تأتي هذه المدونة كجزء من مشروع "مش عَ الهامش"،
والذي يسلط الضوء على الحقوق والحريات والصحّة الجنسيّة والإنجابيّة في لبنان.
كنت طفلةً حين بدأت قصّتي مع الدم. امتصصته كصدمة من كلام أمي، وهي تخبرني عن رأس أبي المخضّب بالدماء، وعن العلامة اللحميّة المدبّبة على جبينه التي كنّا نسأله عنها، فيجيب باقتضاب متهرّباً من ماضيه، بأنها أثر تركته سجدة الصلاة، ويتعلّل أحياناً بأنّ شريط الشوكة في الكروم قد خرق جبينه بهذا الشكل وخلّف هذه الحِيف.
ندبة أبي هي السّر الذي حفظته طوال مراحل طفولتي؛ فلم يكن مسموحاً لي بإخبار إخوتي عن سرّ الندبة، فالمعرفة ستخلق في داخلهم غضباً كبيراً.
أمّا أنا، فكبرت مع الخوف والغضب والسرّ معاً.
دماء العنف لا تسبّب أي تهديد
أخبروني حكايات أخرى مليئة بالدم، حول عشرات الشباب من قريتنا الذين قُتلوا ببرودة في صراع نشب بين عشيرتين في منطقة بعلبك الهرمل، على خلفيّة "تلطيش فتاة"، في قرية مقسّمة حسب النفوذ الذكوري، أو كما تقوم القطط بتحديد أماكن سيطرتها، فلم تكن حميتهم وخلافهم بداعي تحقيق العدالة لضحيّة التحرّش، بل إثبات أنّها ممتلكات خاصة لا يحق لأحد الاقتراب منها، أو بلغتهم "التعليم عليها"، كأنّها سلعة سيصعب بيعها إذا ما ساءت سمعتها.
أخبروني حكايات أخرى مليئة بالدم، حول عشرات الشباب من قريتنا الذين قُتلوا ببرودة في صراع نشب بين عشيرتين في منطقة بعلبك الهرمل، على خلفيّة "تلطيش فتاة"، في قرية مقسّمة حسب النفوذ الذكوري
أخبروني عن موت جارتنا، بعد أن نضبت دماؤها وهي تنزف من مهبلها بعد ولادة عسيرة عند "الداية"، لأنّهم علّموها الخجل والخوف من كشف الطبيب على أعضائها التناسليّة في حين لم يكن بعد ثمّة طبيبة نسائيّة في المنطقة، فماتت وسط بركة نزيفها داخل غرفة الانتظار في الطوارئ. الدم الذي لم يجرؤ الطبيب على تضميده، قبل اتخاذ بروتوكولات المؤسسات الطبيّة، وبعد أن تقاعس عن نقل الوحدات المتبرّع بها إليها. بينما استمرّت "الدّاية" بمعرفتها وإمكانياتها الضئيلة في سحب وليدها لإنقاذه على الأقل، فوُلد الطفل طويلاً جدّاً، أو لعلّها كانت المسافة التي استغرقها في رحلة عبوره المريرة.
لا يخاف بعض الرجال من نزيف النساء، بعد إصابتهن بسرطان عنق الرّحم، متذرّعين بضعف قدراتهن البدنيّة، والعطب الذي أورثن إياه في أرحامهن، متأفّفين لأن حقهم في حياة جنسيّة نشطة يحرمهم مرضهنّ منه.
لم يخَف أحد من الدماء الذي نزفت من قريبتي، بعد أن أخذت اللّطمات تتساقط على وجهها لأنّها اكتُشفت وهي تواعد أحد الشباب خفيّةً.
لا يخاف بعض الرجال من نزيف النساء، بعد إصابتهن بسرطان عنق الرّحم، متذرّعين بضعف قدراتهن البدنيّة، والعطب الذي أورثن إياه في أرحامهن، متأفّفين لأن حقهم في حياة جنسيّة نشطة يحرمهم مرضهنّ منه
دماؤنا هي خوفهم الحقيقي
لم تخف أمي من أي قصّة مرويّة على مسمعي. خافت من دورتي الشهريّة الأولى، من أن أكون قد فقدت عذريتي في أثناء القفز واللعب، مهدّدةً إياي بالكشف الطبي إذا لم أخبرها بالحقيقة.
لم أعرف حينها عن أي حقيقة سأفصح؛ أهي عن الخيالات الجنسيّة التي كانت قد بدأت تتوارى في مخيّلتي كأي مراهقة في عمري، أم عن جنسانيّتي الطفوليّة المبكرة، التي أيقظتها قسراً يد الرّجل الغريب الضخمة التي ما زلت أذكرها تخترق تنورتي الصغيرة الملوّنة.
لا تخاف القبيلة من أي دماء أخرى، مثلما تخيفها دماء "بكاراتنا" على الرّغم من عدم وجود ما يسمى "غشاء بكارة"، بل إكليل مهبلي، والدم الذي قد يراه البعض ناتجاً من عنف أو عدم ترطيب كافٍ بسبب قلّة المداعبات قبل ممارسة الجنس الإيلاجي، أو من قلق وتشنّج، ناتج من تهويل وترويع حول مفهوم العذريّة وأوهام آلام الإدخال للمرّة الأولى.
ليس دم عائلة المرأة حينها هو ما يخرج منها، فبعد زواجها ينتقل صك ملكيّة دمها ليُمنَح إلى عائلة زوجها، ويصبح شأناً عائليّاً يخصّهم. كما أنّه منذ اللحظة الأولى للزواج، تصبح "دماء البكارة"، شأناً عامّاً يتّم الإعلان عنه، والجهر بالنقطة الحمراء على ملاءة السرير بعد التي تُسمّى "ليلة الدخلة". ويسقط حق المرأة في جسدها الخاص، فتصير حتّى دماؤها ملكيّة الجماعة التي مُنحت لها.
لم أعرف حينها عن أي حقيقة سأفصح؛ أهي عن الخيالات الجنسيّة التي كانت قد بدأت تتوارى في مخيّلتي كأي مراهقة في عمري، أم عن جنسانيّتي الطفوليّة المبكرة، التي أيقظتها قسراً يد الرّجل الغريب الضخمة التي ما زلت أذكرها تخترق تنورتي الصغيرة الملوّنة
إلا أنّ دماء حيضنا هي ما تخيفهم، وكأنّها طوفان من النجاسة أو أنّ "المرض الشهريّ" سيدمّر قلاعهم المحصّنة بالطهارة. ففي بعض الأساطير يُعدّ الحيض عقاباُ تستحقّه النساء عن جدارة، تورثه حواء إلى كل النساء من بعدها، فبعد اقترافها خطيئة أكل الفاكهة المحرّمة تمنحها الثمرة متعةً هائلةً لتسقط أرضاً، وتبدأ بالنزف. وإن تسرّب الحيض قد يفسد الطعام ونظام الأشياء، لذا على النساء الاختباء والتواري عن الأنظار هن وأجسادهن قدر ما يستطعن، حينها.
إلا أنّ دماء حيضنا هي ما تخيفهم، وكأنّها طوفان من النجاسة أو أنّ "المرض الشهريّ" سيدمّر قلاعهم المحصّنة بالطهارة.
في مواجهة الدّم
أنزل من فان رقم 4، عند رأس النبع، فأجد صدفةً قدمي تغوص في بركة من الدم، أركض وأنا أشعر بالدماء تتسلّل إلى ساقي ورأسي. أبعد ساقي عن ملامسة جسدي، وأبعد وجهي عنها كي لا أراها؛ أجبر نفسي على المواجهة: عليك رؤيتها. ألتفت إلى الخلف فلا أجد شيئاً.
أفتح هاتفي، أمامي على الشاشّة صور لدماء نساء ضُربن وقُتلن أو اغتُصبن وأصوات مناهضة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، فأتفحصها للحظات؛ دماء حمراء قانية تتحوّل بفعل ملامستها إلى اللّون البنّي، وأقرب إلى لون التراب.
أفكّر: هل يخاف الطين من نفسه؟ أم ممن كان سبباً في سيلانه؟
فالدم دمنا، وهم من يخيفوننا باستباحته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...