شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ثورة تحت عيون الـCIA... الوجود الفلسطيني في تونس بحسب وثائق المخابرات الأمريكية

ثورة تحت عيون الـCIA... الوجود الفلسطيني في تونس بحسب وثائق المخابرات الأمريكية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الجمعة 13 يناير 202309:16 ص

صباح 28 آب/ أغسطس 1982، احتشد الآلاف من سكان مدينة بنزرت، في أقصى الشمال التونسي، في الشوارع وعلى حواف الميناء ينتظرون وصول السفينة "سولفرين" قادمةً من اليونان وعلى ظهرها المئات من عناصر المقاومة الفلسطينية.

فقبل أيام، أبحرت السفينة من ميناء بيروت تحت حماية قوة متعددة الجنسيات، بعد ثلاثة أشهر من القتال المستمر والحصار الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية. ولم تكن المشاهد الحميمية التي بثتها وكالات الأنباء للحظة الخروج الفلسطيني من لبنان أقل ملحمية أو حميمية من لحظة دخول مقاتلي منظمة التحرير إلى تونس. كان المشهد ساحراً، لكل مَن عايشه.

في ظل حصار بيروت، تشكلت قناعة لدى ياسر عرفات بأن لبنان لم يعد المكان المناسب لإدارة الصراع مع إسرائيل، وربما قناعة أيضاً بأن الصراع المسلح مع إسرائيل لم يعد مجدياً. وكانت تونس الوجهة الجغرافية المُعبّرة عن هذه القناعة التي ستتحول لاحقاً إلى نهج سياسي.

في الوقت نفسه، كانت خيارات أبي عمار محدودةً. العودة إلى الأردن بعد ما جرى مطلع سبعينيات القرن الماضي كانت أمراً شبه مستحيل، والتوجه إلى دمشق في ظل استشعار رغبة جارفة من الرئيس السوري حافظ الأسد بالسيطرة على منظمة التحرير لم تكن خياراً مناسباً. كانت تونس خيار الضرورة، ولكنها في وجه آخر خيار الحرية بالنسبة إلى عرفات، فقد كان يسعى وراء مكان لا يتدخل أصحابه في ما يريد هو ومنظمته فعله.

في مقابلة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، نشرتها جريدة الحياة عام 1994، يقول أبو مازن: "كان عرفات يرى أن المسألة ليست مسألة جغرافيا وليست مسألة مسافة. أنا هنا ربما أملك قراري وأستطيع أن أفعل ما أريد، لكنني في دمشق لا أستطيع أن أملك قراري. وبالتالي، فحتى لو كنت على الحدود، لا قيمة لذلك ما دمت لا أمتلك قراري. وثبت لاحقاً أن هذا صحيح. القضية ليست قضية بُعد أو قرب، المهم أولاً أن تكون إرادتك حرة تستطيع أن تذهب من تونس في دورية إلى فلسطين لأنك تملك الحرية حيث تقيم، ولا تستطيع أن تذهب من الحدود المباشرة إذا كنت مقيماً فيها ومفتقراً القدرة على القرار".

ويشير أبو مازن إلى الوجهة التونسية بالقول: "أرسلت إلى أبي عمار ما مفاده بأن عليه أن يبحث عن مكان غير دمشق. وفي هذا الوقت بالذات، جاءتنا رسالة من الرئيس [التونسي] الحبيب بورقيبة، وكانت من شقين: الأول، شيك بخمسة ملايين دولار مساعدة للفلسطينيين، والثاني دعوة رسمية من الحكومة التونسية لكلّ القيادات الفلسطينية وكوادرها لكي تأتي إلى تونس إذا رغبت. كان الأمر بمثابة منجاة. أرسلت إلى أبي عمار أقول له: جاءك الفرج وتستطيع أن تذهب أنت وقيادتك إلى تونس. والحقيقة أنها كانت مبادرة تونسية لا يمكن نسيانها".

وبقدر ما كانت المبادرة تونسية طيّبة في ظاهرها، غير أنها لم تكن بمعزل عن دعم أمريكي، يستند إلى ارتباط النظام التونسي الحاكم بالولايات المتحدة على نحو قوي في ذلك الوقت، خاصة إذا ما صدّقنا شهادات متطابقة لقيادات فلسطينية تؤكد أن مبعوث الرئيس الأمريكي، رونالد ريغان، فيليب حبيب إلى لبنان هو مَن اقترح تونس على الجانب الفلسطيني.

كانت واشنطن تريد التخلص من صداع مزمن بالنسبة لها ولحليفها الإسرائيلي اسمه "منظمة التحرير الفلسطينية"، فقد كان الوجود العسكري الفلسطيني ضمن دول الطوق شرارةً يمكن أن تسبب حريقاً في أي لحظة، وليس لها من مُطفئ سوى إبعادها عن الموقد الإسرائيلي. ورغم إبعاد المنظمة عن إسرائيل، إلا أن الولايات المتحدة بقية مستيقظةً. فلم تكف المخابرات المركزية الأمريكية عن ملاحقة الوجود الفلسطيني في تونس منذ اللحظة الأولى لوصول سفن المقاتلين إلى الموانئ عام 1982 وحتى لحظة العودة إلى جزء من الوطن في عام 1994، وهو ما يكشفه عدد من الوثائق التي رفعت عنها الوكالة الأمريكية السرية، كلياً أو جزئياً، في إطار قانون حرية المعلومات.

حرب لم تنتهِ

خلال عملية الخروج من بيروت، توزعت المجموعات الفلسطينية على أكثر من بلد. قيادة منظمة التحرير وجزء كبير من الكادر السياسي والإعلامي والمالي استقر في تونس إلى جانب حوالي 800 عنصر من المقاتلين لا يحملون سوى الأسلحة الخفيفة. أما أغلبية المقاتلين فقد توزعوا على معسكرات المنظمة في اليمن الجنوبي واليمن الشمالي والسودان وسوريا.

في هذا السياق، اشتغلت محطات المخابرات الأمريكية في هذه المناطق على إعداد تقارير تحدد فيها مواقع المقاتلين الجديدة وعددهم وأنواع الأسلحة التي بحوزتهم. في وثيقة بعنوان "تحديد موقع معسكر منظمة التحرير الفلسطينية بوادي الزرقاء"، أُرسلت بتاريخ 17 أيلول/ سبتمبر 1982، يصف مخبر أمريكي المعسكر الجديد الذي استقر فيه عناصر المنظمة غرب تونس باتجاه الحدود الجزائرية بالقول: "يقع المعسكر المحدد حديثاً على على بعد 2.5 ميلاً بحرياً غرب وادي الزرقاء، وعلى أرض زراعية سابقة. يتكون المعسكر من 71 خيمة كبيرة (مرتبة في صفوف) تم توزيعها على ثلاثة طوابق، في المبنى الرئيسي ومباني الدعم الصغيرة البالغ عددها 18 مبنى. كما تم توفير أربع شاحنات شحن، وشاحنة وقود/ مياه، وسيارتين لاندروفر، وسيارة واحدة من نوع سيدان. تم أيضاً إنشاء ملعب لكرة القدم وسط بستان. لا يبدو أن المعسكر مؤمَّن. يقع وادي الزرقاء على بعد 40 ميلاً بحرياً غرب تونس. كما تفيد تقارير بأن 1100 من أفراد حرب العصابات الفلسطينيين من غرب بيروت، يقيمون في هذا المرفق. وحوالي 150 من ضباط منظمة التحرير الفلسطيني يُقال إنهم يسكنون في فندق سلوى، جنوب شرق تونس العاصمة".

وفي تقرير آخر صدر في العام 1985، تشير المخابرات الأمريكية إلى أن المقر الرئيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في تونس هو على الأغلب "مركز لخدمة مكاتب منظمة التحرير حيث يتعامل بشكل أساسي مع الأمور الإدارية الروتينية. يتواجد عدد قليل من المقاتلين الفلسطينيين في المعسكر، حوالي 100-150 مقاتلاً، والعديد منهم يستعدون للانتقال إلى العراق. كانت الروح المعنوية داخل المعسكر منخفضة لأن المقاتلين ليس لديهم الكثير ليفعلوه. لا يوجد تدريب عسكري، ولا يُسمح لهم بالانتقال إلى المدينة. نعتقد أن الفلسطينيين في تونس التزموا بالقيود التي وضعتها السلطات المحلية ضد الشروع في أي أنشطة إرهابية من تونس."

بعد ثلاث سنوات من استقرار قيادة منظمة التحرير في تونس، عاشت خلالها المنظمة فترة عصيبة من الانشقاقات الداخلية، وقع أول احتكاك بينها وبين إسرائيل على أرض بعيدة عن الصراع. صباح الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1985، أغارت طائرات إسرائيلية على مقر المنظمة في ضاحية حمام الشط، جنوب تونس العاصمة، بهدف القضاء على قيادات المنظمة العسكرية خلال اجتماع، تأجل في اللحظة الأخيرة. ومع ذلك، أسفرت عن مقتل خمسين فلسطينياً و18 تونسياً ومئة جريح، بعد أن سوّت المربع الأمني للمنظمة بالأرض.

إلى جانب اهتمامها بالجوانب الأمنية، ركزت الوثائق الأمريكية على الصراع داخل منظمة التحرير، والصراعات بين المنظمة والأنظمة العربية، لا سيما سوريا والأردن

زعمت إسرائيل أن هجومها كان رداً على اغتيال المقاومة لعناصر من الموساد في قبرص قبل أسابيع من الغارة. وبعد أسبوع واحد، جاء الرد الفلسطيني من طرف فصيل "جبهة التحرير الفلسطينية" التي يقودها أبو العباس، عندما اختطف عناصر سفينة أكيلي لاورو الإيطالية قبالة السواحل المصرية، وأرادوا التوجه بها إلى ميناء أشدود الإسرائيلي، لكن العملية انتهت بقتل سائح أمريكي ولم تحقق أهدافها، وبمحاولة أمريكية لاختطاف الفدائيين.

شكلت هذه الحوادث المتلاحقة هاجساً أمريكياً. تكشف وثائق المخابرات الأمريكية عن مخاوف واشنطن من هجمات انتقامية فلسطينية ضد المصالح الأمريكية حينذاك، خاصة بسبب موقف الرئيس الأمريكي رونتالد ريغان، الذي قال إن القصف الإسرائيلي لمقر منظمة التحرير في تونس هو دفاع عن النفس.

بعد شهر من اختطاف سفينة أكيلي لاورو، وضعت المخابرات الأمريكية تقريراً من سبع صفحات تحت عنوان "تهديد منظمة التحرير الفلسطينية لمصالح الولايات المتحدة"، أعدّته محطة عمان وتل أبيب، وجاء فيه: "من المرجح أن تصبح مصالح الولايات المتحدة، خاصة في الشرق الأوسط وأوروبا، أهدافاً رئيسية لمختلف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي تسعى للانتقام من اعتراض الولايات المتحدة لخاطفي أكيلي لاورو والتواطؤ الأمريكي المزعوم في الغارة الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس. لطالما شعر القادة الفلسطينيون بالإحباط من واشنطن بسبب ما يعتبرونه دعماً لا جدال فيه لإسرائيل، ونعتقد أن موقفهم قد تحوّل الآن إلى غضب صريح".

ويضيف التقرير: "قد يحاول عرفات كبح جماح بعض عمليات منظمة التحرير لتخفيف الضرر الذي لحق بصورته الدولية وعلاقاته المتوترة بالفعل مع العاهل الأردني الملك حسين. لكن عرفات لن يكون قادراً على السيطرة على تصرفات جميع فصائل منظمة التحرير، ولن يرغب في القيام بذلك، من أجل الحفاظ على دوره كزعيم لمنظمة التحرير الفلسطينية. في رأيه، تساعد عمليات منظمة التحرير ضد المسؤولين أو المنشآت الأمريكية على ضمان أن تنظر الولايات المتحدة إلى منظمة التحرير على أنها حركة تحرير وطني قابلة للحياة".

وبحسب التقرير، "اتّبع رئيس منظمة التحرير عرفات منذ فترة طويلة سياسة ذات مسارين تسمح له في نفس الوقت بمتابعة حل دبلوماسي للقضية الفلسطينية بينما يتغاضى عن العمليات العسكرية ضد إسرائيل. يعتقد العديد من القادة الفلسطينيين أن منظمة التحرير يجب أن تواصل ‘الكفاح المسلح’ ضد إسرائيل حتى يصلوا إلى طاولة المفاوضات ويتمكنوا من التفاوض من موقع قوة وليس ضعف. عرفات بلا شك متعاطف مع وجهة النظر هذه وربما يعتقد أنه يجب عليه دعم العمليات للحفاظ على مصداقية قيادته".

ويتابع التقرير: "نعتقد بأن مواقف منظمة التحرير تجاه واشنطن قد تغيرت من الإحباط إلى الغضب منذ اعتراض الولايات المتحدة لخاطفي أكيلي لاورو. يعتقد عرفات أن واشنطن اتهمت مسؤولي المنظمة ظلماً وتجاهلت المساعدة التي قدّمتها المنظمة في إطلاق سراح الرهائن. منذ العملية الأمريكية، رأينا العديد من التقارير والبيانات التي تحذّر من التهديدات المحتملة لمصالح الولايات المتحدة. صرّح عرفات وغيره من كبار قادة فتح علناً بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستهاجم المصالح الأمريكية. وقال عرفات في مقابلة مع صحيفة لندن برس ‘لدينا الحق في ملاحقة الدبلوماسيين والطيارين الأمريكيين المسؤولين عن عمليات الاختطاف’. نعتقد أن المواطنين الأمريكيين والمنشآت الأمريكية في أوروبا والشرق الأوسط هم الأكثر عرضة للهجوم لأن النشطاء الفلسطينيين ينشطزون بكثرة في هذه المناطق، والموظفون الدبلوماسيون والعسكريون الأمريكيون أهداف رئيسية، لكن الشركات الأمريكية معرّضة للخطر أيضاً، وقد تلقت ما لا يقل عن عشر سفارات أمريكية في جميع أنحاء العالم تهديدات بالقنابل منذ عملية الاعتراض الأمريكية".

ويقدّر التقرير "أن منظمة التحرير حافظت على شبكة إرهابية فعالة قادرة على شن عمليات عند الرغبة. صلاح خلف [أبو إياد]، رئيس جهاز الأمن الموحد، هو زعيم فتح الوحيد الذي وجّه هجمات ضد الولايات المتحدة في الماضي. لطالما دافع خلف عن نهج أكثر تشدداً لحل المشكلة الفلسطينية. قد يوجّه غضبه الآن ليس فقط إلى إسرائيل، ولكن نحو الولايات المتحدة. يقع مقر خلف في تونس، لكن قاعدته العملياتية الرئيسية تقع في شرق برلين. قد تكون لخلف أيضاً مكاتب أصغر في الجزائر ودول أوروبا الشرقية مثل يوغوسلافيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا. نعتقد أن البنية التحتية الواسعة لخلف في أوروبا تضعه في وضع جيد بشكل خاص لضرب المصالح الأمريكية في المنطقة".

"سيؤدي موت عرفات إلى حالة من الفوضى داخل منظمة التحرير. الإجراءات المعمول بها للخلافة غير واضحة... عرفات وزملاؤه من فتح لم يهيّئوا جيلاً شاباً من الفلسطينيين لتولي مناصب قيادية"

وفي تقرير آخر وضعته الوكالة الأمريكية بتاريخ 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1985، تحت عنوان "مكتبا منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وعمان: الأدوار الممكنة والروابط في عمليات فتح"، جاء: "يزعم القادة السياسيون الإسرائيليون أن منشآت منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وعمان قد استُخدمت لتخطيط وتوجيه عمليات فتح الإرهابية. لدينا القليل من المعلومات الصعبة التي يمكننا من خلالها إصدار أحكام قاطعة في ما يتعلق بأي ارتباط قد يكون بين مكاتب منظمة التحرير في تونس وعمان وبين العمليات الإرهابية التي نفّذتها حركة فتح مؤخراً. تستند أفضل تقديراتنا إلى الغارة الجوية الإسرائيلية في تشرين الأول/ أكتوبر على مقر المنظمة في تونس وعملية أكيلي لاورو الإرهابية. نعتقد أن حكومتي تونس والأردن، على الرغم من دعمهما للقضية الفلسطينية، تدركان تماماً التداعيات السياسية والعسكرية إذا كان أي من المضيفين بمثابة نقطة انطلاق للعمليات الإرهابية التي تقوم بها منظمة التحرير، وخاصة ضد إسرائيل".

ومع ذلك، يتابع التقرير، "لا نعتقد أن لديها القوة البشرية الكافية أو الموارد الفنية الكافية لمراقبة جميع أنشطة المنظمة داخل حدودها بشكل كامل. نحن نقدّر أن تونس لم تكن مركزاً لتخطيط وتوجيه العمليات الإرهابية لمنظمة التحرير، على الرغم من أن رئيس جهاز الأمن الموحد، صلاح خلف، مقيم في تونس العاصمة. كما كان للقوة 17 التابعة لفتح مكتب في تونس. كما أن محمد عباس، زعيم جبهة التحرير، خطط على ما يبدو لعملية أكيلي لاورو الأخيرة من تونس. ومع ذلك، لا يمكننا أن نؤكد أن عرفات كانت لديه أي معرفة مسبقة بتفاصيل هذه العملية. نعتقد أن خلف يستخدم منظمته الأمنية من خلال مكتبه في ألمانيا الشرقية لمعظم العمليات. ربما تكون منشأة القوة 17 في تونس قد خططت لعملية فتح في برلين الغربية في كانون الثاني/ يناير الماضي ضد الفلسطينيين الموالين لسوريا أو المسؤولين السوريين هناك، لكن العملية توقفت عندما اعتقل الألمان الغربيون المشتبه به الفلسطيني وسلموه إلى تونس. من المرجح أن تحاول فتح الانتقام من إسرائيل وربما الولايات المتحدة. سيضغط رؤساء أمن عرفات من أجل عمليات أكثر تواتراً وإثارة. نحن نؤمن بأن عرفات، يدرك التداعيات السياسية على مضيفيه، وقد يحث على ضبط النفس حتى تتمكن فتح من تنفيذ هجوم لا يمكن تتبعه إلى أي من تونس أو عمان".

خصوم عرفات وأعداؤه

إلى جانب اهتمامها بالجوانب الأمنية، ركزت الوثائق الأمريكية على الصراع داخل منظمة التحرير، والصراعات بين المنظمة والأنظمة العربية، لا سيما سوريا والأردن.

في وثيقة صادرة في 22 أيار/ مايو 1985 تحت عنوان "الأردن: هل يستطيع حسين التخلّص من منظمة التحرير الفلسطينية؟"، طرحت المخابرات المركزية السيناريوهات المحتملة للنهج الذي يتبعه العاهل الأردني تجاه عرفات ومنظمة التحرير.

تقول الوثيقة: "من المحتمل أن يشجّع حسين فلسطينيي الضفة الغربية على التخلي عن علاقاتهم مع منظمة التحرير والانضمام إلى الأردن في مفاوضات السلام مع إسرائيل. يكاد يكون من المؤكد أن الملك سيفشل في الحصول على مشاركة كافية من قادة الضفة الغربية بسبب خوفهم من الانتقام إذا تحدّوا سلطة منظمة التحرير. لا نعتقد أن حسين سيدخل في مفاوضات بدون شكل من أشكال الدعم الفلسطيني الموثوق. لدى الملك إحساس جديد بضرورة التحرك نحو مفاوضات السلام، وفقاً لمسؤولي السفارة الأمريكية. وهو يعتقد أن عام 1985 هو العام الأمثل لإحراز تقدّم. يرى أن إعادة انتخاب ريغان وانتخاب رئيس الوزراء [شيمون] بيريز في إسرائيل علامات مبشّرة. كما يعتقد الملك أن الأزمة الداخلية لمنظمة التحرير وما ترتب عليها من إضعاف لعرفات، ستوفر له فرصاً أكبر للفوز بالمنظمة".

وتتابع: "كان قرار استضافة المجلس الوطني الفلسطيني الذي تأخر طويلاً في عمان في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي يهدف إلى تشجيع عرفات على الانفصال عن سوريا والفلسطينيين المدعومين من سوريا والتعاون مع القادة العرب المعتدلين لإيجاد صيغة للسلام. تشير تقارير السفارة الأمريكية إلى أن الملك رأى تصرفات عرفات في ذلك الوقت دليلاً على أنه أراد أيضاً متابعة هذا المسار. لم يقتصر الأمر على تحدي سوريا والجماعات الفلسطينية الراديكالية لعقد المجلس الوطني، بل قضى أيضاً على نفوذها في اللجان الفلسطينية الكبرى من خلال تعيين أنصاره في مناصب رئيسية. اعتقد كل من حسين وعرفات أن مثل هذه التعيينات ستعزز موقف عرفات وتقلل من فرص استخدام هذه المجالس لحق النقض ضد أفعاله. (...) بدأ الملك في التطلع إلى قادة الضفة الغربية - الأكثر تضرراً بشكل مباشر من الاحتلال الإسرائيلي - لإضفاء الشرعية على دخول الأردن في مفاوضات السلام. يدرك حسين أن أعيان الضفة الغربية ما زالوا يأخذون زمام القيادة من عرفات ومنظمة التحرير، لكن الملك يأمل أن يصبحوا قابلين للتعاون مع الأردن إذا حاول عرفات مرة أخرى تعزيز العلاقات بين الضفة الغربية والشرقية".

وبحسب الوثيقة، "من المحتمل أن تشجع حكومة الوحدة وظهور حزب العمل كشريك مهيمن بشكل واضح في أي تحالف مستقبلي الملك حسين على مضاعفة جهوده مع سكان الضفة الغربية. كان يجادل بأن مثل هذا التطور يمثل أفضل وربما الفرصة الأخيرة لفتح مفاوضات مع محاورين إسرائيليين مرنين. ومع ذلك، نعتقد أن سكان الضفة الغربية ما زالوا مترددين في الانضمام إلى الملك حسين. إن تحسين المواقف الإسرائيلية تجاه المناطق قد يقلل من ممارسات الاحتلال الأكثر صعوبة، لكنه لن يقلل من خطر انتقام منظمة التحرير لتجاهلها. يدرك سكان الضفة الغربية في أي حال أنه حتى أكثر الشروط سخاء التي يمكن أن يوافق عليها حزب العمل ستشمل التنازل عن جزء على الأقل من الضفة الغربية - وكذلك القدس الشرقية - لإسرائيل، يضعهم موضع الخونة ويُرجَّح أن يتم اغتيالهم".

وفي تقرير وضعته الوكالة الأمريكية في شباط/ فبراير 1986 تحت عنوان "قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد عرفات"، تُطرح الاحتمالات المتوقعة في حال غياب عرفات عن قيادة المنظمة بالموت أو المرض أو الانقلاب عليه. كما يقدم التقرير المكوّن من 18 صفحة، أرقاماً دقيقةً حول عديد الفصائل الفلسطينية من المقاتلين والكوادر.

تقول الوثيقة في مطلعها: "إن حوار رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عرفات مع الملك حسين ملك الأردن حول السلام، وفقاً للمعلومات، يجعل عرفات هدفاً رئيسياً للانقلاب عليه أو الاغتيال. سيؤدي موته إلى حالة من الفوضى داخل منظمة التحرير. الإجراءات المعمول بها للخلافة غير واضحة وعرفات لم يعيّن نائباً في القيادة. في حالة وفاته، ربما سيحاول قادة الفصائل الثمانية لمنظمة التحرير تأكيد سلطتهم على المنظمة والتنافس على دعم الحكومات العربية. ستستغل سوريا الخصومات داخل المجموعات المختلفة لزيادة نفوذها على التنظيم وتعزيز قيادة أكثر تعاطفاً مع مصالحها. من المرجح أن يأتي خليفة عرفات من فتح، وهي أكبر المجموعات المكونة للمنظمة - ولا سيما من داخل الكادر الصغير من قادة فتح الناشطين منذ أوائل الستينيات. عرفات وزملاؤه من فتح لم يهيّئوا جيلاً شاباً من الفلسطينيين لتولي مناصب قيادية. المنافسان الرئيسيان من فتح على رئاسة المنظمة، من وجهة نظرنا، سيكونان خليل الوزير [أبو جهاد]، القائد العسكري، وصلاح خلف، المسؤول الأمني الكبير".

لم تتحقق توقعات المخابرات الأمريكية. قضى خليل الوزير في عملية إسرائيلية نفّذتها قوة خاصة استهدفته في منزله في تونس عام 1988 وقضى صلاح خلف في عملية نفّذها تنظيم أبو نضال عام 1991. لكنها لم تكن بعيدةً في توقعاتها حول النزوع المبكر لأبو عمار نحو الدخول في مباحثات سلام مع الجانب الإسرئيلي، بل إن ما كانت تخشاه من انتقام يمكن أن يطال أعيان الضفة الغربية في حال تم التنازل عن جزء من القدس أو أجزاء من الضفة ضمن صفقة سلام قامت به منظمة التحرير بنفسها.

لكن بلا شك فإن هذه الوثائق الكثيرة تحتاج عملاً أكثر عمقاً بدايةً من ترجمتها وصولاً إلى وضعها ضمن سياقها السياسي والتاريخي، خاصة أنها تشمل جوانب كثيرة من الوجود الفلسطيني في تونس، لا سيما الخروقات الأمنية التي تعرضت لها منظمة التحرير إسرائيلياً ومن جانب منظمة أبو نضال، صاحب النصيب الأكبر من الاهتمام الأمريكي في بداية التسعينيات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image