شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ما علّمني إياه الإيرانيون عن الخوف

ما علّمني إياه الإيرانيون عن الخوف

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

What Iranians Taught Me About Fear

عندما سألت والدي عما إذا كان يحب المكان هنا، أجاب بقصة: "قبل بضع سنوات، حين كنت أمشي عبر قنوات المياه في أمستردام، رأيت زوجين شابين، خمسة عشر عاماً، أو ستة عشر ربما، يقفان على الجسر، بجانب دراجة هوائية. كانا يتعانقان بشكل مريح، بالإضافة إلى تقبيل أحدهما الآخر في بعض الأحيان. فهمت الأمر عندها؛ هذان المراهقان ليسا خائفين، لا من الجيران الذين يمكن أن يعاقبوهما، ولا من الشرطة في الشارع وهراواتهم، أو الكاهن أو الإمام، أو مدير المدرسة. والأهم من ذلك كله، أنهما لم يكونا خائفَين من بعضهما البعض، أو من نفسيهما. في ذلك اليوم أدركت أنني اتخذت قراراً جيداً بالمغادرة. أنا سعيد لأن أطفالي يكبرون هنا".

إذا كان الخوف هو ما يجعل شخصاً ما يقظاً، وينقذ حياة أشخاص مثل والدي، فهو أيضاً أهم أداة لأولئك الذين يدفعوننا إلى الأسفل. 

عرف والدي الخوف بشكل وثيق. أنقذه الخوف مرات عديدة. في السنوات التي أعقبت الثورة في إيران، عرف أن التعرّف إليه في الفضاءات العامّة، قد يكلّفه حياته. لقد تعلم أن يمسك بي، طفلاً رضيعاً، ويضعني أمام وجهه بطريقة لا يمكنك رؤيته فيها. حتى شقيقه رآه ذات مرة في الشارع، ليختفي منه بعد لحظات، قبل أن يصرخ: "يا علي، هنا!".

بالطبع ، الخوف لم يتركه أبداً. علمت أنه حتى في أمان أمستردام لم يتمكن من مساعدة نفسه. كان يجلس في البار وظهره إلى الباب أو النوافذ، كي لا يتعرف إليه أحد. لكنه كان دائماً يراقب من خلال مرآة مخفية، أو الشبابيك أو بعض الأسطح العاكسة. كانت جميعها تسمح له بمراقبة من سيدخل إلى البار. في الليل، تعلّمت تجنّب صرير الألواح الخشبية في منزلنا، لأني أدركت أن أخفّ الأصوات ستجعله يقظاً.

عندما كنت طفلاً، اعتقدت أن عدم وجود هذا الخوف جعلني غبياً. عندما اتصلت جدتي المتديّنة بنا، لم أحرس لساني كما ينبغي. "ماما؟ لقد خرجت إلى حمام السباحة مع أخي"؛ قلت لها. أردت أن تعرف جدتي أننا سعداء هنا. بأدب كانت تنهي المحادثة، لتعاود الاتصال في وقت لاحق في المساء. بعدها، كانت والدتي توبخني. "انتبه سهند. ألا تعلم أن السباحة في الأماكن العامة حرام؟ عندما اتصلت جدتك من جديد، كان عليّ أن أكذب وأخبرها بأنني ذهبت إلى حمام سباحة مغلق لم يكن يُسمح إلا للنساء والأطفال الصغار بالدخول إليه".

بالطبع ، الخوف لم يترك والدي أبداً. علمت أنه حتى في أمان أمستردام لم يتمكن من مساعدة نفسه. كان يجلس في البار وظهره إلى الباب أو النوافذ، كي لا يتعرف إليه أحد. لكنه كان دائماً يراقب من خلال مرآة مخفية، أو الشبابيك أو بعض الأسطح العاكسة. كانت جميعها تسمح له بمراقبة من سيدخل إلى البار

إذا كان الخوف هو ما يجعل شخصاً ما يقظاً، وينقذ حياة أشخاص مثل والدي، فهو أيضاً أهم أداة لأولئك الذين يدفعوننا إلى الأسفل. في المدرسة التي في بلدك، لم تكن تجيب عن سؤال المعلم خوفاً من التعرض للصفع، أو الأسوأ من ذلك؛ احتمال ألا تنهي تعليمك. كان الاحتجاج في العمل يعني خطر فقدان الوظيفة والدخل، وتجويع الأطفال. كان من المستحيل السيطرة على الجميع، ولكن عندما لا تعرف متى يحين دور القبض عليك، أو ماذا يعرفون عنك، أو ماذا سيحدث لو تجرأت على قول شيء ما، فإن الخوف سيبقيك واقفاً في الطابور، تماماً كما تفعل بك البنادق والهراوات.

لطالما شعرت بالغيرة من الأشخاص الذين حاربوا عدواً خارج أنفسهم.

قال لي صديق عزيز عاد إلى إيران بعد بضع سنوات من الغياب، وبعد أن تم إيقافه في المطار، إنهم طلبوا منه أكثر الطلبات رعباً: "اكتب ما فعلته. افترض أننا نعرف كل شيء. إذا لم تكتب شيئاً واحداً، نعلم أن حياتك قد انتهت".

لطالما شعرت بالغيرة من الأشخاص الذين حاربوا عدواً خارج أنفسهم. ألقى الشيعة في العراق باللوم على السنّة في كل الشرور في بلدهم، وألقى السنّة اللوم على الشيعة، كما فعل الهندوس والمسلمون في الهند، تماماً مثلما اتحدوا في السابق في الخوف من الإنكليز ومقاتلتهم على حدٍّ سواء. حارب الفلسطينيون اضطهاد اليهود لهم، وخاف اليهود من العرب وبقية العالم. كانت كل المعارك والمعاناة والوفيات حقيقيةً مثل معاناتنا. لكن بدا الأمر وكأنه لطف في لحظة راحة، وكأن المرء كان آمناً في أحضان مجتمعاته. العائلات تعني الأمان، والمجتمع يعني الراحة. ستستمر المعركة غداً، لكنني سأضع رأسي هذه الليلة على حضنك.

ما علّمني إياه الإيرانيون عن الخوف، هو أنه حتى مجتمعاتنا لم تكن تعني الأمان. لو تم القبض على والدي، وهو يدخن ويشرب وملحد، وتم قتله، كنت سأعيش مع حقيقة أن بعضاً من إخوة والدتي سيحتفلون سرّاً بموت كافر آخر، حتى لو كان ذلك سيكسر قلب أمي. عندما أُعدموا الناشطين السياسيين الإيرانيين، ألم يكن القتلة كلهم إيرانيين أيضاً؟ الجيران؟ أصدقاء سابقين؟ أقارب؟

نعم، شعرت بالغيرة من أصدقائي الفلسطينيين الذين على ما يبدو ليس لديهم هذا الخوف الداخلي، وذلك كلما تحدثوا علناً عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي عن الاضطهاد الإسرائيلي. لكن فقط الآن، وبعد أن أصبحت أباً لابنتين فلسطينيتين، عرفت أنه ما من مجتمع حرّ من هذا الخوف

إنه لأمر العجيب أن الإيرانيين الذين يكتبون عن الجرائم التي شاهدوها، ما زالوا يفعلون ذلك. ليس من المستغرب أن يختار العديد من الآخرين ألا يكتبوا عن ذلك. لم أغضب من صديقي العزيز عندما توقف عن الكتابة عن الاضطهاد في إيران. "هل تعرف ماذا تعني لي عدم القدرة على العودة؟ ألا أرى والدي؟ وحتى لو قررت عدم العودة، فلدي أقارب بقوا هناك وسوف يعانون". هكذا تدّعي الحكومة الإيرانية حتى يومنا هذا؛ تزعم بأنها لا تملك معارضةً حقيقيةً، فقط بضعة آلاف من الأشخاص الصاخبين في الشتات، المحرضين المأجورين الذين يؤلفون القصص بحسابات مجهولة.

نعم، شعرت بالغيرة من أصدقائي الفلسطينيين الذين على ما يبدو ليس لديهم هذا الخوف الداخلي، وذلك كلما تحدثوا علناً عبر حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي عن الاضطهاد الإسرائيلي. لكن فقط الآن، وبعد أن أصبحت أباً لابنتين فلسطينيتين، عرفت أنه ما من مجتمع حرّ من هذا الخوف. ربما يكون متجذراً بشكل أعمق في شعب لم يكن بحاجة إلى مواجهته بعد. طالما أننا نحارب العدو الخارجي الذي أمامنا، فنحن غير مضطرين إلى أن ننظر إلى العدو الداخلي، لأنه من المحتمل أن يكسرنا اكتشاف أن لهذا العدو وجهاً كأمهاتنا، وآبائنا وأقاربنا.

 ربما يكون الخوف متجذراً بشكل أعمق في شعب لم يكن بحاجة إلى مواجهته بعد. طالما أننا نحارب العدو الخارجي الذي أمامنا، فنحن غير مضطرين إلى أن ننظر إلى العدو الداخلي، لأنه من المحتمل أن يكسرنا اكتشاف أن لهذا العدو وجهاً كأمهاتنا، وآبائنا وأقاربنا

عندما أُلغيت حفلةً موسيقيةً في فلسطين قبل بضعة أسابيع بسبب تنمّر البلطجية، كما تعرّض ناشط سياسي بارز لمضايقات شديدة بسبب افتراض دعمه لحقوق المثليين/ ات جنسياً، كانت غريزتي الأولى غير الخائفة تدعوني للكتابة عن هذا. نعرف أسماء الضحايا. نعلم من هم المتنمرون، ومن هم آباؤهم والأحزاب السياسية التي ينتمون إليها. عندها ظهر خوف فلسطيني، يشبه مخاوف إيرانيةً عديدةً أعرفها؛ لا تذكر الأسماء، لا أسماء الضحايا ولا من فعل ذلك. هل يمكننا أن نذكر الحزب على الأقل؟ هل سنتظاهر بأن حماس لم تكن هي التي اعتدت على الفلسطينيين العاديين في ذلك الحدث؟ وفتح في حدث آخر؟ حسناً، ولكن هذا أقصى ما يمكن أن نقوله. لديك أقارب هناك الآن. هم بحاجة إلى العيش هناك. هؤلاء جيرانهم. نكرر هذه المانترا؛ تحاول فتاة الآن الخروج بموعد عاطفي وتخاف من عائلتها، ويصلّي شاب مثلي الجنس من أجل "الشفاء"، وهو يعلم أن هذا لا يحدث، وفي يوم من الأيام سيضطر إلى توديع البيوت التي أحبّها.

لكن الرجال والنساء سوف يتحدثون في هذا المجتمع. والخوف الذي يجعلهم يعانون اليوم سينقذ حياتهم مراراً وتكراراً. وعندما ينجون، إما في مجتمع حرّ، أو في الغربة، أو في المنفى مثل والديّ، سيشربون كأساً مع هذا الخوف، وسيكونون شاكرين لأن هذا الخوف سيتوقف عندهم ولن ينتقل إلى أطفالهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

معيارنا الوحيد: الحقيقة

الاحتكام إلى المنطق الرجعيّ أو "الآمن"، هو جلّ ما تُريده وسائل الإعلام التقليدية. فمصلحتها تكمن في "لململة الفضيحة"، لتحصين قوى الأمر الواقع. هذا يُنافي الهدف الجوهريّ للصحافة والإعلام في تزويد الناس بالحقائق لاتخاذ القرارات والمواقف الصحيحة.

وهنا يأتي دورنا في أن نولّد أفكاراً خلّاقةً ونقديّةً ووجهات نظرٍ متباينةً، تُمهّد لبناء مجتمعٍ تكون فيه الحقيقة المعيار الوحيد.

Website by WhiteBeard
Popup Image