"خلال الحملة الانتخابية، بدأت مرحلة جديدة من الضغط والهرسلة، ذلك أن قبول ترشحي مع مجموعة من الرجال، أثار حفيظتهم أو حفيظة بعضهم على الأقل، وربما أخافهم لأن فكرة أن تفوز أمامهم امرأة، خاصةً في المجال السياسي، تُعدّ تعدياً سافراً. ولهذا، أطلقوا العنان للشائعات الكاذبة ضدي على غرار أنني أستغل مكان عملي لجمع التزكيات، ورفعوا قضيةً ضدي بالغرض. كانت تهماً كيديةً لم تحدث أبداً حتى أنني تقدمت بطلب إجازة طوال فترة الحملة، وكنت حريصةً جداً على عدم الاستفادة من عملي، هذا إلى جانب تحريض عائلتي وزوجي ضدي حتى لا أكمل في الترشح، وأترك المنافسة للرجال فقط. والأخطر هي رسائل التهديد التي كانت تُرسل إليّ عبر بعض الأقارب ومضمونها اسحبي ترشحك بهدوء أفضل لك، أو سترين أشياءً خطيرةً لم يسمّوها، كما تمت هرسلة زميلاتي في العمل اللواتي قمن بدعمي. أخافتني التهديدات إلى حد أنني لم أسمح لابنتي الصغيرة بالذهاب إلى المدرسة على مدار الأسبوع الأخير من الحملة الانتخابية، خشية أن تتعرض لمكروه. ولكن من جهة أخرى، زادتني تصميماً على المواصلة وبذل جهود أكبر لأنجح وأقطع الطريق أمام هذه النوعية من الأشخاص الذين لن يقدّموا أي إضافة تُذكر بهذه العقلية المخيفة والرجعية"؛ بهذه الكلمات تحدثت هند (اسم مستعار لإحدى المترشحات، من أجل سلامتها)، عن التضييقات العديدة التي تعرضت لها خلال حملتها الانتخابية، للانتخابات التشريعية المبكرة في تونس، فقط لكونها امرأةً قرّرت اقتحام عالم السياسة الذي يعدّه الرجال مجالهم الحيوي ويقلقهم أو ربما يخيفهم أن تطأه النساء.
واجهت سخرية العديد من الرجال جهراً حيث ضحكوا واستخفوا بترشحي وراهنوا على فشلي في جمع التزكيات وتالياً فشلي في الترشح فقط كوني امرأةً
"انتخابات ذكورية"
نظمت تونس في الـ17 من كانون الأول/ ديسمبر الجاري، انتخابات تشريعيةً مبكرةً، هي الأولى منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد، إجراءاته الاستثنائية في الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021. لم تتجاوز نسبة مشاركة المرأة في الترشح لهذه الانتخابات التشريعية، حاجز الـ15 في المئة، في تراجع لافت مقارنةً بحضورها في الاستحقاقات الانتخابية التي جرت خلال العشرية الماضية.
ولم تتوقف تحديات هند، عند المنافسين الرجال، بل شملت العائلة وزملاء العمل: "لم يكن ترشحي أمراً سهلاً بدءاً من فترة جمع التزكيات وصولاً إلى الحملة الانتخابية. في البداية واجهت معارضةً كبيرةً من أفراد العائلة وبعض الزملاء الذين ظلّوا يكررون: ابتعدي عن السياسة فأنت امرأة، ولن تستطيعي تقديم الإضافة إلى المنطقة في ظل الوضع الراهن، ولماذا لا تدعين زوجك يترشح بدلاً منك، فهو رجل وأقدر على المهمة؟ ولكنني قررت أن أصمّ أذني عما يقولون خاصةً أن زوجي كان يدعمني بقوة. ولهذا كانت فترة جمع التزكيات صعبةً جداً، وظلت محاولات دفعي للانسحاب متواصلةً في ظل التقييم السائد الذي يعطي الجدارة للرجل حتى لو كانت كفاءة المرأة العلمية أكبر بكثير، ولا سيما أنني أردت انتقاء أشخاص على درجة مهمة من الوعي والمعرفة ليقوموا بتزكيتي".
تنافس خلال الانتخابات التشريعية ألف و58 مترشحاً على 161 مقعداً في مجلس النواب، في 161 دائرةً انتخابيةً، من بينهم 120 امرأةً فقط، وهي نسبة جعلت حظوظ فوز الرجال بمقعد في المجلس النيابي أكثر من النساء بست مرات.
تُعدّ مسألة التزكيات أيضاً من ضمن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع الكبير على مستوى حضور المرأة التونسية في العملية الانتخابية
حسب تقارير المنظمات النسائية، فإن التراجع اللافت لمشاركة المرأة في الانتخابات التشريعية مردّه إلى الثغرات التي تضمّنها القانون الانتخابي الجديد، والتي تحول دون مشاركة وازنة للمرأة، إذ أسقط مبدأ التناصف بين الرجال والنساء، خلافاً للقانون الانتخابي السابق الذي كان يعتمد مبدأ التناصف العمودي بين النساء والرجال في القائمات الانتخابية. كما حذّرت من أن حضورها سيكون ضعيفاً إن لم يكن معدوماً، ورأت صراحةً أن القانون الجديد أقصى النساء.
وتُعدّ مسألة التزكيات أيضاً من ضمن أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التراجع الكبير على مستوى حضور المرأة التونسية في العملية الانتخابية، ذلك أنه كان من الصعب عليهن جمع 400 تزكية ما أدى إلى عزوفهن، إذ غالباً ما لا تكون للنساء الشبكات الاجتماعية ذاتها الواسعة محلياً لرعاية ترشيحهن خاصةً في المناطق الداخلية والأحياء الشعبية حيث شبكات الرجال أوسع بكثير من النساء.
كما يفرض القانون الانتخابي الذي أصدره الرئيس التونسي قيس سعيّد، في تموز/ يوليو الماضي، شرط الحصول على 400 تزكية للمرشح، مناصفةً بين الرجال والنساء، وأن يكون من ضمن الـ400 مزكٍّ، 125 شاباً دون الـ35 سنةً.
عنف رمزي مضاعف
نجلاء بن ميلود (مترشحة عن دائرة سوق الأحد محافظة قبلي)، واجهت بدورها العديد من الصعوبات لمجرد قرارها الترشح للانتخابات بالرغم من تكوينها العلمي المهم فهي باحثة وأستاذة جامعية وصاحبة براءة اختراع متمثلة في صناعة آلة تعقيم باستعمال الأشعة فوق البنفسجية.
تقول لرصيف22: "قرار الترشح في حدّ ذاته لم يكن سهلاً. كان يحتاج إلى امرأة قوية مدركة لما ينتظرها ومستعدة لكل العقبات وخاصةً عدم التأثر بما يقال من حولها، وأن تواصل مهمتها بإصرار وتجاهل، لأنها تعي جيداً أن الطريق لن تكون سالكةً أساساً، لكونها امرأةً أقدمت على اقتحام السياسة أمام مجموعة من الذكور الذين لم يتقبلوا فكرة أن تزاحمهم امرأة أو أن تفوز أمامهم. كانت المواقف الصعبة كثيرةً، لكن أشدّها وطأةً هي محاولة البعض، سواء من المحيط العائلي أو من خارجه، التأثير على بناتي ولا سيما ابنتي الصغيرة وتأليبهن ضدي، إذ تعمّد بعضهم اعتراض طريق ابنتي الصغيرة وسؤالها بشكل استفزازي: هل اشتقت إلى والدتك؟ أيتها المسكينة أمك تركتك بمفردك طوال اليوم، أمك لم تهتم بك وبدراستك، هل أنت راضية أن تذهب أمك للبحث عن التزكيات ولا ترجع إلا ليلاً وتتركك تأكلين طعاماً من الشارع؟ وغيرها من الأقاويل التي من غير الملائم أبداً أن تقال لطفلة صغيرة، لأنه من السهل أن تتأثر بما يقال لأنها أساساً لا تفهم جيداً ما يجري".
"قرار الترشح في حدّ ذاته لم يكن سهلاً. كان يحتاج إلى امرأة قوية مدركة لما ينتظرها ومستعدة لكل العقبات وخاصةً عدم التأثر بما يقال من حولها، وأن تواصل مهمتها بإصرار وتجاهل"
استطاعت نجلاء، أن تصمد بفضل دعم زوجها الذي تجنّد لمساعدتها بكل الوسائل لتصمد أمام كل التضييقات والعقبات، ولم يتأثر بمحاولات الكثيرين لتأليبه ضد زوجته عبر تمرير رسائل مفادها: كيف تقبل أن تتحمل مسؤولية المنزل والأطفال، فيما زوجتك تجوب الشوارع لجمع التزكيات أو لتقوم بحملتها الانتخابية؟ لماذا لا تطبخ لك؟ كيف تقبل أن تأكل وبناتك الأكلات الجاهزة طوال هذه الفترة؟ وغيرها من الأقاويل التي حاول العديد من الأشخاص سواء من الوسط العائلي أو من خارجه، تمريرها في مناسبات عدة على مسامع زوجها، لكنه قابل كل ذلك بالتجاهل واختار أن يصطفّ معها.
تضيف نجلاء: "اكتشفت خلال التجربة أن المرأة ما زالت تعامَل على أنها ليست إنسانةً كاملة الحقوق والواجبات، ولا يُنظر إليها ككفاءة تعادل نظيرتها عند الرجل وتفوقها. واجهت سخرية العديد من الرجال جهراً حيث ضحكوا واستخفوا بترشحي وراهنوا على فشلي في جمع التزكيات وتالياً فشلي في الترشح فقط كوني امرأةً بالرغم من كفاءتي العلمية المشهود بها، في الداخل والخارج، والتي تفوقهم جميعاً. تلك النظرات الساخرة جعلتني أقرر في حال وصولي إلى البرلمان أن أكون مدافعةً شرسةً عن حقوق المرأة التي ما زالت الحلقة الأضعف في المجتمع، المرأة الكادحة في الشوارع والمزارع وحتى البناء من أجل عائلتها، المرأة التي تتعرض للعنف بمختلف أشكاله بنسق متصاعد بالرغم من وجود ترسانة قوانين مهمة تدعم حقوقها لكنها دون تفعيل. سأسعى جاهدةً من أجل وضع الآليات اللازمة لتفعيلها على أرض الواقع كما ينبغي".
وداعا للتناصف
يُذكر أن المرأة التونسية سجلت حضوراً جيداً في المجالس التشريعية خلال السنوات العشر الماضية، كما كان مبدأ التناصف بين الرجل والمرأة في المجالس المنتخبة أحد أهم الإنجازات المتعلقة بحقوق المرأة بعد ثورة الـ14 من كانون الثاني/ يناير 2011، في تونس. إذ تم ترسيخ هذا المبدأ لأول مرة في دستور 2014، وفرض قانون الانتخابات لعام 2014 في البلاد أن تتضمن قوائم المرشحين أعداداً متساويةً من الرجال والنساء. وكانت نتيجة فرض هذا القانون وصول 68 امرأةً إلى البرلمان سنة 2014، بنسبة فاقت الـ34 في المئة من مقاعد البرلمان، وهو رقم منح تونس أعلى حضور نسائي في البرلمان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولكن تراجعت هذه النسبة في 2019، إلى 26 في المئة.
يقلص القانون الجديد العدد الإجمالي لمقاعد البرلمان إلى 161 مقعداً (كان عددها 217)، منها 151 في الداخل، و10 مقاعد للدوائر الانتخابية في الخارج. ووفق القانون ذاته، سيكون التصويت في الانتخابات التشريعية على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين، إذا اقتضت الضرورة، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد.
"الاعتداء خلال حملتي الانتخابية أحزنني كثيراً، ومجدداً أيقنت أن كل هذا يحدث لمجرد أنني امرأة، فأنا على يقين بأن المعتدي لم يكن ليتجرأ على هذا الفعل أمام رجل"
ريم (اسم مستعار لمرشحة في إحدى دوائر الشمال التونسي، بناءً على رغبتها وتجنّباً للمزيد من التضييقات من منافسيها)، لم يكن المجتمع والمواطنون من شنّوا الحرب ضد ترشحها، بل منافسوها من الذكور.
تقول لرصيف22: "لم أتعرض للتضييقات والهرسلة من المواطنين، بل من المنافسين الرجال الذين لم يتقبلوا حقيقة أن تترشح امرأة خاصةً عندما تكون في عمر صغير أو تبدو كذلك. كان قبول ترشحي مقابل فشل عدد من الرجال أحد المطبات الكبرى، إذ أثار ذلك حفيظة أحدهم ورفع قضيةً ضدي ادّعى فيها أنني أدفع المال للمواطنين ليقوموا بتزكيتي، وحرصت على حسم القضية منذ رفعها في أيار/ مايو الماضي، لمعرفتي بأنني لم أفعل ذلك. لكن ما راعني أنه بالرغم من جهودي الكبيرة لحسم القضية مبكراً، فوجئت بسيارة شرطة تأتي إلى بيتي قبل يومين من موعد الانتخابات لتخبرني بمسار القضية. أحدث مشهد وقوف سيارة الشرطة أمام بيتي في هذا التوقيت ‘شوشرة’ في منطقتي وأزعجني جداً وبدا لي وكأن الأمر يجري عمداً لإثارة ريبة أهالي منطقتي من حولي".
لم تقف الأمور هنا، إذ تحدد البلدية مساحات لوضع ملصقات المرشحين، ولكن عندما ذهبت ريم لوضع صورتها في أحد الأماكن المخصصة لها، قام أحد الأعوان العاملين في المكان بمنعها وإهانتها ونشر شائعة مفادها أنها تنتمي إلى حزب سياسي بالرغم من نفيها الشديد لذلك، وتم طردي شرّ طردة على حد تعبيرها. هذا الموقف آلمها كثيراً لأنه، حسب تقديرها، لم يكن ليحدث لو لم تكن امرأةً.
من الفصول المؤلمة الأخرى، أنه لدى دخول فاتن إلى إحدى الإدارات في منطقتها، تعرضت لهجوم من أحد أتباع مرشح منافس قام خلاله بشتمها وإهانتها والبصق على وجهها فقط لأنه طُلب إليه أن يفعل ذلك لإرباكها. "هذا الموقف أحزنني كثيراً، ومجدداً أيقنت أن كل هذا يحدث لمجرد أنني امرأة، فأنا على يقين بأن المعتدي لم يكن ليتجرأ على هذا الفعل أمام رجل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...