أصدرت وزارة الإعلام السورية، في آذار/ مارس عام 2020، قراراً علَّقت من خلاله إصدار الصحف الورقية الحكومية والخاصة حتى إشعار آخر، وذلك "ضمن الإجراءات الحكومية الاحترازية للتصدّي لفيروس كورونا، وفي إطار الخطوات الاستباقية للحفاظ على الصحة العامة، بالإضافة إلى مسألة الالتزام بقرار الحكومة وقف النقل بين المحافظات وأثره على عمليات التوزيع"، حسب ما ذكرت وكالة سانا.
وبالرغم من اقتراب عمر ذاك القرار من الثلاث سنوات، إلا أنه لا مؤشرات حتى الآن على إيقاف العمل به، برغم أن متابعة المواقع الإلكترونية لتلك الصحف باتت في أدنى مستوياتها، ولا يتجاوز التفاعل مع الأخبار والمقالات التي تنشرها اللايكات العشرة في كثير من الأحوال، لكن على ما يبدو، الحكومة استساغت الوفورات المادية من وراء ذاك القرار، فلا شراء للورق والحبر بالعملة الصعبة، ولا مصاريف زائدة على بلاكات الطباعة وصيانة الآلات وغير ذلك.
هذا الوضع جعل مُحبِّي قراءة الصحف الورقية، الذين اعتادوا طوال سنوات على تقليب صفحاتها في المنزل أو المقهى أو أماكن العمل، مجبرين على تغيير عاداتهم، خاصةً أنه لا بدائل متوفرةً، وذلك مع إيقاف استقبال الصحف العربية بقرارات غير معلنة، لمحتواها الذي لا يتوافق مع توجهات الحكومة من جهة، وثانياً لانعدام قدرة المواطن السوري الغارق في تأمين متطلباته الحياتية الأساسية، على صرف مبلغ ليس بالقليل على شراء صحيفة عربية بحكم تدنّي القوة الشرائية للّيرة مقابل الدولار.
أصدرت وزارة الإعلام السورية، في آذار/ مارس عام 2020، قراراً علَّقت من خلاله إصدار الصحف الورقية الحكومية والخاصة حتى إشعار آخر
كل ذلك فتح باب الحنين واسعاً أمام من اعتاد على قراءة التحليلات السياسية والاقتصادية، ومتابعة أخبار العالم، والاطلاع على خريطة الفعاليات الثقافية والفنية والرياضية وغيرها من خلال الصحف الورقية، بحيث أن بعض السوريين الشغوفين بذاك النوع من القراءة، ما زالوا يطالبون بإلغاء قرار إيقاف طباعة الصحف، ويتهمون من يقف خلف استمراره بمجافاة الواقع، والخوف من الكلمة المطبوعة كونها وثيقةً دامغةً، وذلك أملاً باسترجاع القليل من وهج تلك العلاقة الحميمة مع ورق الصحيفة ومانشيتاتها وعناوينها الفرعية، وصورها، وتبويباتها المختلفة، وحتى كلماتها المتقاطعة وصفحات التسلية فيها.
شاركوني فرحتي
ذاك الحنين قادني في جلسة مع بعض الأصدقاء، إلى تذكُّر كيف مرَرْتُ بكشك بيع الصحف على بوابة كلية الحقوق في منطقة البرامكة في دمشق، وكان يوم أربعاء، لطلب صحيفة النور الأسبوعية التي تصدر عن الحزب الشيوعي، وما أن وصلت إلى الصفحة الثقافية فيها، ونظرت إلى أسفلها، حتى انتابني شعور بالحزن لعدم نشر مقالتي التي تتضمن تحليلاً عن مسرحية الغرماء لأوغست ستريندبيرغ، إلى جانب حوار مع المخرج المسرحي السوداني ياسر عبد اللطيف فيها، لكن ما أن هممت بإغلاق الجريدة حتى انتبهت إلى أن الصور في أعلى الصفحة هي من تلك المسرحية، لأكتشف أن مقالتي منشورة في المكان الأبرز، وكانت تلك أولى تجاربي مع النشر الورقي. حينها أحسست برغبة عارمة في أن أُعلِمَ جميع من في ذاك الشارع، المكتظ بالعابرين، بأن يشاركوني فرحتي ويقرأوا ما كتبت.
ولعل أجمل الحنين الذي أحمله متوقداً في قلبي عن الصحافة الورقية، كان بعد أن بدأت الكتابة في صحيفة تشرين كمستكتب، وكُلّما كان يُنشر لي مقال، أهاتف والدتي في حماه لتتصل بدورها بأحد الأقارب ليحتفظ لها بعدد من الجريدة، وما أن يوصلها إلى منزلنا، حتى تفتح على الصفحة الثقافية وكانت في الغالب الصفحة التاسعة، وتخبر والدي المريض آنذاك بأن لي مقالاً في الصفحة، وبنظره الذي شَحَّ بفعل مرض السكري إلى الحدود الدنيا، يُقرِّب الصفحة كثيراً إلى عينيه، وما أن يلمح اسمي الثلاثي تحت عنوان المقال، حتى يبدأ بتقبيلها بعينين دامعتين.
رائحة الحبر الساخن
كان الناقد السينمائي فاضل الكواكبي، على علاقة بالصحيفة الورقية مذ كان في الصف السادس، وكان يؤرشف ويقصقص المقالات وخاصةً ما له علاقة بالسينما، ويصنع لها دفاتر مع تعليقاته، ويحتفظ بمقالات وجد فيها شيئاً مهماً.
علاقتي بالصحيفة فيها شيء من الحميمية وشيء من المتعة الحسية، تُقارب تلك المتعة التي شعر بها تروتسكي بعدما نفاه ستالين إلى سيبيريا عندما كان يقرأ صحيفةً وأسماها "رائحة الحبر الساخن"
يقول لرصيف22: "كنت ألزم نفسي بقراءة جميع الصحف السورية، قبل أن تدخل الصحف الحزبية والخاصة، بالإضافة إلى الصحافة العربية كالحياة، والسفير، والأخبار وغيرها. فعلاقتي بالصحيفة فيها شيء من الحميمية وشيء من المتعة الحسية، تُقارب تلك المتعة التي شعر بها تروتسكي بعدما نفاه ستالين إلى سيبيريا عندما كان يقرأ صحيفةً وأسماها "رائحة الحبر الساخن" أو "الصحيفة الطازجة". هذا ينجم عن العلاقة التي تُبنى بين الصحيفة والإنسان على المستوى العقلي والحسي، وعلى مستوى الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى مستوى الإحساس بأن هناك علاقةً شخصيةً مع هذا الكيان الورقي".
برأيه، "الصحيفة شيء تحتاجه بشكل دائم، وبرغم أنه بانتهائك منها ينبغي أن ترميها لكن يعزّ عليك ذلك بسبب نشوء تلك العلاقة، فلا تستطيع أن تتخلى عنها بسهولة ككيان فيزيائي. ودليل ذلك أن هناك قصاصات صحف ومقالات أحتفظ بها حتى الآن، برغم صدور بعضها ضمن كتب باتت ضمن مكتبتي لمبدعين كبار مثل إدوارد سعيد، جورج طرابيشي، أدونيس، نزار قباني... إذ أجد صعوبةً بالغةً في أن أتخلى عنها".
ويوضح الكواكبي أن تلك العلاقة جعلته بعد نشر أول مقال له في السفير، يجلس في الحديقة العامة في حلب، متأمِّلاً اسمه لساعة من الزمن غير مصدِّق، ومن ذلك أيضاً الصداقة التي تربطه مع صاحب كشك بيع الصحف طانيوس أبو بسام بالقرب من سينما دمشق، الذي رفض جميع ضغوط أبنائه الأطباء بأن يغلق ذاك المحل الذي أسسه منذ أيام حسني الزعيم وحتى الآن، وباءت جميع محاولات إقناعهم إياه بالفشل.
