حين سمعت أغنيةً أفغانيةً للمرة الأولى في حياتي، لم أكن أعرف عن أفغانستان الكثير، إلا أني أعرف طالبان وقرأت عنها كثيراً في طفولتي، لأن الجماعات الإسلامية في غزة كانت توزع منشورات ومجلات تشرح فيها عن طالبان. لم أتفق معهم يوماً. وفي الحقيقة أني لم ألتقِ بأفغانيّ في حياتي لانعدام حصولي على فرصة للّقاء بهم حين كنت في غزة، لكني حين سافرت إلى خارج غزة قابلت الكثير من الأفغانيين والأفغانيات ومنهم من درس معي اللغة الهولندية في بلجيكا. وفي أحد الدروس، كان الطلاب يشغّلون أغنيةً تعبّر عن ثقافاتهم وجنسيتهم كنوع من التبادل الثقافي بين الطلاب الذين قدِموا إلى بلجيكا للحصول على اللجوء والأمان وهرباً من بطش أنظمتهم ومن مناطق الحرب. تعرفنا على الكثير من الثقافات السورية والأوكرانية والإيرانية والكردية والأفغانية والفلسطينية. لكني توقفت عند الأغنية الأفغانية كونها كانت أول مرة في حياتي أستمع فيها إلى موسيقى من أفغانستان. وجدت تقارباً كبيراً في نوع الموسيقى والآلات الموسيقية المستخدمة فيها وحتى في الرقص الأفغاني الذي يشبه كثيراً رقصنا العربي.
حين سمعت أغنيةً أفغانيةً للمرة الأولى في حياتي، لم أكن أعرف عن أفغانستان الكثير، إلا أني أعرف طالبان وقرأت عنها كثيراً في طفولتي، لأن الجماعات الإسلامية في غزة كانت توزع منشورات ومجلات تشرح فيها عن طالبان
لم أتأثر في حياتي بأغنية كهذه الأغنية التي حملت اسم "Baa Namak - Aryana Sayeed"، فبينما كنت أستمع إلى الأغنية، تذكرت الفتيات في كابل وهن يخرجن في مظاهرة ضد حركة طالبان ويطالبن بحقهن في التعليم وحريتهن. بدأت بالبحث عبر الإنترنت عن المزيد من الموسيقى الأفغانية والتاريخ الموسيقي التراثي التقليدي لأفغانستان، فصدمني هذا الكم الهائل من التنوع والجمال والقداسة في الثقافة الأفغانية، وجلست أتخيل لماذا يحاول أحدهم أن يهدم هذا الصوت وهذه الموسيقى وأن يحذف هذه الثقافة المتنوعة من الوجود؟ شعرت بالأسف والحزن لأني لم أمتلك فرصةً للتعرف بشكل أكبر على المجتمع الأفغاني وثقافته التي لم تصل إلينا. لم تصل إلينا سوى قذارة طالبان وتطرفها وبشاعتها.
صوت متماهٍ مع الديكتاتورية والتوحش
يبدو مفهوماً ضمنياً أن الشعب الفلسطيني كغيره من شعوب العالم، يختلف الناس فيه حول القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وأيضاً حول القضايا الدولية والإقليمية خاصةً. يتجاذب الناس ويصطفون في معسكرات سياسية متنوعة وفقاً لتقارب الأفكار والقناعات والرغبات، ومنهم من يميل إلى اليسار وبعضهم إلى اليمين. وهذا التنوع في الأنظمة الديمقراطية يفرز تنوعاً وتعدداً يؤديان إلى التقدم والتغيير المستمر، فلا ثابت في السياسة. وفي السياق الفلسطيني يوجد عندنا هذا التنوع وأحياناً الفرز الحاد بين القناعات السياسية والفكرية والآراء الثقافية والانحيازات الأيديولوجية. ويبدو ذلك طبيعياً ومهماً، إلا أن ثمة صوتاً ينادي بغير الطبيعي في المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية الأخرى، وهو الصوت الذي يحفر عميقاً في تأييد حركة طالبان المتطرفة تحت مبررات التقارب الديني، وتأييد النظام الايراني الرجعي تحت مبررات مقاومة إسرائيل.
وعلى الرغم من أن هذا الصوت ليس كبيراً، وليس مؤثراً، لكنه موجود وبدأ يأخذ مساحته الكبيرة في الفضاء العام، خاصةً على مستوى النقاش السياسي الداخلي في فلسطين. وهذا الصوت بالضرورة لا يشبه الشعب الفلسطيني الذي يقاتل يومياً في كافة مناحي الحياة من أجل التحرر والانعتاق من الاحتلال الإسرائيلي.
إلا أن ثمة صوتاً ينادي بغير الطبيعي في المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية الأخرى، وهو الصوت الذي يحفر عميقاً في تأييد حركة طالبان المتطرفة تحت مبررات التقارب الديني، وتأييد النظام الايراني الرجعي تحت مبررات مقاومة إسرائيل
وهذه ليست قصتي أنا فقط، ولا قصة من أعرفهم، بل قصة الفلسطينيين كلهم في الداخل والشتات. كفلسطيني عاش حياته تحت الحصار الإسرائيلي في غزة وتحت ممارسات حكم سياسي برجعية إسلامية، أفهم تماماً وأشعر بالشعوب الأخرى التي تعاني يومياً من سطوة وسلطة رجل الدين والأنظمة العسكرية المتفردة بالحكم في الدول المجاورة لنا وفي العالم. ولكن كثيرين من الشباب، ومنهم أنا، لا نعرف الكثير عن المجتمعين الأفغاني والإيراني ولم نزرهما من قبل ولم نقابل أحداً منهما من قبل بسبب حبسنا الطويل في غزة، وكل معرفتنا عنهم تشكلت فقط من التلفزة ومن الإنترنت.
انعدام التواصل الفيزيائي مع الشعوب الأخرى أبعدنا قليلاً عن الاحتكاك مع قضاياهم الداخلية والسياسية وحتى صراعاتهم الفكرية ونقاشاتهم اليومية.
انعدام التواصل الفيزيائي مع الشعوب الأخرى أبعدنا قليلاً عن الاحتكاك مع قضاياهم الداخلية والسياسية وحتى صراعاتهم الفكرية ونقاشاتهم اليومية. إلا أن ثمة جيلاً تأثر وما زال بالصحوة الاسلامية بعد الثورة الإيرانية إبان تسعينيات القرن الماضي، ويتشبع بأفكار المظلومية وضرورة فرض الدين كنظام حكم أساس وقانون يومي للناس وأيضاً محاربة كل أنماط الحياة المخالفة للشريعة الإسلامية، إلا أن هذا التوجه وهذا الصوت يتناسيان عمداً وقصداً أن ثقافتهم هذه دخيلة على المجتمعات العربية المتنوعة والمتعددة الأديان والطوائف والأفكار والتوجهات الفكرية والأيديولوجية وحتى الطبقية، وأيضاً المتنوعة في ثقافاتها المحلية والعائلية ولا يمكن لصوت واحد أن يسود لأنه سيبدو صوتاً ورأياً وتوجهاً متطرفاً وديكتاتورياً كما هو في الحقيقة.
لكن هذا الجيل معبّأ أيضاً بمظلومية القضية الفلسطينية والاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، ولعب دوراً في تزييف الحقائق وجعل الأسلمة حلاً وحيداً ومحقاً لمواجهة الاستعمار الخارجي برغم أن الإسلاميين جاؤوا متأخرين في مسيرة النضال العربية والفلسطينية خاصةً.
إلا أن أصواتاً كثيرةً في المجتمع الفلسطيني بدأت تفرّق جيداً بين الانعتاق من الاحتلال الخارجي والنضال الاجتماعي المشترك القائم على الوحدة الوطنية وبين الاحتلال الداخلي القادم من جهات من المجتمع نفسه. طالبان بسياساتها الرجعية المتخلّفة والديكتاتورية القائمة على المنع والحظر وإسكات الرأي الأخر وفرض الأفكار الإسلامية على المجتمع، لا يمكن أن تؤدي إلى تحرر المجتمع وتقدّمه ولا حتى الاستقلال بالسيادة الوطنية. ولا يمكن للنظام الإيراني الذي يفرض أفكاره بالقوة وبالسلطة وبالدم على الإيرانيين أن يلعب دوراً محورياً في التحرر من الاستعمار لأنه في توصيف السياسة استعمار بحد ذاته. تلعب طالبان والنظام الإيراني ومعهم الجماعات الاسلامية في فلسطين ولبنان وسوريا، دوراً سيئاً في الإحلال الثقافي. فهم يحاولون تغيير ثقافة المجتمع وهويته وإحلال ثقافة بديلة منها وهي ثقافتهم الضيقة وأفكارهم الخاصة ونشرها وفرضها كأنها حقيقة وصواب، وهذا هو صلب التسلط والديكتاتورية والتفرد والتجبر.
كفلسطيني عاش حياته تحت الحصار الإسرائيلي في غزة وتحت ممارسات حكم سياسي برجعية إسلامية، أفهم تماماً وأشعر بالشعوب الأخرى التي تعاني يومياً من سطوة وسلطة رجل الدين والأنظمة العسكرية المتفردة بالحكم في الدول المجاورة لنا وفي العالم
في السياق الفلسطيني، تشبه حماس في سلوكها إلى حد كبير السلوك الطالباني والنظام الايراني في فرض الأفكار، فهي لا تترك فرصةً إلا وتنتهزها في نشر الأفكار الإسلامية في المجتمع، والقادمة من أيديولوجيتها المنساقة تماماً وراء حركة الإخوان المسلمين، ولطالما فرضت حماس على الفضاء العام أفكارها بالقوة، مثل منع الاختلاط في المساحات العامة وفرض الحجاب في مدارس البنات والفصل بين الجنسين في المدارس وإجبار المحاميات على ارتداء الحجاب، وأيضاً التدخّل في كل الفعاليات الثقافية والموسيقية العامة ومنع وحظر معظمها. وبهذا حولت المجتمع إلى مرآة واحدة، وأجبرته على ألا يتفاعل إلا مع الأفكار الصادرة منها ومن أيديولوجيتها، وهذا ما نجحت فيه حماس حين حوّلت كل هذه الاختلافات في المجتمع، على المستوى الثقافي والاجتماعي والفكري، إلى أفكار ضد الدين والعادات المجتمعية وهذا هو سلاحها في المنع.
كما أنها أعطت سلطةً ضخمةً للمساجد ودور العبادة الإسلامية لتلعب دوراً كبيراً في التنظير الإسلامي للأفكار الحمساوية في المجتمع. وبرغم أن الغزّيين يعانون في كافة مناحي الحياة من السياسات الاحتلالية الإسرائيلية المتمثلة في الحروب والحصار المستمر حتى الآن، إلا أنهم يعانون داخل الحصار أيضاً من حصار آخر متمثل في سياسات حماس بالأدلجة والمنع والحظر وإغلاق المسرح والسينما واعتقال أصحاب الرأي والفكر وتقييد الثقافة والمعرفة والعمل السياسي الشبابي والجامعي، كما أنها تحاول أن تحتكر الخطاب الوطني نفسه في تعريف القضية الفلسطينية.
في السياق الفلسطيني، تشبه حماس في سلوكها إلى حد كبير السلوك الطالباني والنظام الايراني في فرض الأفكار.
كيف يمكن لفلسطيني ألا يدعم حرية الإيرانيين والأفغان؟
في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، شاركت وزوجتي في مظاهرة إيرانية تضامناً وتعزيةً بالراحلة الفتاة الإيرانية مهسا (جينا) أميني، في مدينة غينت في بلجيكا. لم أكن أفهم معظم الشعارات التي قيلت باللغة الفارسية، ولكني شعرت بألمهم وغضبهم وفقدانهم فتاةً قتلها النظام الايراني لأنها لا ترتدي الحجاب على رأسها، وأيضاً لكل المناضلات اللواتي قتلهن النظام في المظاهرات المطالبة بحرية النساء.
تساءلت بيني وبين نفسي: لماذا يمكن أن يدعم أحدهم في فلسطين هذا النظام المتوحش ويقف ضد هؤلاء الضحايا والمظلومين؟ إنهم مثلنا تماماً، ويرزحون تحت آلة القتل اليومية مثلنا، ويتشاركون معنا في المعاناة والحلم بعيش حياة حرة مستقلة كريمة. لماذا يمكن أن يدعم أحدهم نظام الخميني؟
مؤخراً، ومع المظاهرات الإيرانية ضد نظام الخميني والسياسات الطالبانية ضد منع تعليم الفتيات وإغلاق كل المراكز التعليمية والثقافية وفرض سلوك واحد على المجتمع، ظهر صوت فلسطيني كبير ومهم ينادي بتأييد حقوق هذه الشعوب في الحرية والتحرر من الأدلجة السياسية التي تفرضها عليهم شعوبهم، وهذا الصوت يعلن التضامن مع هذه الشعوب بشكل واضح وعلني. فحياة النساء في إيران تهمّنا كفلسطينيين، وبنات أفغانستان المحرومات من الحرية والتعليم وحرية الرأي والعمل والمساواة تهمنا حياتهن كفلسطينيين، وكل شعوب العالم ومنطقتنا في الشرق الأوسط تهمنا قضاياهم ونتضامن معهم.
وعلى الرغم من أن هذا الصوت الفلسطيني المتضامن مع الشعوب ضد أنظمتها يواجه تحريضاً كبيراً واتهامات بالانسياق وراء التوجهات الغربية والأوروبية في فلسفة الحرية، إلا أن هذا الهجوم يبدو سخيفاً في تفكيكه. الشعب الأفغاني يملك ثقافةً غزيرةً وتاريخاً عريقاً وطويلاً في محاربة الاستعمار ومحاولات التحرر من الظلم والديكتاتورية، وكذلك الشعب الإيراني والشعب السوري والشعب اللبناني والتونسي والمصري والمجتمعات الإفريقية أيضاً، ولم تبدأ هذه الشعوب بمحاربة الاستعمار مع قدوم الإسلاميين ولا حتى مع أصحاب الفكر الإسلامي. بل هناك من يحاول تجهيل هذه الشعوب وجعلها في مؤخرة الأمم ويحاول أن يهدم ويحذف تاريخها وثقافتها بوضعها في خانة العبودية.
لماذا يمكن أن يدعم أحدهم في فلسطين هذا النظام المتوحش ويقف ضد هؤلاء الضحايا والمظلومين؟ إنهم مثلنا تماماً، ويرزحون تحت آلة القتل اليومية مثلنا، ويتشاركون معنا في المعاناة والحلم بعيش حياة حرة مستقلة كريمة. لماذا يمكن أن يدعم أحدهم نظام الخميني؟
وهذا الصوت التضامني مع الأفغان والإيرانيين، هو باب للتواصل الثقافي بيننا كفلسطينيين تحت الاحتلال وبينهم كشعوب واقعة تحت جبروت الأنظمة الرجعية الإسلامية، فقضيتي كفلسطيني ليست أهم من قضاياهم ولا هم قضيتهم أهم من قضيتي. نتشارك معاً في المعاناة والرغبة في التحرر من الظلم والاستبداد والاحتلال ونحلم بعيش حياة آمنة في دولنا ومجتمعاتنا التي تمتلك ثقافةً وتاريخاً وحضارةً عظيمةً وتنوعاً وتعدداً يمكن أن تبني مجتمعاً وإقليماً قويين ومتقدمين.
بالعودة إلى الصوت الفلسطيني الذي يؤيد هذه الأنظمة الإسلامية الرجعية، بدعوى أنهم يدّعون القضية الفلسطينية، هل تقبل أن يدعمك نظام يفرض الحجاب على النساء، ويقتل المتظاهرين، ويكتم أصوات المفكرين والمثقفين والمسرحيين والموسيقيين؟ هل تقبل أن يدعمك ويدعم قضيتك نظام يمنع الفتيات من الحق في التعليم والعمل والرأي والمساواة؟ والسؤال أيضاً إلى كل الفلسطينيين الذين يرغبون في خلق تضامن شعبي عالمي وإقليمي مع قضيتهم: كيف تريد لمظلوم تدعم أنت جلّاده أن يدعمك؟ وكيف تريد لمن تدعم جلّادهم أن يؤمنوا بحريتك وقضيتك؟ هذه أسئلة مفتوحة للصوت الفلسطيني الذي يدعم هذه الأنظمة الرجعية.
من فلسطين وكفلسطيني أتضامن علناً وبكل وضوح مع الأفغان والإيرانيين والسوريين والمصريين وكل شعوب العالم والمنطقة؛ معهم، ومع حقوقهم، وأدافع معهم عن الحق في الحياة الكريمة الآمنة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...