شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رسائل لا تصلح لعيد الحبّ

رسائل لا تصلح لعيد الحبّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 28 نوفمبر 202201:35 م



تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، إعداد وتحرير مريم حيدري وسامية التل.


قبل خمس سنوات، ظهرت الكاتبة المصرية عبلة الرويني على التلفاز، في ضيافة الإعلامي رامي رضوان، للحديث عن علاقتها بالشاعر الراحل أمل دنقل. حينها أطلّت عبلة على الشاشة بزيّ أحمر أنيق، وتوقيت الحلقة كان في شباط/فبراير. إذاً، فكل شيء مهيّأ للحديث عن "الحبّ".

طوال مدة الحلقة، كان رامي يستحثّ عبلة على الإفصاح عن أبيات عذبة كتبها دنقل متغزلاً فيها، لكنها لم تجد ما تقوله في هذا الشأن. ظنّ المذيع أنها تراوغه، لكن حقيقة الأمر أن العلاقة التي استمرت ثماني سنوات بين الشاعر والكاتبة، لم تثمر أبياتاً يخلدها العشاقُ على الشجر في عيد الحب.

محاولة الوصول إلى شكل هذه العلاقة، لن يكشفها سوى الرسائل المتبادلة بينهما، ربما لأن أمل "لم يكن مغرماً بالنثر كثيراً، ولم يكن مغرماً بالخطابات العاطفية، لكنه أمام عدم قدرته الدائمة على الإفصاح عن مشاعره بشكلٍ صريح راح يكتب لي"، وفقاً لما أوردته عبلة الرويني في كتابها "الجنوبي"، الصادر عام 1992 عن دار سعاد الصباح بالكويت.

في البدء كان رجل وامرأة... ورسالة!

عام 1975، كانت الصحافية الشابة آنذاك عبلة الرويني، تتقصى أثر شاعر الرفض أمل دنقل، بغيةَ إجراء حوار معه. لم تترك مقهى يجلس عليه إلا وزارته، ولا باراً يسكر فيه إلا ودخلته، لكن الأمل لا يأتي إلا في المساء؛ هكذا أخبرها النادلُ في مقهى "ريش".

تركت عبلة كلمات مقتضبة على قصاصة ورقية، وأوصت أن يقرأها دنقل فور دخوله المكان، قالت له فيها: "الأستاذ أمل دنقل: يبدو أن العثور عليك مستحيل، يسعدني الاتصال بي في جريدة الأخبار، ويشرفني أكثر حضورك".

رأته لأول مرة في دار الأدباء، ثم تعددت اللقاءات، وصارا صديقين، وأصرّ أمل على ذلك، بقوله: "يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة"!

في رابع لقاء، شعر الرجلُ الجنوبي جافُّ الطباع بقسوةِ ما قاله، فأخبرها أنه رجل بدأ معاناته في سنّ العاشرة، وفي السابعة عشرة اغترب عن كلّ ما يمنح الطمأنينة. لذا، يعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبه في مقتلٍ سوف يأتيه من امرأة.

قبل خمس سنوات، ظهرت الكاتبة المصرية عبلة الرويني على التلفاز للحديث عن علاقتها بالشاعر الراحل أمل دنقل. حينها أطلّت عبلة على الشاشة بزيٍّ أحمر أنيق، وتوقيت الحلقة كان في شباط/فبراير. إذاً، فكل شيء مهيَّأ للحديث عن "الحبّ"

طالت الجلسات بين الشاعر المتمرد والصحافية الطامحة، فكثر الحديث، وشعرت عبلةُ بعواطفَ تبدو عليه برغم كتمانها، فلم تجد بدّاً من الإفصاح عنها، حين صافحها، وسألها: هل أراكِ غداً؟ قالت: بالتأكيد، لقد أحببتك!

أثمر هذا الاعتراف بالحبّ عن زيجة شغلت الوسط الأدبي كثيراً عام 1979، بعد علاقة شابَها الكثير من الندية، وربما عدم التفاهم، أو كما تلخصها هي، بقوله: "ظللنا فترة طويلة نبحث عن شكل مريح للحب بيننا، ولم نجده في أغلب الأحيان، فما نكاد نلتقي إلا ونتشاجر، وكأن ما بيننا غضب وعناد ساطع، كنا أشبه بالمتنافرين دائماً (...) في لحظة نحشو العالم في جيوبنا، ونلملم كلّ الأوراق الخضراء وصوت العصافير، والأقلام الملونة، ثم بلحظة أخرى نمزق كلّ الأوراق ونذبح العصافير، ونكسر كل الأقلام الملونة والدفاتر".

