لا تغيب سحنة الرجل الخمسيني الذي استوقفني بالقرب من فندق ذي خمس نجوم، في قلب العاصمة السورية دمشق، عن بالي، حينما طلب مني مساعدةً ماليةً ليتمكن من العودة إلى منزله في "بلودان"، بعد قوله إن "نشّالاً" قام بسرقة محفظته بما فيها من هوية شخصية ومال. ولأن منظره لم يكن يوحي مطلقاً بغير ما يجبرني على تصديق الرواية، قمت بمنحه بعض المال على خجل، لكونه قد لا يكون كافياً في مثل هذه الحالة، بالرغم من أن ما منحته إياه كان يعادل 10 دولارات، وذلك في العام 2007.
لكن الصدمة كانت كبيرةً حين صادفت الرجل نفسه مساء اليوم ذاته، جالساً على كرسي خشبي مربّع يشرب الشاي عند إحدى البسطات "تحت جسر الثورة"، والصدفة حصلت لأني كنت أتردد إلى المكان لزيارة قريب لي يعمل في المنطقة. وما أن شاهدت الرجل الذي كان صباحاً يرتدي بزّةً رسميةً وحذاءً ملمّعاً، وقد جلس على كرسيه يتقاسم أطراف الحديث مع آخرين، اتخذت لنفسي مكاناً بالقرب منه، ورحت أستمع إلى لكنته المغايرة لتلك التي حدّثني بها صباحاً، لاكتشف أن اسمه "أبو عبدو"، وهو سوري ينتحل أحياناً شخصية لبناني أو أردني، ويتنقل بين المحافظات ليقوم بالتسوّل بصورة الرجل الأنيق.
دفعتني حشريتي لأجلس معه وأسمع روايته. الرجل دلف من مدينته في شمال سوريا إلى دمشق، ليعمل، وتنقّل بين مهن عدة آخرها العمل في بسطة لبيع خضار، ثم حدّثه صديقه ذات يوم عن مصادفته شخصاً تقطعت به السبل في مركز انطلاق الحافلات الذي يعرفه السوريون باسم "كراج البولمان"، وقد لمعت في رأس "أبو عبدو" الفكرة، فتوجّه إلى محل لبيع الألبسة الأوروبية، واقتنى بدلةً رسميةً وحذاءً.
في أوّل يوم عمل له، لم تكن الأمور سهلةً كما تخيّل، لكن ما تحصّل عليه آخر النهار شجعه على الاستمرار، فقد جمع مبلغ 10 آلاف ليرة (220 دولاراً آنذاك)، ومع المزيد من التفكير اكتشف أبو عبدو، أن العمل في مكان واحد وبصورة واحدة قد يكشفه لاحقاً، فقرر أن يبدّل لكنته وثيابه، بل راح إلى مدن أخرى مثل طرطوس واللاذقية وحمص وحماه، وفي كل محافظة كان يظهر بهندام مختلف ولكنةٍ مختلفة، ما جعل الناس تصدّقه. ففي اللاذقية ارتدى سروالاً قصيراً وقميصاً مفتوح الصدر ليبدو لبنانياً، وفي طرطوس ارتدى زيّاً يوحي بأنه أردني، وفي كل مرة كان يستخدم لكنةً مختلفةً، والناس ببساطتها تصدّق الغريب.
سائقو تاكسي؟
ثمة شريحة قد تكون بسيطةً جداً من سائقي التاكسي، تعتمد التسوّل لزيادة "الغلّة" من خلال استعطاف الركّاب. الصحافية السورية هند علي، كتبت ذات يوم تدوينةً على صفحتها تتحدث عن تجربتها مع سائق تاكسي صادفته مرتين أو ثلاث مرات، وقد وضع كيساً من الأدوية خلف المقود وإلى جانبه ظرف يحتوي أوراقاً، وطلب منها في المرة الأولى مساعدةً ماليةً لكون زوجته أصيبت بـ"جلطة دموية" في ساقها على إثر ولادتها، وفعلت ذلك بعد أن تحولت إلى فريسة تعاطفها معه. وفي المرة الثانية التي صادفته فيها، لم تقوَ إلا على دفع مبلغ إضافي له بعد روايته الحكاية نفسها عن زوجته، وهذا بالرغم من معرفتها بأنها تُستَغل، وتفسر الأمر بقولها: "ربما لأني لم أتعلم بعد كيف أواجه الكاذب بكذبه".
اكتشف أبو عبدو، أن العمل في مكان واحد وبصورة واحدة قد يكشفه لاحقاً، فقرر أن يبدّل لكنته وثيابه، بل راح إلى مدن أخرى، وفي كل محافظة كان يظهر بهندام مختلف ولكنةٍ مختلفة، ما جعل الناس تصدّقه
خلال حديثه إلى رصيف22، يروي علي الجاسم، حادثةً مشابهةً تقريباً، فبعد أن دلف الرجل إلى ريف دمشق الغربي من مدينة دير الزور بسبب الحرب، كان مضطراً إلى ركوب سيارات الأجرة لجهله شوارع العاصمة، وقد التقى يوماً برجل يضع كيساً فيه علب أدوية فارغة أمامه لتكون "أكسسواراً"، في مسرحية ابنته المريضة التي يكلّف علاجها مبلغاً ضخماً وقد نفد الدواء الذي تحتاجه لتبقى حيةً. وما يزيد طين التعاطف بلّةً هنا، أن الرجل الخمسيني تقريباً يزعم بأن الفتاة المريضة هي ابنته الوحيدة التي وُلدت بعد طول انتظار وعلاج لرحم الأم التي لم تتمكن من الحمل قبل سن الثانية والأربعين.