شيء خطأ
يعتقد الكواكبي أن مقولة الحنين إلى الصحافة الورقية فيها شيء من المغالطة، ويبرر ذلك بأنك "تحنّ إلى شيء أُلغي من الحياة، أو أصبح غير مستعملٍ، بينما ليست هناك دولة في العالم ألغت الصحافة الورقية باستثناء سوريا، بما فيها دول الجوار والدول العربية والدول الأكثر تطوراً".
يقول: "في أوروبا أيضاً ليس هناك إلغاء للصحافة الورقية، وكمثال فنلندا التي لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين نسمة، تطبع الصحيفة الرئيسية في هيلسنكي 130 ألف نسخة، وفي فترة الإغلاق بسبب كورونا خُفِّضت منها عشرة آلاف نسخة فقامت القيامة، وتالياً هناك شيء خطأ بخصوص قرار إلغاء الصحافة الورقية في سوريا، بالرغم من عدم مصداقيتها بالنسبة للمواطن السوري لا سيما في الفترات الأخيرة، الذي بات لديه خلالها رد فعل وإحساس بعدم جدواها".
فنلندا التي لا يتجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين نسمة، تطبع الصحيفة الرئيسية في هيلسنكي 130 ألف نسخة
ويلفت الكواكبي إلى أن حجة انتقال الكورونا من خلال ورق الصحف التي قدّمها وزير الإعلام السوري السابق عماد سارة، واستمر بها الوزير الحالي بطرس حلاق، هي حجة كاذبة، قائلاً: "أوراق الصحف لا تنقل الفيروسات، ففي الحروب العالمية كانوا يلفون بها الأدوات الجراحية، لكن على ما يبدو هم يريدون أن يتخلصوا منها، وكأن من أخذ القرار أدرك أن القراءة الورقية تثبت في الدماغ أكثر من الإلكترونية، والمقالة الورقية تخلق فضاءً للتداول، بينما الإلكترونية تتطاير كالأثير".
ارتباط بالحبر
يقول الصحافي الاقتصادي زياد غصن، والذي ترأس تحرير صحيفة تشرين لسنوات عدة، واستلم منصب مدير عام مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر، في حديثه إلى رصيف22، إنه "لا يعرف الحنين إلى الصحيفة المطبوعة من الصحافيين، إلا من عاش أيام ازدهارها، وارتبط بحبرها، وكان يقف بجانب المخرج الفني وهو يضع مادته على ماكيت العدد اليومي، أو ينزل إلى المطبعة ليتابع عمليات الطباعة، ويكون أول من يشاهد النسخ الأولى من عدد اليوم، لا بل ينتابه فرح كبير عندما كانت مادته تجد طريقها إلى الصفحة الأولى".
يقول: "في الصحافة السورية، وتحديداً الرسمية منها، وبرغم كل الانتقادات التي كانت توجه إليها، إلا أنها كانت صاحبة الفضل في خبرة وشهرة كثر من الصحافيين على اختلاف مواقفهم السياسية اليوم. وأرشيف هذه الصحف يضم مجموعةً كبيرةً من التحقيقات والمقالات الصحافية الشجاعة والجريئة. وهذا يبدو أنه سبب آخر للحنين إلى الصحافة المطبوعة".
ويضيف: "مع اقتراب إكمال قرار إيقاف طباعة الصحف السورية لعامه الثالث، لم يستطع كثيرون، وأنا واحد منه، التأقلم مع هذا الغياب برغم سطوة وسائل الإعلام الجديدة وانتشارها وتحررها من كل القيود. وما يزيد من مرارة الغياب المطبوع هو توقف دخول الصحف والمجلات المطبوعة العربية إلى سوريا، إما لأسباب سياسية أو اقتصادية، لذلك دوماً وصيتي لأي صديق مسافر أن يحمل لي عند عودته بعض النسخ المطبوعة من صحف البلد الذي سافر إليه".
