بعربة يشدّها بغل، يلملم أبو بشار نصر الله(60 عاماً)، رزقه منذ طلوع الشمس وحتى غروبها، متنقلاً بين الأراضي الزراعية والأحياء السكنية لنقل محاصيل زراعية وبضائع وأمتعة، إذ يمضي نهاره على طنبره الذي بات وسيلة نقل مألوفةً في عموم المحافظات السورية، وجزءاً من تفاصيل اليوميات التي يعيشها السوريون، بعد أزمة المحروقات التي تعصف بالبلاد وتتفاقم أكثر فأكثر.
شوارع فارغة من السيارات، ومليئة بالدراجات الهوائية والمشاة والطنابر (ج. طنبر: مصطلح سوري عامي وهو عربة يجرّها حصان أو بغل)، بعد أن كان مشهد مرورها قليلاً قبل اندلاع الثورة في العام 2011؛ هكذا بدا المشهد في العاصمة دمشق وريفها الذي يتميز بمساحاته الخضراء، إذ يُعدّ سلّة دمشق الغذائية، ومورداً مهماً للمحاصيل والمنتوجات الزراعية والألبان والأجبان.
بدأ نصر الله عمله على الطنبر كاستعمال شخصي لنقل نتاج أرضه في أطراف مدينة دوما في ريف دمشق، إلى سوق الهال، ثم تحوّل إلى خدمة فلاحي الأراضي المجاورة لنقل محاصيلهم بسبب توقف سيارات النقل، كما يقول لرصيف22، ويضيف: "لقد أصبح الطنبر ذا أهمية وقيمة، فقد وصل سعره اليوم إلى أكثر من ثلاثة ملايين ليرة سورية (أي ما يعادل 500 دولار، حسب سعر صرف اليوم)، ومن دون دابة تجرّه يبدأ سعره من مليون ليرة سورية حسب جودته ومتانته، والعجلة الواحدة سجلت ما بين 350 و500 ألف ليرة سورية، إذ يكثر الطلب عليه بعد أن أصبح أهم من السيارة التي لا قيمة لها مهما ارتفع ثمنها من دون وقود يشغّلها".
منذ العام 2013 حتى 2018، عاد استخدام الطنابر البدائية بشكل واسع في الغوطة الشرقية جنوب سوريا
استعمال أنجبه الحصار
منذ العام 2013 حتى 2018، عاد استخدام الطنابر البدائية بشكل واسع في الغوطة الشرقية جنوب سوريا، بعد أن ضرب النظام حصاراً قاسياً عليها، وقطع عنها كل وسائل الحياة، ومنع دخول الوقود، عصب وسائل النقل، إليها، فراح الأهالي يعتمدون على الطنابر بشكل كبير في نقل أمتعتهم ومحاصيلهم وبضائعهم، بالإضافة إلى استخدامه في تنقلاتهم عبر البلدات والقرى.
ولم يستطع المدنيون الاستغناء عنها حتى بعد فك الحصار ودخول قوات النظام إلى الغوطة المحاصرة، في نيسان/ أبريل 2018، إذ يعود الحديث اليوم عن هذه الوسائل، بعد شلل شبه تام يجتاح مناطق النظام، نتيجة توقف حركة المواصلات بشكل غير مسبوق، وفشل مؤسسات النظام في تأمين الأساسيات اليومية وأولها المحروقات، إذ نشرت صفحات موالية على موقع فيسبوك صوراً للحنطور، الذي يُستخدم كوسيلة نقل مخصصة لنقل الركاب.
وكانت حكومة النظام، قد أعلنت في الـ13 من الشهر الحالي، عن فرض عطلة لجميع الجهات العامة والمدارس لمدة أسبوع كامل، نتيجة عدم وجود المازوت والبنزين في سوريا، لتكون العطلة الثالثة التي يفرضها النظام في ظل أسوأ أزمة محروقات تعيشها مناطق سيطرته.
"الحنطور" يلبّي الاحتياجات
يقول أبو منصور أكرم (47 عاماً)، من سكان الغوطة الغربية، في حديث إلى رصيف22، إن "الحنطور اليوم يُعدّ أهم وسائل النقل التي يستخدمها الأهالي في العديد من المحافظات، لقد كان محط سخرية عند الأهالي بالرغم من أنه وسيلة نقل مثله مثل أي وسيلة أخرى، لكن اليوم بات الاهتمام به أكبر، والدليل هو ارتفاع أسعاره وأسعار قطع تصنيعه".
لقد أصبح الحنطور أهم من السيارة التي لا قيمة لها مهما ارتفع ثمنها من دون وقود يشغّلها، فكيف عاد إلى الشارع ومن يستخدمه؟
ويعمل أبو منصور على نقل الركاب عبر الحنطور الذي ورثه عن والده، بأسعار مناسبة، تبدأ من 5،000 آلاف ليرة سورية وما فوق (سعر الصرف 6،000 ليرة للدولار الواحد حتى تاريخ نشر التقرير)، بحسب المسافة التي يريد الراكب قطعها، وهو ما خفف على المدنيين أعباء أجور التاكسي المرتفعة جداً، والتي تتجاوز 40 ألف ليرة لمسافة 3 كيلومترات، "كما اختصر ساعات انتظار مملةً للحافلات الممتلئة ريثما تُحلّ أزمة المحروقات التي يبدو أنها ستطول"، حسب تعبيره.
ويشير إلى أن "زيادة أجرة ركوب الحنطور لا يعود إلى جشع أصحابه، وإنما يعود إلى ارتفاع العلف المقدّم للدابة، فسعر كيلو الشعير اليوم يسجل 3،000 ليرة سورية، وهو في ارتفاع مستمر، كما أن الحنطور معرَّض لأعطال عديدة، والدابة معرضة للمرض، فأجرة معاينتها وأدويتها باهظة الثمن".
بحسب أبي منصور، "العمل على حنطوره شرف كبير بالنسبة له، فبالرغم من أن قيادته متعبة خلال الساعات الطويلة، إلا أنه أفضل من مهن أخرى لا يستطيع اتخاذها بسبب آلام ظهره، كما أن هذا العمل يكفيه ذلّ السؤال ويوفّر له قوته اليومي، وقوت دابته".
تاريخ "الطنبر والحنطور"
الطنبر، هو عربة مكشوفة بعجلتين كبيرتين من خشب مُلَبّس بالمطاط لامتصاص الصدمات، وثمة نوع منه بأربع عجلات إطارية مطاطية، أما الحنطور فيتضمن سقفاً ومقاعد للأشخاص وهو بأربع عجلات يجرّها مهر نشيط بهدف السرعة، وقد عرف السوريون الطنبر وارتبط استخدامه ببيع الكاز والمازوت والغاز والخضار من فترة الثمانينيات من القرن الماضي حتى أول الألفية الثانية، إذ يطوف عليه بائع متجول في الشوارع والحارات.
في المقابل، لم تعرف بلاد الشام عربات تجرّها الدواب قبل عام 1833، إذ كانت الجياد والبغال والجمال والحمير هي وسائل النقل المعروفة التي يتنقل الناس بها بين المدن، حتى أدخل قنصل بريطانيا في دمشق عام 1833، أول عربة تجرها الخيول إلى بلاد الشام، وكانت غرفةً خشبيةً صغيرةً مصنوعةً من ألواح متباعدة تثبت على أربع عجلات، ولها نوافذ وستائر، وتُغطّى بقطعة قماش عازلة تقي الراكب حرارة الصيف وبرد الشتاء، يقودها على مقعد أمامي مرتفع من يُعرف بالسائس أو العربجي.
لم تعرف بلاد الشام عربات تجرّها الدواب قبل عام 1833، إذ كانت الجياد والبغال والجمال والحمير هي وسائل النقل المعروفة
ويُعدّ الإنكليز أول من استخدم الحنطور، وكان أحد مظاهر الترف ومرتبطاً بالأثرياء وميسوري الحال لأن أجرته عالية، وقد انتهى عصره مع وصول الترامواي بدءاً من عام 1907 إلى دمشق ودخول الكهرباء، ويوماً بعد يوم ونتيجة تطور وسائل النقل ودخول السيارات والدراجات، تحولت الحناطير بشكل عام إلى مقتنيات معروضة في المتاحف للدلالة على الإرث القديم.
دكاكين الحدادة
يقصد أصحاب الطنابر والحناتير دكاكين الحدادة لإصلاح أعطالها، فمع الأوزان التي تحملها تزداد أعطالها، فضلاً عن أن هناك مهناً تنتشر على حساب مهن أخرى، كما هو معروف في كل الحروب، وخاصةً في الأرياف ذات الطابع الزراعي.
والتقى رصيف22، بصاحب محل حدادة في المنطقة الصناعية في مدينة دوما شمال شرق العاصمة دمشق، وهو يعمل في المهنة منذ أكثر من عشرين عاماً، وأشار إلى أن المهن بشكل عام ومنها الحدادة تعاني من جمود واضح، بسبب الوضع المعيشي المعروف، فهناك نسبة كبيرة من أصحاب المهن اتجهت إلى الزراعة بسبب طبيعة المنطقة وتميّز أهلها بالزراعة، ومن جهة أخرى فإن الفلاح مهما قست عليه الظروف فهو قادر على كفاية أسرته يومياً بمنتوج أرضه، فمئات الآلاف من المدنيين عاشوا على الزراعة خلال سنوات الحصار.
ويلفت الحدّاد (الذي طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية)، إلى أن "دكاكين الحدادة بدأت بتصنيع وسائل نقل كالعربات الصغيرة التي تجرّها الدراجات النارية، بالإضافة إلى الأدوات الزراعية اليدوية التي يستخدمها الفلاح كفؤوس الحراثة والمناجل والمجارف وغيرها، مع بداية الحصار بسبب الحاجة الملحة إليها، ثم توجهت إلى صيانة الطنابر والحناطير بعد أن انتشرت آنذاك وازداد الطلب عليها، لأنها استطاعت أن تلبّي احتياجات واسعةً، وعوّضت عن وجود السيارات التي ظلت مركونةً لسنوات بسبب الحصار على المحروقات".
دكاكين الحدادة بدأت بتصنيع وسائل نقل كالعربات الصغيرة التي تجرّها الدراجات النارية، ثم توجهت إلى صيانة الطنابر والحناطير بعد أن انتشرت آنذاك وازداد الطلب عليها، فكيف يبدو المشهد في العاصمة؟
لا نستطيع القول إن دكاكين الحدادة تصنّع تلك العربات بمعنى التصنيع، فالمشكلة الأولى تكمن في عدم توفر الكهرباء التي تعتمد عليها المهنة بشكل أساسي وعدم توفر المحروقات التي تشغّل المولدات الكهربائية، كما أن الأمر مقتصر على الطلب الذي يُعدّ قليلاً مقارنةً بالسنوات السابقة التي عشناها خلال الحصار.
وهذا ما يؤكده الحدّاد، قائلاً: "بصراحة، الأموال قليلة في جيوب الناس التي تعمل يوماً بيوم لتأمين رغيف خبزها فقط، كما أنه بالرغم من الاعتماد على هذه العربات مؤخراً، إلا أن الناس ما زالوا يعتمدون في تجوالهم على الدراجات الهوائية والتوك توك الذي انتشر مؤخراً (عربة بثلاث عجلات تعمل على الطاقة الكهربائية عن طريق شحن بطاريتها)، كما أن القطع المعدنية التالفة والقضبان الحديدية ونوابض السيارات (المقصّات) والسكك الحديدية، لم تعد متوفرةً كما قبل عشر سنوات، وإن توفرت فأسعارها لا تناسب السوق الذي يعاني من انكماش، لكن مع الأيام أستطيع القول إن الوضع المأساوي الذي نعيشه لو بقي على ما هو عليه، فسنرى الشوارع مليئةً بهذه العربات".
ويبدو أن الطنابر والحناطير التي ارتبطت بالتراث باتت اليوم من المهن والحرف القديمة الخدمية التي أعيد إحياؤها، وحاجةً يوميةً لا غنى عنها، فيما سيبقى السؤال الأهم مطروحاً عن استمرارها كمهن مستدامة لتعلقها بالظروف التي تمر بها البلاد، فحتى لو توفّر الوقود تبقى تكاليف النقل والتنقل عبئاً مرهقاً على كافة شرائح المجتمع، في الوقت الذي لا يتجاوز فيه متوسط راتب الموظف الحكومي 30 إلى 50 دولاراً شهرياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...