يأتي هذا التقرير كجزء من مشروع "مش عَ الهامش"،
والذي يسلط الضوء على الحقوق والحريات والصحّة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان.
"كنتُ في الرابعة عشر من عمري، عندما توجّهت إلى المرحاض لأتفاجأ برؤية دماء على سروالي الداخلي، فدخلتُ في نوبة بكاء شديدة، وبدأت الأسئلة تدور في رأسي: هل سأموت؟ أيُّ مرض هذا الذي أصابني وأنا في سنّ صغيرة؟"؛ هكذا وصفت ربى (23 عاماً)، تجربتها مع الدورة الشهرية الأولى التي لم تكن تمتلك أدنى فكرة عنها.
والدة ربى سيّدة خجولة ليست لديها الجرأة لتوعية ابنتها بمختلف المسائل الجنسية، وذلك لأنها عاشت طوال حياتها ضمن بيئة تفتقر إلى الوعي، ما جعل ربى تعيش حالةً من الصدمة والقلق عند الدورة الشهرية الأولى، الأمر الذي منعها من مغادرة المرحاض لأكثر من ساعة إلى أن عثرت عليها أمها في حالة بكاء هستيرية.
لم تُدرك ربى أهميّة المعرفة المسبقة بتغيّرات جسدها إلاّ بعد مرور سنوات عديدة من الصراع والتساؤلات جعلتها مُدافعةً شرسةً عن ضرورة إدراج التربية الجنسيّة في المدارس، خاصةً أن بعض الأهالي يجدون صعوبةً في شرح ما يلزم عن التغيرات الجسدية.
التربية الجنسيّة في المدارس
في دليل "الإرشادات التقنية الدولية بشأن التربية الجنسيّة"، تعرّف اليونسكو التربية الجنسيّة الشاملة على أنها عملية قائمة على المناهج التعليمية لتعلّم الجوانب المعرفية والعاطفية والجسدية والاجتماعية للجنس.
وتهدف التربية الجنسيّة إلى تزويد الأطفال والشباب والشابات بالمعرفة والمهارات والمواقف والقيم التي من شأنها تمكينهم/ نّ، من تحقيق صحتهم/ نّ ورفاهيتهم/ نّ وكرامتهم/ نّ، وتطوير علاقات اجتماعية وجنسية محترمة، والنظر في كيفية تأثير اختياراتهم/ نّ على رفاهيتهم/ نّ ورفاهية الآخرين، وفهم حماية حقوقهم/ نّ وضمانها طوال حيواتهم/ نّ.
"كنتُ في الرابعة عشر من عمري، عندما توجّهت إلى المرحاض لأتفاجأ برؤية دماء على سروالي الداخلي، فدخلتُ في نوبة بكاء شديدة، وبدأت الأسئلة تدور في رأسي: هل سأموت؟ أيُّ مرض هذا الذي أصابني وأنا في سنّ صغيرة؟"
لا زال الحديث عن إدخال التربية الجنسيّة إلى المدارس يلقى اعتراضاً لدى بعض الأهالي في الدول العربية، ومنها لبنان، بحكم أنها قد تحفّز الأطفال والمراهقين/ ات على ممارسة الجنس من دون الالتفات بجديّة إلى الأبحاث والدراسات التي جرت على هذا الصعيد.
فقد أظهرت دراسة أمريكية جرت على مدى ثلاث سنوات، لتقييم فاعلية أحد برامج التربية الجنسية في التقليل من السلوكيات الجنسية المحفوفة بالمخاطر، أنّ برامج التثقيف الجنسي الشاملة والتي تشمل مشاركة الوالدين، فعاّلة في تأخير ممارسة طلاب المدارس المتوسطة الجنس.
وفي ظلّ الغياب الملموس للتربية الجنسية في المناهج الدراسية في لبنان، أكدت الباحثة الإجتماعية الدكتورة هيفا سلام، لرصيف22، أنها لا تقلّ أهميّةً عن العلوم الأخرى، مشيرةً إلى أن الطفل يحتاج إلى تلّقي معلومات علميّة وسليمة خصوصاً في حال لم يبادر الأهل إلى ذلك، ومن الممكن عندها أن يلجأ إلى مصادر غير موثوقة كالأصدقاء والمواقع الإلكترونية.