وداعاً للأكشاك
ولنعرف أكثر عما أصاب أصحاب أكشاك الصحف من جراء قرار تعليق إصدار الصحف الورقية، ذهبنا إلى كشك طانيوس أبو بسام، بجانب سينما سيتي لنراه مغلقاً، وعندما سألنا الجيران عن السبب، جاءنا الرد بأن وفاة ابن صاحب الكشك دهورت صحة طانيوس كثيراً ولم يعد قادراً على الاستمرار في عمله.
لجأنا إلى عادل عبد الله، الذي يبيع الصحف عند مدخل أحد الأبنية بجانب مقهى الروضة، فاسترجع معنا ذكرياته عن الفترة الذهبية كما يسميها، عندما كانت تأتي إلى سوريا جميع الصحف العربية إلى جانب المحلية، وكانت واجهته تزخر بما لذَّ وطاب للقارئ، مهما كانت انتماءاته واهتماماته، وذلك شكَّل، بحسب عادل، "حالةً فسيفسائيةً راقيةً في الإعلام، ونضوجاً فكرياً، نفتقده الآن أكثر من افتقادنا الصحف، إذ انكشفت عورة الأخلاق، لأن أصحاب الأموال القادرين على إصدار صحف ورقية اختبأوا وراء الحرب، واستغلوها كشماعة لعدم الاستثمار في الكلمة، بحيث لم تعد إلى الواجهة الآن سوى صحيفة أسبوعية ورقية واحدة هي بقعة ضوء التي يصدرها علي الراوي بمجهود فردي، وأخرى أسبوعية أيضاً تصدر عن دار البعث".
الإعلام الورقي بصمة للحقيقة لا أحد يشكك فيها،ووراء قرار الإلغاء ليس الوزير، بل من أوحى إليه بذلك، فهم أرادوا تدمير مفهوم الإعلام الحقيقي، وتخفيف تأثير الكلمة
ويستذكر عبد الله كيف كان العديد من الشخصيات الأدبية والثقافية المهمة يُعرِّجون عليه قبل الدخول إلى مقهى الروضة للحصول على بعض الصحف، ومنهم المسرحي السوري وليد مدفعي، والقاص وليد إخلاصي بغليونه العظيم، كما يقول، وعارف دليلة، ونبيل صالح، وخليل صويلح، وحكم البابا، وعادل حديدي رحمه الله، والعم ميشيل كيلو الذي أخبره في أحد الأيام من عام 2005، بأنه سيُعتقَل اليوم، وطلب منه أن يحتفظ له بصحيفة الحياة طوال فترة غيابه، وعندما خرج من السجن بعد شهرين، أعطاه الأعداد التي طلبها، ولم يكن معه ثمنها. دخل إلى مقهى الروضة، قلَّبها واطلع فيها على ما يريد، وبعد قليل أمَّن له ثمنها من أحد أصدقاء المقهى، ثم أعاد إليه الأعداد كلها.
برأيه، "الجريدة المطبوعة هي الركيزة الحقيقية للطمأنينة بسبب مصداقيتها، ومعرفة من ورائها، فالإعلام الورقي بصمة للحقيقة لا أحد يشكك فيها، بينما الإعلام الإلكتروني غير قادر على تحقيق تلك المصداقية، إذ يجعلك مُشكِّكاً دائماً في مصداقية الكاتب والجهة التي تبنّت الموضوع الذي يكتبه، ولذلك أعتقد أن وراء قرار الإلغاء ليس الوزير، بل من أوحى إليه بذلك، ولا أرى مبرراً له، سوى أنهم أرادوا تدمير مفهوم الإعلام الحقيقي، وتخفيف تأثير الكلمة، لكنهم في المقابل فتحوا الباب واسعاً للشائعات، خاصةً أن الصحافة المحلية، بما فيها الحزبية، محاصرة أساساً من الداخل، ولم يعد فيها أصحاب أقلام حقيقيون يدافعون عن كلمتهم، كما في السابق".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون