لم تنتهِ حرب التسريبات التي أشعلها الإعلامي العراقي علي فاضل. فمن التسجيلات الصوتية المزعومة لرئيس الوزراء الأسبق وزعيم ائتلاف دولة القانون البرلمانية نوري المالكي، إلى تعهّد وزارة لخدمة المصلحة الحزبية بدلاً من الشعب، يستمر الجدال وتتوالى الفضائح.
نشر فاضل في 19 آب/ أغسطس الحالي، فيديو يظهر فيه وزير الصناعة السابق في حكومة عادل عبد المهدي، صالح عبد الله الجبوري، وهو يضع يده على المصحف ويقسم أن يكون ووزارته في خدمة أحمد الجبوري، رئيس حزب الجماهير المعروف بـ"أبو مازن"، بعد تسلمه المنصب.
وكان أبو مازن قد برر هذا التسريب، في بيان نشره على صفحته على فيسبوك، قال فيه: "إن مرشحي الحزب للمناصب الحكومية دائماً ما يتم التأكيد عليهم للعمل على تنفيذ توجيهات الحزب التي تصبّ في خدمة العراق وشعبه، والقسم المؤدّى يعبّر عن توجهات حزبه الساعية إلى خدمة العراق والنهوض بواقع الصناعة الوطنية ومحاربة الفساد والتأكيد على النزاهة والحفاظ على المال ولا نرى في ذلك أية خدمة شخصية أو حزبية كون حزبه بعيداً كل البعد عن ذلك".
إثبات التسريبات
عاد فاضل، مساء الأربعاء 25 آب/ أغسطس، بتسريب صوتي جديد، يجمع أبا مازن مع شخصية مجهولة باسم محمد الهجف، والأخير وفق نمط الكلام بين الطرفين، مقرّبة منه وتحظى بثقته، وقادرة على الوصول إلى كافة أمواله ومشاريعه.
يضع وزير الصناعة السابق صالح عبد الله الجبوري يده على المصحف ويقسم أن يكون ووزارته في خدمة رئيس حزب الجماهير المعروف بـ"أبو مازن"
يدور الكلام بين الطرفين حول تعيين القاضي فيصل العزاوي الذي يرغب أبة مازن في توليته على المحكمة الجزائية كبديل من أحد المتقاعدين، ثم ينتقل إلى تسليم مبلغ 300 مليون دينار، أو ما يقارب 240 ألف دولار للقاضي خلف، ولم يوضح الدافع وراء تسليم هذا المبلغ بشكل صريح.
كما تطرق إلى بعض المصاريف الأخرى والأرباح المتحصلة، ويؤكد أبو مازن في التسريب الصوتي المنسوب إليه، التزامه بقضية استجواب الوزير صالح، وتعاونه مع المحافظ من أجل توقيع بعض الصكوك.
أبو مازن، هو محافظ صلاح الدين السابق ورئيس حزب الجماهير، سبق أن حُكم عليه في عام 2017، بثلاثة أحكام بالسجن، بتهمة استغلال المنصب والاستيلاء على أراضي الدولة في محافظته وبيعها لحسابه الخاص. ونصّ الحكم على سجنه ثلاث سنوات، مع وقف تنفيذ سنتين منها، وما أن دخل السجن لقضاء سنته المتبقية حتى غادره بعد تدخل الوساطات السياسية في الموضوع.
وهذه ليست المواجهة الوحيدة بين أبي مازن والقضاء، إذ تشير تسريبات إلى اعتقاله مرتين في عهد النظام السابق بتهمة السرقة، وبعد أن أسقط القضاء الدعاوى الموجهة ضده، عاد إلى خوض الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وحصد خلالها 5 مقاعد نيابية لحزبه، وكانت أصدرت محكمة قضاء أربيل مطلع العام الحالي، أوامر باعتقاله بتهمة المشاركة في اختطاف أمين عام مجلس شيوخ العشائر، ثائر البياتي.
وزير الصناعة الجبوري بدوره، واجه بعد تسلّمه المنصب اتهامات عدة وجهها إليه رئيس اللجنة القانونية محمود ملا طلال، بمنح عقود وزارته لشركات تابعة له ولحزبه، ولكن الأخير سرعان ما تعرض لكمين أعدّته هيئة النزاهة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2019، في أثناء تسلمه رشاوى، وسُجن على الإثر لمدة 6 سنوات.
أين القانون؟
التسريب الذي نشره فاضل يمكن عدّه خيانةً عظمى، خاصةً أنه يخالف القسم الدستوري وفق المادة 50 من الدستور العراقي، بحسب الباحث القانوني أمير الدعمي، ونص القسم الملزم هو التالي: "أقسم بالله العلي العظيم أن أؤدي مهماتي ومسؤولياتي القانونية بتفانٍ وإخلاص وأن أحافظ على استقلال العراق وسيادته وأرعى مصالح شعبه (...)".
ويقول الدعمي في تصريحه لرصيف22، إن "أحكام المادة 340 من قانون العقوبات، تحدد العقوبة اللازمة لمثل هذه الحالات، وتنص على السجن لمدة 7 سنوات لكل موظف أو مكلف بخدمة عامة أحدث عمداً ضرراً بأموال أو مصالح الجهة التي يعمل فيها، كما يعاقب المشاركين والمحرضين على الجريمة وفق المواد 47 و48 و49".
من جهته، يرى الباحث القانوني علي جابر التميمي، أن "تحريك الإجراءات القانونية لمثل هذه الحالات، يبدأ من البرلمان والادعاء العام كونهما ممثلين عن الشعب، كما أن القانون يعاقب أيضاً من يقوم بنشر التسريبات من دون أمر قضائي وفق المادة 240 من قانون العقوبات".
سعر التوزير يُحدَّد من خلال أهمية الوزارة ومخصصاتها المالية، ويتراوح عادةً ما بين 25 و50 مليون دولار، للوزارات الخدماتية، ويتم تحديد هذا المبلغ بعد تقييم اللجان الحزبية المختصة لطبيعة المنصب
ويوضح لرصيف22، أن "الناشر قد يتعرض بموجب هذا القانون للسجن لمدة 6 أشهر، أو يساءل وفق المادة 433 من القانون نفسه بتهمة القذف والتشهير، وهي شكوى يرفعها المتضرر حصراً أو من ورد اسمه فيها، ويعتقد أن العراق في حاجة الى تشريع قانون خاص يعالج مثل هذه الجوانب، ويواكب التطورات التكنولوجية الحاصلة".
وعن طبيعة الظاهرة بشكل عام، يعتقد الباحث القانوني محمد السامرائي، أن العقوبة لا تتعلق بصيغة اليمين الدستوري، بقدر علاقتها بتوقيع المحلَّف على إثباتات تخالف القانون، وباشر تطبيقها بعد تسلمه المنصب. مشيراً في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "طبيعة الجرم المقترف تحدد العقوبة، بعد مطابقة الإثبات الملموس مع الفعل المرتكب، ويخضع المتهم بعدها للمساءلة وبيان حيثيات الفعل والمحرّضين عليه".
تقاسم الوليمة
سلّط التسريب الأخير الضوء على زاوية لطالما عرفها العراقيون، ولكن الاستثناء هذه المرة، يأتي بإثباتها مرئياً، ما استدعى الكثير من التساؤلات عن طرق توزيع المناصب، والوسائل. وعادةً ما يتم تقسيم كعكة المناصب، وفقاً لنظام المحاصصة المعتمد منذ عام 2005، وبناءً على هذا المفهوم يتجه السياسيون نحو التوافق في ما بينهم على طريقة توزيعها.
تذهب معظم الأحزاب إلى الخوض في مزايدات من أجل حصد الوزارات، ويشير النائب السابق عن محافظة السليمانية، سركوت شمس الدين، إلى أن التسريب الأخير، "إنما أكد حقيقةً معروفةً، مفادها بأن السياسيين الأقوياء يبيعون المناصب لتحقيق مكاسب شخصية".
