. عرفت أنها النهاية، رجوت الموت ألا يأتي، ألا يخيفها. حين بهتت نظراتها لم أصدّق، حين خفتت أنفاسها كذّبت ما يحدث، بقيت وحدي هلعة، أهزّ جسدها، أناديها، أرجوها أن تستيقظ وإلا سيدفنونها.

كنت خاضعة لنوبة هلع قاسية والجميع يحاول أن يجعلني أفيق بلا جدوى. هي لم تكن معهم، لم ترد عليّ أبداً، حتى وهم ذاهبون لدفنها. لم تستيقظ في الطريق كما تمنيت، روحها كانت غائبة تماماً، وجسدها غائم في كوابيس تستوطن صحوي، لم تسمعني؛ لذا أنكرت موتها الذي جعلني أبكي في حضوره البشع قلة حيلتي، وأندم لأنني كثيراً ما كنت أعتقد أنها تضايقني فقط لأظلّ جوارها، وليست مريضة أبداً كما تدّعي.

حين ماتت أدركت أنها كانت تتألم، وأنه كان عليّ أن أتحدث معها أكثر، أسلّيها ولا أبتعد. كانت تريد أن أجالسها بالساعات وهي تتحدّث فقط، تخبرني قصص طفولتها، عرسها، وخبث جاراتها، وحكايات بلدتها بفضائحها وقسوتها وأفراحها القليلة الهشّة. وهذا أكثر ما آلمني طوال حياتي، أنني لم أكن موجودة في حكاياتها، في ألمها السريع المباغت. أنكرت يومها موتها، حتى لا أشعر بالذنب الذي ظل يحاصرني ويحاكمني على تقصيري.

رغماً عني أمسكت بهذه الكذبة، وقرّبتها من فمي، تذوّقتها فأعجبني طعمها، ولو أن مرارتها أصدق ما فيها.

الدرس الرابع: كان على الموت أن يتأخّر

يوم هجرني حبيبي، يوم تركنا جميعاً ورحل، ليس إلى الموت كما أخبروني، ولكن إلى سفر بعيد وطويل، رأيت الجميع يبكونه، ويلقون جسده في هوّة عميقة بصدورهم، ويعيدونه بالنسيان، يقصدون سيرته بالعزاء والشفقة، بأسى ومواساة يتذكرون ابتسامته الجذلة، ووفرة روحه تفيض من ثقوب عيونهم، ويقولون ببساطة، مات. وحيدة كنت، أفتح الرسائل بيننا وأقرأ جملته الأخيرة "تصبحين على خير". هو نائم إذن، والليل في توقيته أبدي، الليل الذي أعرفه عكس اتجاه منطق الأشياء التي تذوي بمجرّد أن تلمسها. الليل غائب في شروده، تائه، لن ينتهي، الليل الذي بيننا امتدّ لشهور، لأدغال وأسوار، ومازال موحشاً، بارداً وغريباً. لن أقول إنني لم أبك؛ لكني رفضت ببساطة أن يموت حبيبي، ليس بالمعنى المجازي للكلمات التي تنظف بذلة الموت من لطخات الفقدان، لكن بواقعية شديدة، تحمّست لفكرة سفره الطويل كي أهرب من إشكالية أنه لن يحدثني قريباً، أو مرّة أخرى. إرادة الخائف من الحقيقة هذه جعلتني أنكر على الموت غنيمته، كانت الرغبة الدائمة في الإنكار تأريخ موجز هنا للحب الذي أراد أن يعيش في قلبي.

في الأساطير المصرية أيضاً، عاش الحب حين رفضت إيزيس موت صاحبها، وظلت تبحث خلف أشلائه عن قبلة الحبيب، هيئة الزوج، وسيرة الغريق تتسلّل في أعماق النيل، تشربها الأرض والسماء، تضيع في عروق النبات مع رائحة الطمي والأنوثة والخوف، وفي قلب كل امرأة، أسّست لتلك المحبة التي لا تذوب في الماء ولا تلتهمها الضواري ولن تخفيها المسافات.

من الميت إذن، غير الذي ننساه؟

مرّنت نفسي على توقع الخيانة كأنها سلوك معتاد، مع عدم رفع سقف المحبة من الآخرين تجاهي، بل عدم انتظار أي شيء منهم، ما لم تكن طعنة في الظهر... مجاز

الدرس الخامس: القارب الذي حمل متاعنا لن يغرق

أسوأ ما يمكن أن تعيشه، أن يتبنى أحدهم حكايتك، ويرويها بدلاً منك، تجلس إليه، صامتاً، لتستمع إلى صوتك يخرج من شفاه باردة ومحايدة، يتناول ابتسامتك، طعامك، يتجرّع أدويتك وأنت تظل أبداً، هذا الجائع، المريض، البائس، مجرّد سيرة تتداولها الأحذية، بلا طرق تذكر. المفترض أن تشعر بالألم، أن تتربّص بوجهك فتطارده في مرآته، تراقبه فقط وهو يمرّر جذوة حياتك إلى فمه، يبتلعها، كأنه صار أنت الذي تتمنى.

حين سرقت إحدى صديقات المدرسة لوحتي التي رسمتها، حزنت. رأيتها تستولي على حياتي، موهبتي، وحاكمتها في قلبي. يومها تركت الرسم إلى الأبد. الأسوأ من هذا أنني ذهبت إلى موظفة شؤون الطلبة وغيّرت مادة المستوى الرفيع من الرسم إلى التدبير المنزلي. هكذا ببساطة، عاقبت نفسي، جعلت الأذى حيلتي لأتعلم وألملم شتات هلعي وخيبتي. لم أعرف إلى الآن لماذا بالغت في ردّة فعلي، هل بسبب لوحة قسوت على نفسي وأنكرت حقي في ممارسة الرسم، أم بسبب خيانة الصديقة، أم لأنني خفت أن تُسرق إحدى حيواتي؛ فاللوحة أيضاً كانت لفتاة تشبهني إلى حد ما؟

بمرور الوقت، لأتعايش مع الألم، أنكرت أنني أخطأت في قسوتي، لأن تكاليف الرسم كانت فوق طاقتي مادياً، ولن أستطيع الوفاء بطلبات مادة الرسم من كرّاسة وأقلام مخصّصة. كان هذا الإنكار حيلتي لأهرب من الشعور بخذلان المقرّبين وهشاشتي في التعامل مع المواقف المؤلمة. لذلك مرّنت نفسي على توقع الخيانة كأنها سلوك معتاد، مع عدم رفع سقف المحبة من الآخرين تجاهي، بل عدم انتظار أي شيء منهم، ما لم تكن طعنة في الظهر.

الدرس السادس: لا تدعُ علم النفس إلى طاولتك

ماذا فعلت لأهرب من الحقيقة سوى إنكار حدوثها، بل الإقرار بعدم حدوثها مطلقاً، وتجنّب وقعها الدامي في رأسي، واستبعاد هذا النزف المرير من سجلات حياتي؟

كنت أقف بمجذافي، وأتطلع إلى حياتي وهي تطفو بعيداً، قارب مهجور، يحمل صرخاتي وكل ذكرياتي السيئة؛ لذلك نجحت في تخطي الكثير من الآلام وتركتها تستغيث خلفي، بلا أمل أن أعيرها نظرة أو أهديها شفقة، كفعل اعتيادي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image