وأشارت سلام إلى أنّ إدخال التربية الجنسية في المناهج المدرسية يمكن أن يتمّ من خلال إدراج مقرّر يختصّ بالأمر فقط، بالإضافة إلى المضامين التي يمكن إدخالها في كتب اللغة العربية والأجنبيّة وكتب التنشئة المدنيّة وكذلك في علوم الأحياء من دون أن يتّسم الأمر بالخجل، بل لا بدّ من طرح النقاشات والمسائل بطريقة واقعيّة.
تحدّيات عديدة
"ما في وزارة"؛ هذا ما قاله مدير إحدى المدارس الخاصة في الضاحية الجنوبية، في إشارة منه إلى غياب التربية الجنسيّة عن المناهج اللبنانية التي وضعتها وزارة التربية على نحو واضح، إلا في كتب علم الأحياء، وبشكل خجول جداً، ما دفعه إلى تخصيص جلسات توعوية في مدرسته تشمل مختلف الفئات العمرية من شأنها أن تخدم بعض الأهداف المحدودة للتربية الجنسيّة.
وأضاف المدير لرصيف22: "تلعب الناظرات في المدرسة، بتوجيه من الإدارة، دوراً توعوياً بارزاً، خصوصاً أنّ لبنان يضمّ حتى اليوم أسراً منغلقةً ترفض فيها الأمهات اللواتي لا يمتلكن الثقافة الفكرية والتربوية، التحدث مع أبنائهم وبناتهم بشكل واضح وصريح عن المواضيع الجنسية".
لا زال الحديث عن إدخال التربية الجنسيّة إلى المدارس يلقى اعتراضاً لدى بعض الأهالي في الدول العربية، ومنها لبنان، بحكم أنها قد تحفّز الأطفال والمراهقين/ ات على ممارسة الجنس من دون الالتفات بجديّة إلى الأبحاث والدراسات التي جرت على هذا الصعيد
إلاّ أن المدير أقرّ بأنّ الآليات التي يتّبعها غير كافية، وعزا عدم اعتماده التربية الجنسية الشاملة إلى تحديّات عديدة تأتي في مقدّمتها البيئة المحافظة، إذ يشكّل طرح تلك المواضيع في المدارس استفزازاً للأهالي، بالإضافة إلى أنّ اعتماد التربية الجنسية في المدارس يحتاج إلى أخصائيين/ ات يملكون/ ن الخبرات الكافية والثقافة والخلفية والقدرة على نقل المعلومات للطلاب والطالبات، ولا يمكن للمدرّسين/ ات أن يصبحوا/ ن يوماً ما، بديلاً عنهم/ نّ.
من هنا، رأى المدير ضرورة قيام وزارة التربية بتنظيم برنامج بالتنسيق مع المدارس الخاصة والرسمية يمكنه أن يغطّي مواضيع التربية الجنسيّة بشكل كافٍ لنشر التوعية السليمة في المدارس، و"حتى ما نبقى مخبايين ورا إصبعنا"، على حدّ قوله.
بدورها، وافقت المعالجة والأخصائية النفسية جورجيت يمّين، المدير في رأيه، مؤكّدةً أنّ إدراج التربية الجنسية من قبل وزارة التربية في المدارس يلعب دوراً مهماً في التخفيف من "النكبات النفسية" في المستقبل، مشيرةً إلى أن الكثير من الأهالي يرون أن الحديث عن الجنس أمام الطفل هو أحد المحرّمات، ويخلطون بين الدين والتربية الجنسية مطالبين المدارس بعدم الخوض في تلك المسائل مع أطفالهم.
إلا أن يمّين، أكدت لرصيف22، أن التربية الجنسية في المدارس تؤمّن للأطفال والمراهقين/ ات الحماية من أنفسهم/ نّ أولاً: "قد يقومون بإيذاء أنفسهم جسدياً ونفسياً بسبب عدم إحاطتهم بالمعلومات الكافية، وثانياً حمايتهم من استغلال الآخرين لهم".
ورأت جورجيت ضرورة مراعاة الفئة العمرية لمعرفة الأسلوب المناسب للشرح: "يمكن مثلاً أن نقدّم للأطفال الذين يبلغون الخامسة من العمر، صورة جسم ونطلب منهم وضع دائرة حول المناطق التي يُمنع لأحد لمسها إلا الأهل في حالات وطرق محدّدة. أما الأشخاص الذين يندرجون ضمن الفئات العمرية الأكبر، فيمكن أن نحثّهم على مشاركة الأسئلة التي تدور في رؤوسهم على طاولة مستديرة وبمساعدة أخصائي/ ة جنسي/ ة وآخر نفسي/ ة، مع مراعاة عدم إظهار الأسماء لأن بعض الأشخاص لا يمكنهم التعبير عن مخاوفهم وأسئلتهم بطريقة واضحة".
وأضافت يمّين: "تماماً كما نرغب في تعليم أطفالنا الكاراتيه للدفاع عن أنفسهم، وكما نخطّط لوضعهم في المدارس في سبيل تنمية قدراتهم التعليمية، من المهمّ جداّ أن يتلقوا التربية الجنسيّة لكي نجنّبهم الوقوع في الصدمات".
هذا ولفتت النظر إلى مدى ارتباط التربية الجنسية بالصحة النفسية: "تعريف الطفل منذ الصغر على جسده، قد يجنّبه التعرض للصدمات أو يخّفف من وطأة الوجع النفسي الذي يمكن أن يصيبه".
إخفاء "آثار الجريمة"
في تجربتها مع الدورة الشهرية الأولى، لم تكن الأسباب التي عزّزت مشاعر الخوف والقلق لدى سارة (اسم مستعار)، مشابهةً لتلك التي عند ربى، وفق ما قالت لرصيف22: "كنتُ في الحادية عشرة من عمري عندما قصدتُ المرحاض فجراً لأتفاجأ بقطرة دماء تُلوّث السروال الداخلي الذي أرتديه. كنتُ قد سمعتُ سابقاً عن الدورة الشهريّة من أمّي وأخواتي لكننّي استبعدتُ الأمر لأنني صغيرة وأختي التي تكبرني بثلاث سنوات لم تأتها الدورة بعد بخلاف جميع صديقاتها. وضعتُ منديلاً ورقياً ومضيتُ كأنّ شيئاً لم يكن".
وتابعت: "في اليوم التالي، بدأتُ أرى الكثير من الدماء فشعرتُ بالذنب والخجل والعار، واتّخذتُ يومها قراراً بعدم إخبار عائلتي عن الموضوع حتى حدوث الحيض لدى أختي الكبرى لكيلا تتعرّض للضغط أو التجريح كسماعها عبارات مثل: ‘معقولة منّك بنت؟’، التي تردّدت على مسامعها مرات عدة، وكذلك خوفاً من أن أبدو مذنبةً في نظر أمّي التي كانت تعاني حينها من الاكتئاب".
أخفت سارة تلك العلامة الفارقة في حياتها عن كلّ محيطها لمدّة ثلاث سنوات، وعانَت من الآلام بصمت تامّ واستخدمت المناديل الورقية طوال تلك السنوات، ومرّت بمواقف كثيرة تطلّبت منها التلطّي: "لم يكُن التكتّم أمراً سهلاً أبداً. عدتُ في أحد الأيام من المدرسة لأجد سروالي ملطّخاً بالدّماء فاضطررتُ إلى غسله بيديّ، ولما بقي متّسخاً قمت بدفنه تحت التراب كي لا تبقى ‘آثار الجريمة’ ظاهرةً".
وأوضحت سارة أنّ الأحاديث المبهمة وغير الدقيقة التي كانت تدور في فلك الدورة الشهريّة كانت سبباً كافياً دفعها إلى إخفاء الأمر، مؤكّدةً أن تناول الموضوع في المنازل والمدارس من دون خجل و"وشوشة" سيُفضي حتماً إلى مجتمع أكثر وعياً.
الدورة الشهريّة... ركنٌ أساسي
"الطالبات هنا لديهنّ الكثير من المفاهيم الخطأ حول الدورة الشهريّة، إذ يفتقرن إلى الوعي حول طبيعة أجسادهنّ ويتعاملن معها في صمت"؛ هذا ما قالته ساندي (39 سنةً)، عن تجربتها كمعلمة لغة إنكليزية في إحدى مدارس عرمون.
وأضافت لرصيف22: "ألاحظ دائماً كيف تقوم الفتيات بإخفاء الفوط الصحيّة حتى لا يراها الذكور، ويُبدين خوفاً من احتمال وقوعها على اعتبار أنه أمر يثير الخجل"، مشدّدةً على ضرورة الاعتماد على مادّة بحدّ ذاتها تختصّ بالتربية الجنسيّة وليس فقط عبر الموادّ العلميّة كعلم الأحياء، وذلك لكسر "التابوهات" التي يضعها المجتمع لأنّ لا ضرر في ذلك: "الأمر يُعدّ تثقيفاً يساعدهم/ نّ على معرفة أجسادهم/ نّ وكيفية التعاطي مع المواقف المختلفة".
"في اليوم التالي، بدأتُ أرى الكثير من الدماء فشعرتُ بالذنب والخجل والعار، واتّخذتُ يومها قراراً بعدم إخبار عائلتي عن الموضوع حتى حدوث الحيض لدى أختي الكبرى لكيلا تتعرّض للضغط أو التجريح كسماعها عبارات مثل: ‘معقولة منّك بنت؟’
شرحت هيفا سلام، أنّ توضيح التغيّرات الجنسيّة، كحدوث الدورة الشهرية لدى الإناث، يأتي ضمن لائحة المضامين الأساسيّة التي يجب إدراجها في التربية الجنسيّة، على أن تتضمّن موضوعات عديدةً تمكّن الفتيات أولاً من إدراك كيفية التعامل والتجاوب مع تلك التغيرات بصورة سليمة، وتساعد على كسر وصمة العار المرتبطة بالحيض، وعدم عدّه أمراً مخزياً ومقزّزاً.
وأوضحت سلام أن ذلك يمكن أن يقدّم معرفةً كاملةً بهذا التطور البيولوجي الطبيعي، ومعلومات مهمّةً حول ممارسات النظافة الصحية في أثناء الدورة الشهرية، والاضطرابات المتعلقة بالحيض، وإرشادات للتمييز بين ما هو طبيعي وغير طبيعي، خصوصاً أنّ غياب التوعية الصحيحة حول الدورة الشهرية في المدارس يدفع الفتيات إلى اتّباع إرشادات مجتمعيّة غير موثوقة وغالباً غير صحية، فقد أظهرت دراسة تحت عنوان "تقييم المعتقدات والممارسات المتعلقة بالنظافة الصحية في أثناء الحيض للمراهقات في لبنان"، أن 89.5% من النساء اللواتي شملتهنّ الدراسة اعتمدن ممارسات حيض على أساس المعتقدات الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع اللبناني، وأكدت النتائج الحاجة الضرورية إلى وجود برامج تثقيف صحية في المدارس خلال فترة البلوغ.
"كسر المحرّمات"
لطالما أدرج المجتمع الذكوري الحديث عن موضوع الدورة الشهرية على قائمة "الممنوعات"، زاعماً بأنه خدش للحياء و"عيب" يجب التستّر عليه خصوصاً أمام الذكور.
"ألاحظ دائماً كيف تقوم الفتيات بإخفاء الفوط الصحيّة حتى لا يراها الذكور، ويُبدين خوفاً من احتمال وقوعها على اعتبار أنه أمر يثير الخجل"
تعليقاً على هذه النقطة، قالت جورجيت يمّين: "على صعيد اللا وعي الجماعي، فإن مجتمعنا الذكوري يخاف من خصوصية الدورة الشهرية لدى المرأة، وما يرتبط بها من قدرة على الإنجاب، فيقوم بقمعها ومنعها من تناول المواضيع المتعلقة بها في العلن"، منبّهةً من أن ذلك يولّد لديها نوعاً من الخجل، فتُداري ملابسها في فترة الحيض كي لا "ينكشف أمرها" وتخبّئ الفوط الصحية بحذرٍ شديد أو تلفّها بأوراق قاتمة اللون.
ورأت يمّين أنّ تعرّف الفتيات إلى أجسادهنّ والتغيرات التي ستطرأ عليها أمر في غاية الأهميّة، شارحةً أنّ الامتناع عن ذلك قد يسبّب لهنّ صدمةً تؤثر على حياتهنّ المستقبلية، كرفض الإنجاب بطريقة لا واعية، والاضطرابات العاطفية، ورفض الذات، والاكتئاب...
كما شددت جورجيت يمّين، على أنّ المدرسة هي المكان الأهم لاكتساب التربية الجنسية لأنها تتناولها ضمن طابع علمي، ولكنّها يجب أن تكون مكمّلةً للتربية في المنزل وكذلك الوسائل الإلكترونية المتاحة أمام الجميع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...