ويقول لرصيف22، إن "تجربته البرلمانية أتاحت له الاطلاع على مجريات الظاهرة من خلف الكواليس"، مشبهاً البرلمان "بالمزاد الذي تباع فيه مصالح الناس، لتحقيق هذه المكاسب الشخصية".
ويؤكد مصدر سياسي فضّل عدم ذكر اسمه، أن هذه المفاوضات تتم عبر سماسرة مختصين، وغالباً ما يكونون من النواب أو شخصيات الدرجة الثانية السياسية، وتتعلق مهامهم بتحقيق التوافق وتحديد سعر المنصب.
يشتري بعض التجار أو المستفيدين المقعد الوزاري من إحدى الكتل السياسية ويدفع لهم مبلغاً معيّناً، مقابل تولي الكتلة الدفاع عن الوزير الذي اختاره التجار من أجل حماية مصالحهم
ووفقاً لتصريحه لرصيف22، فإن سعر التوزير يُحدَّد من خلال أهمية الوزارة ومخصصاتها المالية، ويتراوح عادةً ما بين 25 و50 مليون دولار، للوزارات الخدماتية، ويتم تحديد هذا المبلغ بعد تقييم اللجان الحزبية المختصة لطبيعة المنصب، وفق عائدات كرسي الوزارة والمناقصات والمشاريع المتاحة عبره، وهذه المفاوضات تشمل المناصب الإدارية أيضاً".
وكمثال على طبيعة الظاهرة، فقد سبق أن قال وزير الدفاع السابق والقيادي في تحالف العزم، خالد العبيدي، في تغريدة نشرها على صفحته الشخصية في تويتر، في شهر أيلول/ سبتمبرعام 2018، على أثر خسارته رئاسة البرلمان أمام الحلبوسي، "إذا صحت المعلومات عن قيام المؤسسة الفاسدة بدفع 30 مليون دولار كرشاوى لشراء ذمم نواب لضمان فوز مرشحها لمنصب رئاسة البرلمان، فإن ذلك يُعدّ أخطر تحدٍ يواجه العراق خلال السنوات الأربع القادمة"، في إشارة إلى قيام حزب الحل الذي ينتمي إليه الحلبوسي وقتذاك، بشراء المنصب ومنحه للحلبوسي، وتساءل: "كيف تخطط المؤسسة الفاسدة، لتعويض هذه المبالغ؟".
وبحسب الرأي العام العراقي، فإن معظم هذه التصريحات تُدرج كمحاولات لإبعاد الشبهات عنهم، أو ضمن محاولات التسقيط السياسي، خاصةً أن المصرّحين جزءٌ من المنظومة السياسية والحزبية المتورطة في مزادات التوزير.
طرق اختيار الوزير
ضخامة المبالغ المدفوعة في هذه المزادات، تدل على كمية المردود المتحقق منها، والذي يشكل دخلاً بارزاً للأحزاب، كما توضح أسباب سيطرة بعض الأحزاب على وزارات الحكومة ومناصبها بالرغم من ضعفها البرلماني.
يقول السكرتير الإعلامي السابق في مجلس النواب والمحلل السياسي أحمد الخضر، لرصيف22، إن "هناك طريقتين لبيع المناصب، الأولى أن يشتري بعض التجار أو المستفيدين المقعد الوزاري من إحدى الكتل السياسية ويدفع لهم مبلغاً معيّناً، مقابل تولي الكتلة الدفاع عن الوزير الذي اختاره التجار من أجل حماية مصالحهم طوال فترة توليه المنصب".
ويحدد الطريقة الثانية في أن "تقوم إحدى الكتل بوضع وزير تابع لها مقابل ضمانات تؤخذ عليه، وأن تتولى اللجنة الاقتصادية التابعة للكتلة السياسية إدارة الوزارة من خلف الكواليس".
ومعظم الأحزاب السياسية تنتقي الوزير وفق معايير معيّنة، منها قدرته على تنفيذ أجندات حزبه، وتلجأ من أجل ضمان المنصب وكبح جموح المستوزر، إلى اتخاذ إجراءات وقائية، منها اختيار شخصية سهلة الابتزاز، وقدرتها على تهديدها عند إحساسها بابتعادها عن طموحها، بحسب مصدر سياسي.
ويحدد في تصريحه لرصيف22، الوسائل المستخدمة في الابتزاز، ومنها "امتلاكها وثائق أو مقاطع مرئيةً، تدين الوزير بقضايا فساد أو تهم مخلة بالشرف، أو استخدام ورقة علاقته بالنظام السابق، وهو ما قد يدفع الوزير إلى العودة إلى أحضان حزبه تجنباً لإنهاء حياته السياسية".
ويلفت المصدر، إلى أن بعض الأحزاب تلجأ إلى بيع وسائل الابتزاز إلى أحزاب أخرى، بعد انتفاء حاجتها إلى شخصية الوزير أو المسؤول، ويتم ذلك عبر مفاوضات مشابهة لمزادات توزيع الوزارات.
اكتفاء الأحزاب السياسية مادياً نتيجة زيادة الدعم الخارجي الممنوح لها، وتعدد مصادر دخلها، يُعدّان من أسباب التوتر السياسي الحالي
الأزمة ومزادات المناصب
اكتفاء الأحزاب السياسية مادياً نتيجة زيادة الدعم الخارجي الممنوح لها، وتعدد مصادر دخلها، يُعدّان من أسباب التوتر السياسي الحالي، إذ تحوّل مسار المفاوضات من مزادات بيع المناصب إلى مزادات الاستحواذ عليها لأسباب إستراتيجية ذات بعد دولي.
وينفي مصدر مقرب من طاولة المفاوضات السياسية التي عادةً ما تجري بين الإطار التنسيقي ومقتدى الصدر وغيرهما، تطرقها إلى مزادات بيع المناصب إلا ضمن نطاق ضيق يشمل شراء أصوات الكتل النيابية، لاستخدامها في زيادة عدد أصوات الكتل المتخاصمة.
ويشير لرصيف22، إلى أن التوجهات الدولية هي السائدة على ساحة المفاوضات، إذ تحاول كلّ من إيران وتركيا عبر حلفائهما السياسيين، توسيع قاعدته السياسية في البلاد على حساب الآخر، وتتجه في سبيل ذلك إلى مد أذرعها بكافة احتياجاتها المادية للتمسك بوجودها وتقويته.
ولكن، لماذا تتجاهل هيئة النزاهة محاربة هذه الظاهرة؟ يجيب مصدر في الهيئة لرصيف22: "الفساد ينخر كافة مؤسسات البلد، ومنها هيئة النزاهة، التي تمتلك المئات من الأدلة على تورط شخصيات بارزة في عمليات الفساد ومزادات بيع المناصب، ولكن التوافقات السياسية مع بعض مسؤولي الهيئة تمنع تمرير هذه الإثباتات إلى القضاء، الذي يتورط أيضاً في هذا الشأن".
وتندرج الكمائن التي نفذتها هيئة النزاهة أو القضاء ضد بعض الشخصيات، ضمن مفهوم انتفاء حاجة أحزابهم إليهم، كما يمكن تفسير الحظر الإعلامي على عمليات التحقيق في هذه الكمائن ونتائجها ضمن رغبة الأحزاب في تفادي الفضيحة.
في المحصلة، تعهد الوزير بأن يضع طاقته ووزارته في خدمة الحزب، بعيداً عن مصالح الوطن والمواطن، قد يعلل أسباب تراجع الخدمات وتردّي الأوضاع، والهوّة الآخذة في الاتساع بين المواطنين وسياسيي البلد الذي يحتل منذ عام 2003، قمة الهرم في إحصائيات الفساد والفقر.
يُردد الكثير من العراقيين اليوم، تعليقاً على ما يحصل في بلادهم، ما يقوله عادل إمام في فيلم "عنتر شايل سيفه": "الساعة بخمسة جنيه والحسّابة بتحسب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت