"أنتم جعلتم الشارع يتجرّأ علينا، وقمتم بتأليبه ضدنا، وأصبحت لديكم القدرة على خلق رأي عام، وهذا يجهض مشروعنا الإسلامي في العراق. أنتم تمثلون أجندات خارجيةً مرتبطةً بإسرائيل وأمريكا".
هذا ما سمعه صائب الشامخ (42 عاماً)، وهو مدرّس اللغة العربية من محافظة ميسان جنوب العراق، من قبل أحد أعضاء مجلس المحافظة، لأنه شارك في الاحتجاجات وكان ناشطاً ميدانياً ورئيساً لمؤسسة "تبني"، ويروي لرصيف22: "شاركت في معظم الاحتجاجات التي اندلعت في البلاد، بالإضافة إلى أن جزءاً كبيراً من عملي في المؤسسة كان ينحصر في مراقبة أداء الحكومة المحلي والمركزي، لذا بتنا نشكل هاجس خوف وقلق لدى السلطات والأحزاب والميليشيات الحاكمة".
جوبهت الاحتجاجات التي اجتاحت العراق مطلع تشرين الأول/ أكتوبر من العام 2019، اعتراضاً على انتشار الفساد وتفشي البطالة وتردّي الأوضاع الاقتصادية، بعنفٍ مفرط من قبل القوات الأمنية العراقية، ولقي المئات من الشباب حتوفهم وجرح الآلاف، فضلاً عن سجن المئات وخطفهم وتغييبهم. وبالرغم من أن التظاهرات أطاحت بالحكومة آنذاك، إلا أن المشاركين فيها يرون أن "ثورة تشرين" كما يطلقون عليها لم تؤتِ ثمارها، وأن السلطة متمثلةً في الأحزاب الحاكمة والميليشيات المتنفذة وبدعمٍ من إيران، التفّت على مطالبهم وأخمدت التظاهرات التي كان من المفترض أن تطيح بهرم السلطة.
عنف السلطة لم يكن وحده العنصر الذي يقمع كل من يجرؤ على الاعتراض. مطالبات العراقيين بمحاربة الفساد صاحبها خطاب وطني جامع لقوى تشرين، يرفض التبعية للخارج وتحديداً لإيران، كونها تتحكم بمقدرات البلاد وسياستها عن طريق أتباعها الكثر في العراق، وغالبية هؤلاء هم ميليشيات سلّحتهم إيران للمحاربة تحت رايتها في بلاد المواجهة، وأهمّها سوريا، فيما الموجود في العراق صارت مهمّته تأمين خضوع البلاد الكامل لما يُرضي طهران.
مارست الميليشيات العراقية المطلوب منها خلال الاحتجاجات؛ قمع، وخطف، وتهديد، وحتى قتل. اصطادت من استطاعت من الفاعلين منهم، وحاولت الوصول إلى لائحة طويلة منهم
مارست هذه الميليشيات المطلوب منها خلال الاحتجاجات؛ قمع، وخطف، وتهديد، وحتى قتل. اصطادت من استطاعت من الفاعلين منهم، وحاولت الوصول إلى لائحة طويلة وضعتها من أجل الحد من صعود الخطاب الوطني على حساب الخطاب الديني الذي تتلطى خلفه هذه الميليشيات وإيران، كما يقول ناشطون في "ثورة تشرين".
كل معارض مطلوب
أصيب الشامخ، خلال احتجاجات تشرين بعيار ناري لكنه نجا من تلك الحادثة. بعدها، أصدرت الجهات الأمنية مذكرةً سرّيةً تفيد بأن مجموعة من الناشطين سيتعرضون لعمليات اغتيال كان اسمه من ضمنها، لكن "اللافت والغريب أن الجهات الأمنية لم تأخذ على عاتقها حمايتنا أو حتى تبليغنا، لقد اطّلعنا على تلك الوثيقة من مصادرنا الخاصة"، يقول.
صديقه مجيد الزبيدي، تعرّض أيضاً لمحاولة اغتيال فاشلة، والأشخاص الذين حاولوا اغتياله كانوا يستقلّون سيارةً بيضاء من نوع تويوتا (رأس الثور)، وهي السيارة نفسها التي حاولت اغتيال الناشطة لوديا ريمون وصديقها عباس صبحي، في مدينة البصرة. بعدها، لقي الناشط أمجد الدهامات حتفه في عملية اغتيال، يقول الشامخ إن "تلك الحادثة كانت القشة التي قصمت ظهر البعير فقررنا حينها الانسحاب حفاظاً على أرواح الشباب".
يروي الشامخ أنه بعد تلك الحادثة غادر إلى إسطنبول: "بقيت هناك لمدة عام تقريباً، واجهت صعوبات جمّةً في إيجاد سكن لي ولعائلتي كوني أباً لأربعة أبناء، وبسبب الوضع المادي المتردي، وصعوبة انخراط أبنائي في المدارس هناك، عدت مرغماً إلى كردستان العراق. لم أتمكن من إيجاد فرصة عمل كون تلك المدن تعاني أيضاً من كسادٍ اقتصادي، وبسبب اختلاف اللغة، وفي ظل تلك الظروف كنت ملزماً بدفع إيجار المنزل، وإعالة عائلتي، والتكفل بمصاريف أولادي الطلاب، الذين قمت بتسجيلهم في مدارس للنازحين".
يعيش اليوم حالةً مترديةً على مختلف الصعد، والأهم من ذلك كله أنه حتى الآن لا يستطيع العودة إلى مدينته ميسان لأن التهديد ما زال قائماً. يعيش حياته ساعةً بساعة ولا يعرف ما ينتظره وعائلته، كل ما يعرفه أنه اليوم على قيد الحياة وإلى جانب أولاده وزوجته.
ناجية أخرى
تتحدث الناشطة في مجال حقوق الإنسان، لوديا ريمون (28 عاماً)، عن كيف تلقّت جملةً من التهديدات إبان ثورة تشرين، لكن التهديد الأخطر لها كان عام 2020، فقد طُلب منها وبشكل قاطع ترك نشاطها السياسي والمدني في مقابل سلامتها مع عرض وظيفي. وحين رفضت أتاها الرد: "إذاً لن تكلفينا سوى طلقة واحدة"، ليمطروها بعد ذلك بوابلٍ من الرصاص أمام منزلها.
كانت لدي أحلام كثيرة وطموحات كبيرة، لكن ذلك كله تلاشى، لأن أحدهم قرر أن يغيّر مصيري. أعيش الآن وحيدةً، في مكانٍ ناءٍ عن عائلتي وأصدقائي. في العام الماضي حُرمت من حضور جنازة جدتي، شاركت بالتشييع من خلال كاميرا الهاتف. هذا يؤلمني
تروي لوديا لرصيف22: "كنت أنوي الذهاب إلى عزاء الناشط تحسين أسامة الذي اغتيل قبل أيام بـ21 رصاصةً، وفي أثناء خروجي من منزلي وبينما كنت أهمّ بصعود السيارة التي كان يستقلها الصديقان، عباس وفهد، اعترضتنا سيارة بيضاء من نوع تويوتا (رأس الثور) كانت تقلّ أربعة أشخاص فتحوا النار علينا، وأطلقوا ما بين 15 إلى 20 رصاصةً ما أدى إلى إصابتي في قدمي، وإصابة صديقي عباس برصاصةٍ اخترقت إحدى رئتيه، لكنه نجا من تلك الحادثة بعد عملية جراحية".
في 17 آب/ أغسطس 2020، غادرت لوديا البصرة على وجه السرعة إلى وجهة ما (لا تفصح عنها لدواعٍ أمنية)، وتقول: "نجوت بنفسي من دون وداع أحد، تركت كل شيء خلفي، العائلة، والأصدقاء، والعمل، لقد عملت جاهدةً لسنوات من أجل مكانتي المجتمعية، والقضايا التي آمنت بها. كانت لدي أحلام كثيرة وطموحات كبيرة للمستقبل، لكن ذلك كله تلاشى، لأن أحدهم قرر أن يغيّر مصيري. أعيش الآن وحيدةً، في مكانٍ ناءٍ عن عائلتي وأصدقائي. في العام الماضي حُرمت من حضور جنازة جدتي، وكنت أشارك عائلتي التشييع من خلال كاميرا الهاتف. هذا يؤلمني".
هي من عائلة متوسطة الدخل، تُرسل إليها ما تستطيع شهرياً. أصدقاؤها يفعلون الأمر نفسه. تقضي يومها في غرفة صغيرة وفي مدينة يصعب الحصول على فرصة عمل فيها. تقول: "أعاني من الاكتئاب ومن آثار ما بعد الصدمة. أعيش في عزلة ولا أتواصل مع الناس لفتراتٍ طويلة. أخاف من النزول إلى الشارع، وأشعر برهبةٍ من أصوات السيارات حين تقترب مني".
تكمل لوديا الآن دراستها عن طريق الإنترنت، وهو ما ساعد في تحسّن حالتها النفسية، تقول: "أتمنى أن أعود في يومٍ ما إلى مدينتي البصرة، وأعيش فيها حياتي بشكلٍ طبيعي، لكن ليس هناك أي ضامن للعودة. إذا كان رئيس وزراء العراق يتعرض للقصف من قبل الميليشيات، فمن يضمن لي سلامتي؟".
القتل عادة
يذكر الصحافي والناشط المدني منتظر بخيت (33 عاماً)، من محافظة البصرة جنوب العراق، أنه تعرّض لجملةٍ من التهديدات بعد احتجاجات تشرين، مرةً من قبل شخص ينتمي إلى ميليشيا عصائب أهل الحق التابعة لرجل الدين الشيعي قيس الخزعلي، ومرةً من قبل شخص ينتسب إلى أفراد حماية محافظ البصرة أسعد العيداني، كما اتُّهم بخيت في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019، في دعوى قضائية مسرّبة، بمحاولة إسقاط النظام والتحريض على العنف والتخابر، غادر حينها على وجه السرعة إلى تركيا، ليعود بعدها إلى مدينته.
قبيل الانتخابات النيابية الأخيرة التي شهدها العراق، تواصل مع بخيت وسيط حكومي طالباً منه العودة، لكنه رفض لأنه خبر أن القضية لا تتعدى كونها دعايةً انتخابيةً
لم يُحرّك القضاء الدعوى ضدّه، لكنه علم أن ما يُسمّى أمن الحشد الشعبي سيتابع القضية ولديهم مذكرة تضم 5 من الصحافيين كان هو من بينهم، واحد من الذين وردت أسماؤهم في المذكرة الصحافي أحمد عبد الصمد الذي التقاه بخيت وطلب منه توخي الحذر، لكن عبد الصمد لم يكن مهتماً وقام بطمأنة بخيت وأخبره بأن شيئاً لن يحدث، بحسب ما يذكر بخيت، الذي غادر بعدها على الفور إلى كردستان العراق، وبعد عشرة أيام فقط تعرض عبد الصمد للاغتيال هو وزميله المصوّر صفاء غالي.
يروي بخيت لرصيف22: "أصعب مراحل الحياة حين تكون في مدينة تجهلها تماماً، وليس لك فيها صديق أو عائلة، ومن دون عمل ويجب عليك إيجاد مكان لتسكنه أنت وعائلتك، فأنا لدي زوجة وابنتان، وبقيت لأشهر من دون عمل، وبسبب اختلاف اللغة والجغرافيا تدنّت فرصي في العمل وتراجع مدخولي إلى النصف، لذا اضطررت إلى التنقل في أكثر من مؤسسة، لذلك كان أهلي يرسلون لي المال من أجل سداد إيجار شقتي. أتى ذلك بالتزامن مع جائحة كورونا إذ مرضت والدتي ولم أتمكن من زيارتها".
يضيف: "كنت مرغماً على تسجيل إحدى بناتي في مدرسةٍ (كرفانية) للنازحين، في ظلِ طقسٍ باردٍ، وثلوج. كانت سنةً عصيبةً عليّ وعلى عائلتي، صحيح أنني ربحت أمني الشخصي لكن على حساب الجانب المادي والنفسي، فأنا وزوجتي انتكسنا نفسياً، كما تفاقمت حالتي سوءاً بعد اغتيال اثنين من أعز أصدقائي، وهما الناشطة المدنية الطبيبة ريهام يعقوب، والناشط المدني تحسين أسامة، وأيضاً محاولة الاغتيال الفاشلة لصديقيّ لوديا ريمون وعباس صبحي".
يتحدث بخيت عن إمكانية عودته إلى البصرة: "ليس هناك ضامن أبداً، فلقد تم التواصل معي ذات مرة حين قدم قائد عمليات جديد للبصرة فدعا الأشخاص الذين غادروا المدينة لدواعٍ أمنية أو سياسية إلى العودة، فتوجهت بالسؤال إلى الشخص الذي تواصل معي: هل تضمنون سلامتي؟ فأجابني قائلاً: المسؤول لا يضمن سلامته، فكيف سيضمن لك سلامتك!".
أيضاً قبيل الانتخابات الأخيرة التي شهدها العراق، تواصل معه وسيط حكومي طالباً منه العودة، لكنه رفض لأنه خبر أن القضية لا تتعدى كونها دعايةً انتخابيةً، فحالما يفوز أو يخسر المسؤول من الممكن أن أكون لقمةً سائغةً، وتتم تصفيتي، كأصدقائي الذين لقوا حتفهم. يختم: "الكثير من الناشطين والصحافيين الذين هربوا من مدنهم، اضطرهم شظف العيش، وانعدام فرص العمل، وعدم توفر سكن لائق، إلى العودة مرغمين، لكنهم تواروا عن الأنظار واعتزلوا نشاطاتهم السياسية والمدنية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...