يصف الجاسم رواية السائق بالقول: "تجبرك على التعاطف، فكيف لك أن تجد رجلاً يعمل سائق تاكسي وتتوقع أنه يتسول؟ وكيف لك أن تعرف أن فتاةً على وشك الموت من دون أن تتحرك فيك كل أحاسيس الحزن والتعاطف؟". دفع علي مبلغاً يفوق الأجر المتفق عليه بثلاث مرات، كمحاولة للمشاركة في إنقاذ الفتاة، لكن الصدفة البحتة جمعته بالسائق نفسه بعد أسابيع، ليجد الكيس بالوضعية ذاتها تقريباً، وسمع الرواية نفسها فعرف أنه وقع ضحية متسول عبقري يجيد الإقناع. وبعد أن أنصت وسمع التفاصيل عينها، يقول علي: "بكل برودة قلت له: ألم تزل مريضةً؟ صادفتك قبل أسابيع والكيس نفسه لا يزال في مكانه!".
الصدفة أيضاً جمعتني بسائق تاكسي يروي بصوت شجيّ حكايةً يقول فيها إنه تعرض لحادث سير، وهو مجرد سائق بدوام محدد، ويجب أن يقوم بسداد ثمن إصلاح السيارة لصاحبها، وقد ضاع وقته في مجادلة حول من تسبب بالضرر، ولم يقم بجمع غلّة كافية، و"لن يقوى على شراء خبز لعياله"، وفي النهاية إن لم يكسب تعاطف الراكب بشكل تلقائي، سينهار شبه باكٍ عند نهاية المطاف، ليقول بصراحة: "مشان الله ساعدني"، وقد يلحق بالراكب إن قرر النزول من دون تلبية هذا الرجاء ليكررها محرجاً إياه في الشارع.
صائدو الزكاة
عدد كبير من السوريين بات يعتمد على ما يصله من ذويه القاطنين في الخارج، ليتمكن من إتمام تكاليف معيشته الشهرية، وتشكّل الحوالات الخارجية عماد دخل عدد كبير من الأسر. ولأن الازدحام أمام مكاتب الحوالات يعني أن كل من يقف سيحصل على مال، فقد تحولت هذه المكاتب إلى مقصد للمتسولين طلباً لـ"الزكاة".
تجلس أم أحمد، أمام أحد فروع شركة تحويل مالي شهيرة، تنتظر الخارجين من المكتب بعد استلامهم الحوالات المالية التي وصلت إليهم، وتقول لرصيف22: "أطلب من الناس زكاة أموالهم وعيالهم، وغالباً من يستجيب لندائي هو من يستلم حوالةً بمبلغ كبير. الفقراء مثلي لا يردّون عليّ". وتضيف: "سابقاً، كنت أجوب الأسواق، لكن وقوفي ذات مرة أمام مكتب الحوالات مكّنني من الحصول على مبلغ جيد، فصرت أجلس هنا صباحاً مع بداية عمل المكتب، وأغادر قبل إغلاق أبوابه بقليل، وأي شخص يحاول مشاركتي المكان سأطرده، فهنا رزقي وحدي".
وقوفي ذات مرة أمام مكتب الحوالات مكّنني من الحصول على مبلغ جيد، فصرت أجلس هنا صباحاً مع بداية عمل المكتب، وأغادر قبل إغلاق أبوابه بقليل، وأي شخص يحاول مشاركتي المكان سأطرده، فهنا رزقي وحدي
ومثلها تفعل سيدة تزعم بأن اسمها سُميّة، إذ تجلس بالقرب من مكتب آخر وسط العاصمة، والمكاتب المزدحمة هي التي تحصّل بالقرب منها مبالغ ماليةً، لكن سمية تتقاسم المكان مع ثلاثة أطفال. لاحقاً، وبعد أن قبلت أن تتحدث إلى رصيف22، اعترفت بأنهم أبناء أختها الصغرى، وأنهم جميعاً يسكنون في "بيت ع العضم"، في منطقة "جرمانا" شرق العاصمة، وبأن جملة "زكا عن مالك"، التي ترددها لكل خارج، تدرّ عليها مبلغاً يصل إلى 100 ألف ليرة يومياً، وأن الأطفال يحصلون تقريباً على 20 ألف ليرة لكل منهم خلال عمل أساسه ملاحقة من لا يردّ على سمية، ليكرر كل منهم جملة "أمانة يا عمو... احسبها زكاة". ولا يترك الطفل من يلاحقه إلا في حالتين، إما عند أخذ المال أو عندما ينهره الشخص بطريقة عنيفة لفظياً، وتضيف سمية: "قد ما لمّ الواحد من الناس ما بلحّق مصروف. الحياة بدها يومياً أكثر من 100 ألف"، ولا تقبل بالإفصاح عن مجموع المبالغ التي تحصدها وأبناء شقيقتها شهرياً، وتختصر الأمر بالقول: "الرزق من الله، واللي مثلنا أولى بزكاة الناس".
إيجار البيت؟
خلال سهر رمضان الماضي، كتب الصحافي يعرب العيسى، تدوينةً على صفحته على فيسبوك، يتحدث فيها عن "فقر المخيلة"، وكانت فكرتها الأساس: "مشيت من باب شرقي وحتى شارع العابد، ولكم أن تتخيلوا كم متسولةً قابلت في ثمانية كيلومترات، في صباح ربيعي رمضاني سوري. سمعت مرات كثيرةً روايةً واحدةً فقط: على حب النبي، والله مكسورة على إيجار البيت".
هذه الرواية ظهرت فعلياً خلال فترة الحرب، وغالباً ما تكون من سيدات تجاوزن العقد الرابع من العمر، لكن الابتكار في هذه الرواية يأتي من بعضهن، فمثلاً في "ساحة المرجة" وسط العاصمة، قد تصادف نساءً، أو أطفالاً لا تبدو عليهم هيئة المتسول المعروفة، فتجده بثياب نظيفة وشعر مسرّح، مثل سمر، التي عمرها عشر سنوات، وبعينيها الخضراوين وشعرها الأشقر وفستانها النظيف والأنيق، ستعطي انطباعاً أولياً بأنها من عائلة محتاجة حقاً، وليست ممتهنةً التسول.
تقص رهام رواية "إيجار البيت"، بشيء من البكائية: "أبي إجى ع الشام ليشتغل وما عاد عرفنا شي عنو، ومستأجرين غرفة والزلمة بدو يطلّعنا منها لأن ما معنا ندفع الإيجار"
خلال الحديث معها، تقول: "نحن مو شحادين ولا قرباط، بس بابا مفقود وماما ما معها إيجار البيت"، وبمراقبتها عن بُعد، ستكتشف أن لها شقيقتين بالمواصفات عينها، إحداهن أكبر منها سنّاً، يجلسن مع سيدة ترتدي عباءةً سوداء عند زاوية حديقة بالقرب من الساحة، ليتناولن وجبةً من "سندويشات الشاورما". بعد الاستراحة، تعود سمر وشقيقتاها إلى الطواف على الجالسين في المقاهي أو المارة ليكررن سرد الرواية ذاتها، وهذا ما أكده نضال الأحمد، حين طلبتُ منه أن يسأل الفتاة ذاتها، سمر، السؤال الذي بدأت حديثي به معها قبل أن أعطيها مبلغاً من المال.
رهام، هو اسم للفتاة نفسها التي تعمل في التسول وعمرها عشر سنوات، وتقص رواية "إيجار البيت"، بشيء من البكائية، وقد جاءت وأهلها من حلب للبحث عن والدها المفقود وبقوا في دمشق. وحسب رواية الفتاة التي تقصّها كمن يذاكر درساً: "أبي إجى ع الشام ليشتغل وما عاد عرفنا شي عنو، ومستأجرين غرفة والزلمة بدو يطلّعنا منها لأن ما معنا ندفع الإيجار".
لا توجد إحصائيات عن عدد المتسولين في سوريا، وأشكال التسول متعددة تبدأ بالمباشر، ولا تقف عند حدود بيع الورد أو السكاكر والمناديل الورقية أو مسح زجاج السيارات. وبسؤال عدد كبير من المتسولين، يتبين أن متوسط دخل المتسول يصل إلى 50 ألف ليرة سورية يومياً، وإذا ما كانت الأسرة مكونةً من 5 إلى 6 أشخاص، فإن دخلها اليومي سيصل إلى نحو 300 ألف ليرة سورية (70 دولاراً)، وشهرياً يصل إلى نحو ألفي دولار.
غالباً ما تكون الأسر المعتمدة على التسول مرتفعة العدد وكل أفرادها عاملين، ويعيشون في مناطق عشوائية أو مبانٍ قيد الإنشاء، ولا يرتبط التسول بالفقر، ولا ترتبط استجابة المانح بحالة التعاطف، فكما اتفق عدد كبير ممن سألتهم عن سبب منح المال للمتسولين بالرغم من وجود قناعة بعدم فقرهم، تأتي الإجابة: "كي أتخلص من ملاحقته"، ويبدو أن المتسول المحترف هو من يجبرك على الدفع له ببكائيته التي يقصّها عليك، وملاحقتك في الشارع بما يحرجك أمام بقية المارة، فتخشى على نفسك من أن توصم بـ"البخل"، أو ذاك الذي يجيد الاحتيال برواية تجبرك على التعاطف حتى إن لم تكن مقتنعاً بحكايته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع