تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.
أيها الباحث عن المجهولات
جئتُ إليك مجهولة، مقسومة إلى نصفين: نهار وليل. وبينهما يمرّ العدم ليعريني. مجهولةٌ أنا يا موديانو حدّ الصفاء والعتمة. جئتُ من قريةٍ صغيرة في ريف الدلتا، تُورث أبناءها أسماءَ الأجداد، كي يسيروا على نفس الطريق، وينتهوا إلى مقابر مرصوصة في الأطراف، دون أن يسمع أحدٌ أنينهم لمرة واحدة، أو يُسمح لهم بتحطيم جدار ينقذهم من التعاسة الأبدية، إنها الممارسة القصوى للخداع، من أجل الأمان الزائف.
عندما تعلمت المشي، أخذني أبي إلى أرض جدي المتشققة، هناك لم أرَ سوى فلاحين ينزفون عرقاً، تحت شمس ملتهبة، وآبار مفتوحة لابتلاعهم. حين نظرتُ إلى السماء الفارغة، أدركتُ معنى الخديعة، وتعلمت كيف أنسج حكايتي، فحتى أصنع حكايةً تخصني، كان عليّ أن أتعلم الهدم.
في لحظة حقيقية، وأنا واقفة تحت الشمس، خلعت الاسم الذي منحه لي أبي. هنا تخلصتُ من ميراث جدتي المحبوس داخل ثوب أسود. وحين فتح الحُلمُ رأسي، خرجتُ ذات صباحٍ عارٍ، وكلما اقتربتُ من أبعد نقطة فيّ، كان البيت يتلاشى، صرت مجهولة فعلاً أيها الروائي الغريب.
وها أنا يا صديقي، أكتب إليك بلا هوية، حتماً كانت ستقودني إلى مكمن الشر! أكتب إليك وأنا جالسةٌ في أبعد نقطة في المدينة، كي أصل إلى الدرجة القصوى من الحرية، ثم أتساقط مطراً أسود، يليق بالتجربة، وبضياعي المقدر سلفاً.
يا صديقي موديانو
أعرف أنك لن تُصدق هؤلاء الذين يفصحون عن هويتهم، باليقين الأسود، دون أن يفتحوا نافذة للشك، كي يرتقوا عن الأرض. لن تصدق من اعتادوا السير في الخطوط المستقيمة، ولم يضيعوا في شوارع الليل. لن تصدق من لم يجربوا الذهاب بعيداً للوصول إلى لحظة ضياع حقيقية. لن تصدقهم، لأنك تعرف أنهم يوماً ما سيتحولون إلى أكوام من الحجارة، تستخدم في بناء بيوت جديدة، يسكنها الشيطانُ، وأنت المشرد النظيف، صديق المجهولين، الضائع بمحض إرادتك، لن تقف أبداً تحت السقف، لن تسمح للجدران باحتوائك. لقد تُركتَ للشوارع من قبل والديك، عايشت صراعات هائلة حول الهوية، بحثت عن ذاتك وسط أهوال باريس الستينيات وصخبها وعتمتها، وكنتَ "المشاهد الليلي"، والمتخفي، الذي يرى الجميع ولا يراه أحد.
ما أجمل خفتك في هذا العالم الثقيل. لقد مشيتَ طويلاً حتى امتصصتَ النهار كلّه والليلَ كلَّه. صرتَ من ضوء وظلام، ثم سكنتَ منطقةَ الظلّ الرحيمة، مع "المجهولات"، و"فتاة السيرك"، و"ودورا بروديه"، و"الصبية الطيبون"، وشباب"المقهى الضائع"؛ هؤلاء الذين لا يُخلفون أثراً يُستدلّ به عليهم. سكنتَ منطقة الظلّ، وتركتَ الآخرين يتعاركون في الساحات ويُسقطون الموتى والجرحى.
أكتب إليك وأنا جالسةٌ في أبعد نقطة في المدينة، كي أصل إلى الدرجة القصوى من الحرية، ثم أتساقط مطراً أسود، يليق بالتجربة، وبضياعي المقدر سلفاً!
كنتَ تتتبّع مصائر "المجهولات" بقلبٍ خافق، تجاهد معهنّ من أجل تدبير ثمن تذكرة قطار متجهٍ إلى باريس، تؤنسهنّ في الليالي الحزينة، تغوص في أعماقهن، دون أن تتلطخَ بالدّم، تتلمس ضياعَهن، دون أن تجرحهن بيدك الحادة، وكنتُ أنا أخوض معركتي الصامتة كي أصير حرة في وضح النهار، لكن القهر كان من نصيبي. لقد تسلحوا بالعداء يا صديقي، وكان هذا دليلي القاطع على خوفهم. الخوف من هدم تلك الأبنية الخرسانية. لقد أشفقت عليهم يا صديقي، لأنهم لا يتحملون العيشَ في الخلاء.
سأكتب أن رجلاً
ولد في غرفة عارية
محفوفة بالوجع،
خرج إلى طريقٍ لا يعرفها،
فصارت الغرفة ثقباً في القلب
كنتَ تتعقب "شباب المقهى الضائع"، تلهث وراءهم لتعريهم، من أجل الوصول إلى لحظة صدق حقيقية، أو لحظة طمأنينة. دائماً تسعى إلى أن تقبض على شيء، وحين تمسكه في يدك، تلقي به في نهر السين. كنتَ تتعقبهم في صمت، وتقطع معهم الطرق الطويلة، دون أن يلمحوك لمرة واحدة، تهدهدهم حين يشعرون بالحزن، كنت متعاطفاً مع الجميع، حتى مع الشيطان ذاته. أما أنا فكنتُ أسير وحيدة في شوارع وسط القاهرة، بحثاً عن سرير يتحمل أحلامي الثقيلة! في مقهاك الخرافي هذا، أذكر أنني كتبت إليك قصيدةً، ولم أجرؤ وقتها أن أقول إنها لباتريك موديانو، فلا أحد يقرؤك هنا يا صديقي!
عندما تجلس معي
في هذا المقهى الضائع
لا تتحدثْ كثيراً
أريد أن أسمعَ
صوت جسدِكَ الحزين
وارتعاشةَ قلبِكَ،
حين تتذكر أننا
سنفترق بعد دقائق
أرجوكَ
ابقَ صامتاً
الكلمات تُنهي كلَّ شيء،
فقط
حين أنظر إلى عينيك الموجوعتين،
فقط
اخلع قميصكَ
ثم قبّلْني بعنف
اسمح لليل بالدخول،
ألقِ بجسدك الطيب
ودعني أسجل الحكايةَ،
سأكتب أن رجلاً
ولد في غرفة عارية
محفوفةٍ بالوجع،
خرج إلى طريق لا يعرفها،
فصارت الغرفةُ ثقباً في القلب،
سأكتب أيضاً،
أنك سكنتَ في العتمة،
حتى صرتَ
صديقاً جيداً لليل،
وأنك حدثتني عن تلاشيكَ الدائم،
وبحثك عن نفسك دون جدوى،
سأسجِّل الكثير،
لكن لا تبكِ،
حين أنظر إلى عينيك الموجوعتين،
فقط
اخلعْ قميصكَ
ثم قبّلْني بعنفٍ
أنت الآن جالس في غرفتك الشاحبة، تتصفح مفكرتَك السوداء، تستعيد الزمن الذي مضى، تطلق عينيك إلى البعيد، ربما رأيتَ ضوءاً، نسيتَ إطفاءَه في مكان ما، فتجهز حقيبتك لتذهب إلى هناك، لتؤنسك ذكرياتُك.
أما أنا فقد وصلتُ أخيراً إلى مقهى الشباب الضائع بوسط القاهرة. دائماً ما تسبقني بخطوات كثيرة، لكننا يا صديقي، كنا نلتقي في نقطة الهروب، في هذا الخط الوهمي الفاصل بين النهار والليل، التقينا يا موديانو في نقطة العدم.
في لحظة حقيقية، وأنا واقفة تحت الشمس، خلعت الاسم الذي منحه لي أبي، هنا تخلصتُ من ميراث جدّتي المحبوس داخل ثوب أسود، وحين فتح الحُلم رأسي، خرجتُ ذات صباح عارٍ، وكلما اقتربتُ من أبعد نقطة فيّ، كان البيت يتلاشى
كلَّ مساء أستعيد لحظةَ هروبي من إرثي التقليدي، أراها تشبه لحظة هروبك. في هذه النقطة المعتمة، البعيدة حد العمى، لم يكن ثمة عالم، فجأة تقطعت كلُّ الروابط، صار الزمن جثةً متعفنةً، وكنت أنا "الكائن الذي لا تحتمل خفته". لكن هذا الإحساس بالأبدية لم يدم طويلاً، فكما قلتَ أنت في رحلة بحثِكَ عن "دورا بروديه" في شوارع باريس: "لا يمكن أن تدوم هذه النشوة طويلاً، لأنها بلا مستقبل، إذ سرعان ما تشعر بانكسار واضحٍ في اندفاعك".
صديقي موديانو
هل ما زلتَ مُشرداً داخل الممرات المعتمة؟ هل ما زلت صامتاً وكئيباً في تلك الممرات، محاولاً تعرية الأشخاص من أجل الوصول إلى شيء حقيقي؟ وحين تصل هل ستطلق ضحكتك المحبوسة منذ أن جئتَ إلى الحياة؟ ما أعرفه هو أنك ستواصل المشي حتى آخر العالم، وهناك ستمسك بزهرة الأبدية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ 3 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم