تعيش تونس نهاية هذا الأسبوع على وقع استحقاق انتخابي جديد، لاختيار نواب البرلمان للمرة الأولى منذ الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، في تموز/ يوليو 2021، والتي قام خلالها بحل البرلمان والحكومة وتعيين مجلس أعلى للقضاء وإحكام قبضته على السلطتين التشريعية والتنفيذية.
تدور هذه الانتخابات وسط احتجاجات من الأحزاب المعارضة التي خرجت إلى الميادين رافعةً شعارات تنادي بمقاطعة الانتخابات، وبضرورة عزل الرئيس وتعيين حكومة جديدة لإنقاذ البلاد اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
ويتخوف عدد كبير من التونسيين من النتائج التي سيفرزها البرلمان القادم، إذ يرونه ضعيفاً ومشتتاً، وغير قادر على إخراج البلاد من دوامة ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، فيما يرى آخرون أن هذه الانتخابات ضرورية لاستكمال المسار والقطع مع المنظومات السابقة ومحاسبة المسؤولين عن تدهور شؤون البلاد.
تجرى الانتخابات تزامناً مع ذكرى اندلاع شرارة الثورة في السابع عشر من كانون الأول/ ديسمبر، في محافظة سيدي بوزيد، وسيكون التصويت للمرة الأولى على الأفراد وليس على القوائم الحزبية أو المستقلة أو الائتلافية، وفق دستور جديد وقانون انتخابي صاغهما الرئيس قيس سعيّد.
مقاطعة واسعة ودوائر مغلقة
ستعيش الأحزاب السياسية وضع المتفرج في الانتخابات القادمة، بعد إعلانها عن عدم مشاركتها في الاستحقاق الانتخابي، ومقاطعة مشروع الرئيس قيس سعيّد الذي وصفوه "بالانقلابي".
قال رئيس جبهة الخلاص الوطني، أحمد نجيب الشابي، لرصيف22، إن الانتخابات التشريعية القادمة تُجرى وسط مقاطعة من أغلب الأحزاب السياسية، وفي ظروف يعزف فيها الناس عن الترشح، مؤكداً أن هناك دوائر انتخابيةً ظلت شاغرةً لم يترشح فيها أي فرد، فيما ترشّح فرد واحد في بعض الدوائر وتالياً سيتم انتخابه بشكل آلي من دون التصويت، وهو ما لم يحدث في الدولة سابقاً.
لم تسجل الدوائر الخاصة بالمهاجرين في كل من فرنسا، وألمانيا، والأمريكتين، والدول العربية، وآسيا، وأستراليا، وإفريقيا، أي مرشح للانتخابات، وهي حادثة تحصل للمرة الأولى تقريباً. كما أعلنت سفارة تونس في لندن أنّ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قد قرّرت تعليق المسار الانتخابي في عدد من الدوائر الانتخابيّة، ومنها بقية الدول الأوروبية، نظراً إلى عدم وجود مرشحين مقبولين، على أن يتمّ سدّ المقاعد الشاغرة في مجلس نواب الشعب في فترة لاحقة.
يتخوف عدد كبير من التونسيين من النتائج التي سيفرزها البرلمان القادم، حيث يرونه ضعيفا ومشتتا، وغير قادر على إخراج البلاد من دوامة ثورة يناير 2011
وأكدت السفارة أنه لن يتمّ فتح مكاتب الاقتراع في سفارة تونس في لندن، وكل من برمنغهام ومانشستر وإدنبرة ودبلن أيام 15 و16 و17 كانون الأول/ ديسمبر 2022.
تأتي هذه الانتخابات وسط مقاطعة 12 حزباً، هي "النهضة" (53 نائباً في البرلمان السابق) و"قلب تونس" (28 نائباً)، و"ائتلاف الكرامة" (18 نائباً)، و"التيار الديمقراطي" (22 نائباً)، و"الدستوري الحر" (16 نائباً)، و"آفاق تونس" (نائبان)، "حراك تونس الإرادة"، و"الجمهوري"، و"العمال"، و"القطب"، و"التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" (نائب واحد لكل حزب).
فيما يتنافس ألف و58 مرشحاً على 161 مقعداً في مجلس النواب، في 161 دائرة انتخابية، بينهم 120 امرأةً فقط.
برلمان الرئيس
يرى مراقبون أن الانتخابات التشريعية القادمة تُعدّ الخطوة الأخيرة لإرساء مشروع الرئيس والقطع مع المنظومات السابقة بعد نجاحه في تعيين حكومة، ومجلس أعلى للقضاء وهيئة انتخابات على القياس، لينتقل إلى الخطوة الأخيرة وهي البناء القاعدي.
يرى نجيب الشابي، أن المجلس القادم "يأتي في إطار دستور وضعه الرئيس سعيّد، على قياسه من أجل إرساء شرعية زائفة على كل القرارات الرئاسية"، وأنه "سيكون مجرد غرفة لتنفيذ أوامر الرئيس". مضيفاً أن "الانتخابات القادمة لن تكون نزيهةً، لأنها ستكون تحت إشراف هيئة معيّنة من طرف رئيس الجمهورية".
من جهتها، تؤكد نائبة رئيس البرلمان المنحل سميرة الشواشي، أن رئيس الجمهورية سيقوم بوضع "برلمان صوري ليصادق على قراراته فقط".
وسط مقاطعة من الأحزاب التقليدية الكبرى تدخل تونس مرحلة جديدة مع الانتخابات التشريعية في ظل الدستور الجديد. ما بين الانتقادات والأمل، يقف التونسيون على اختبار جديد للسلطة
وأوضح الشابي، أن البرلمان القادم سيكون عديم الصلاحية الرقابية، أي ليست له أدنى رقابة على السلطة التنفيذية، وسيتقاسم الصلاحيات مع رئيس الجمهورية الذي ستكون له اليد الطولى في جميع القرارات.
كما أكد الشابي، أن "المجلس القادم لن يكون له أي تأثير وأي دور منتظر في الحياة السياسية، وستتجاهله الأحزاب"، مطالباً بضرورة "وضع حكومة إنقاذ سياسية تذهب إلى انتخابات تشريعية مبكرة من أجل العودة إلى الديمقراطية".
انتخابات فاقدة للشرعية
رأت سميرة الشواشي، نائبة رئيس البرلمان المنحل، في تصريح لرصيف22، أن الانتخابات التشريعية القادمة نتيجة للانقلاب وخريطة طريق أحادية الجانب قام بها قيس سعيّد، مؤكدةً أنها ستكون فاقدةً للشرعية الدولية لأن هناك حكماً أصدرته المحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، ضد إجراءات قيس سعيّد، وطالبته "بالعودة إلى الديمقراطية الدستورية" وإلغاء مراسيم عدة.
وكانت المحكمة قد طالبت في بيان لها "بإلغاء الأمر الرئاسي رقم 117 الصادر في 22 أيلول/ سبتمبر 2021، (تدابير استثنائية) والمراسيم الرئاسية 69 (إعفاء رئيس الحكومة ووزير الدفاع ووزيرة العدل بالنيابة)، و80 (تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب)، و109 (تمديد إجراءات الأمر 80) الصادرة في 26 و29 تموز/ يوليو 2021، و24 آب/ أغسطس 2022 والعودة إلى الديمقراطية الدستورية من تاريخ تبليغ هذا الحكم".
وقالت المحكمة إن "الدولة المدّعى عليها انتهكت حق الشعب في المشاركة في إدارة شؤونه العامة، كما هو مكفول في المادة 13 من الميثاق (الإفريقي لحقوق الإنسان)".
وترى سميرة الشواشي، أن المرشحين للانتخابات التشريعية القادمة لا يعرفون حتى وظيفة البرلمان القادم، ناهيك عن الوعود الوهمية التي يقدّمونها والتي تثبت أنهم لم يطّلعوا حتى على الدستور وما خططه للمجلس القادم.
وتؤكد الشواشي، أن البرلمان القادم "سيكون مشتتاً وغير مبني على برامج، لأن الأحزاب هي التي تقدم البرامج وتنتخب من أجل يرامجها. كما أن المترشحين لا يملكون أي رؤية اقتصادية وسياسية واجتماعية، وليست لهم أي كفاءة ولا يمثلون أي فكر"، على حد تعبيرها.
تعدّ الشواشي أن الانتخابات القادمة "باطلة بالدستور وبالقانون"، قائلةً: "من العبث أن نرى اليوم مرشحين أصبحوا نواباً حتى قبل الانتخابات"، لأن القانون الانتخابي الذي وضعه قيس سعيّد، يسمح للفرد الذي ترشح بمفرده عن دائرة معينة بالفوز مباشرةً بمقعد نيابي.
وقالت الشواشي، إنه من الممكن أن ترى في كل العالم عزوفاً عن التصويت في الانتخابات، لكن للمرة الأولى نرى عزوفاً عن الترشح للانتخابات، ويبدو أنها المرّة الأولى في العالم، واصفةً ذلك بـ"الفضيحة".
خطوة نحو الاستقرار
في سوق "الحلفاوين" في تونس العاصمة، ملجأ "الزوالي" كما يقال، نظراً إلى أسعاره المنخفضة يتزاحم الناس من أجل الظفر بقفة اليوم بأقل ثمن ممكن. يقول مكرم الثابتي (42 عاماً)، إن الانتخابات القادمة ستوضح الرؤية، وستعطي مؤشراً إيجابياً حتى للدول الأجنبية والمستثمرين بالعودة إلى تونس وتالياً من المتوقع أن تدور عجلة التنمية وتنخفض الأسعار.
أما دليلة، وهي إمرأة في العقد الخامس من عمرها، فتقول إنها ستشارك في الانتخابات القادمة، لأن البلاد لم تعد تحتمل أي تأخير آخر، وعلى الرئيس أن يدرك جيداً أن الشعب في انتظاره بعد الانتخابات، وعليه أن يعمل بجد من أجل تخفيف العبء عن المواطنين من خلال تخفيض الأسعار، والحرص على توفير المواد الأساسية.
تضيف دليلة: "نحن اليوم في تونس، كأننا نعيش في الحرب إذ لا توجد أدوية في المستشفيات ولا مواد غذائية كالزيت والسكر والسميد وغيرها بالإضافة إلى تدنّي الخدمات وارتفاع البطالة"، لذلك "على الرئيس أن يدرك جيداً أن الشعب لم يعد يحتمل وحتماً سيخرج إلى الشارع للاحتجاج إن لم يتم اتخاذ خطوات إيجابية بعد الانتخابات".
وانكمش الاقتصاد التونسي بنسبة 8.79 في المئة، خلال جائحة كوفيد19، وبلغت معدلات التضخم الشهر الماضي 9.8 في المئة في وقت تواصل الحكومة جهودها من أجل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي لتجنّب الإفلاس، وسط انتقادات من أكبر منظمة نقابية، "اتحاد الشغل"، التي تتهم الحكومة بمحاولة رفع الدعم عن المواد الأساسية والمحروقات والتفريط ببعض المؤسسات العمومية.
إن كان الساسة المعارضون ينتقدون الانتخابات التشريعية فجزء من الشارع يتأمل فيها خيرا ويرى أنها قد تكون مدخلا لاستقرار سياسي واجتماعي
ورأى الناطق الرسمي باسم التيار الشعبي، المساند للرئيس سعيّد، محسن النابتي، في تصريح لرصيف22، أن التهويل الحاصل بخصوص عمل البرلمان القادم لا مبرر له، إذ سيتولى الجانب التشريعي والرقابي على عمل الحكومة والسلطات الجهوية وسيكون مكفولاً في الدستور.
وأضاف النابتي، أنهم سيشاركون في هذه الانتخابات ضمن ائتلاف "ينتصر الشعب"، والهدف من ذلك هو إيجاد كتلة وازنة وأغلبية تضبط إيقاع البرلمان في اتجاه الأهداف والأولويات والاستحقاقات المقبلة.
وأكد أن الجزء الأكبر من الإصلاحات السياسية قد حُسم بعد الاستفتاء على الدستور وتنقيح القانون الانتخابي في انتظار استكمال بقية التنقيحات البلدية وانتخابات مجلس الأقاليم والجهات، وبذلك يصبح القانون الانتخابي متكاملاً ومنسجماً.
ويؤكد النابتي، أن انتخاب البرلمان سيحدث نوعاً من الاستقرار السياسي وسيتم التسريع في المصادقة على القوانين والتشريعات التي يحتاجها الاقتصاد التونسي من أجل انطلاق قطار التنمية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.