متى القلب في الخفقان اطمأن؟!

تقول عبلة عن أمل: "لا يجيد عبارات الغزل والإطراء، إن أقصى ما يستطيع التعبير عنه (وجهك رومانتيكي)".

لكن أمل كان يرى "أن الشاعر في قلبي تقاسم الكينونة مع القاتل في أعماقي، لقد قتلت عبر سنوات العذاب كلَّ أمل ينمو بداخلي، قتلتُ حتى الرغباتِ الصغيرة والضحكَ الطيب، لأنني كنت أدرك تماماً أنه غير مسموح لي بأن أعيش طفولتي، كما أنه من غير المسموح به أن أعيش شبابي (...) قد لا تعرفين أنني ظللت إلى عهد قريب أخجل من كوني شاعراً، لأن الشاعر يقترن في أذهان الناس بالرقة والنعومة، وفجأة ها أنتِ تطلبين مني دفعةً واحدة، أن أصير رقيقاً وهادئاً وناعماً يعرف كيف ينمق الكلمات".

"لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك، لأن الحبّ وسادةٌ في غرفة مقفلة، أستريح فيها على سجيتي"... من رسالة أمل دنقل إلى عبلة الرويني

برغم ذلك حاول أمل أن يبرز حبَّه لعبلة في واحدة من رسائلهما المتبادلة، فيقول: "لو لم أكن أحبك كثيراً لما تحملتُ حساسيتَكِ لحظةً واحدةً، تقولين دائماً عني ما أُدهش كثيراً عند سماعه، أحياناً أنا ماكر، وأحياناً ذكي، رغم أنني لا أحتاج إلى المكر أو الذكاء في التعامل معك، لأن الحبّ وسادةٌ في غرفة مقفلة، أستريح فيها على سجيتي، إنني أحب الاطمئنان الذي يملأ روحي عندما أحس بأن الحوار بيننا ينبسط ويمتد ويتشعب كاللبلاب الأخضر على سقيفة من الهدوء. أكثر شيء أخافه هو تربيتك أو بالأحرى حياتك، ففي العادة تبحث كلُّ الفتيات اللواتي لهن مثل ظروفك من الأمان في البيت والعمل عن قدر من القلق والانشغال، وأنا لا ألومك في هذا، بل أصنعه لك متعمداً في كثير من الأحيان".

لكنه في رسالة أخرى يتهمها بتقطير المشاعر، فيقول: "إنني أحتاج إلى كثيرٍ من الحب، وكثير من الوفاء، وكثير من التفاني إذا صحّ هذا التعبير، ولكنك لا تعطيني أيَّ شيء، لدرجة أنك إذا أحسستِ أني محتاج إلى كلمةِ حلٍّ رفضتِ أن تنطقيها، وإذا طلبتُ منكِ طلباً صغيراً فأقرب شيء إلى لسانك هو كلمة الرفض... إن قلبك قفر جداً لا يستطيع أن يكون وسادة لمتعب أو رشفة لظمآن (...) إنني لا أبحث فيكِ عن الزهوِ الاجتماعي، ولا عن المتعةِ السريعة العابرة، ولكني أريد علاقةً أكون فيها كما لو كنتُ جالساً مع نفسي في غرفة مغلقة".

تندفع عبلة في خطاب لا يقلّ لهيباً، فترسل إليه: "كلما قرأتُ أشعارك، أحسّ أن مكانك الطبيعي في صفوف الانقلابيين، ولهذا فأنت شاعرٌ جيد، وعاشق شرير".

أيدوم لنا البيت المرح؟... نتخاصم فيه ونصطلح!

رغم ما تحمله الرسائل المتبادلة بين العاشِقين من هجوم حادّ واتهامات قد تُنهي أيَّ علاقة، فإن الحبَّ والسعي للصلح بين الندّين ينفيان أيّ تكهنٍ بوأد تلك القصة.

"كلما قرأتُ أشعارك، أحسّ أن مكانك الطبيعي في صفوف الانقلابيين، ولهذا فأنت شاعرٌ جيد، وعاشق شرير"

لذلك نجد أمل يكتب إليها: "لا أريد أن أفكر كثيراً في خلافاتي معك. فهذا الصباح أجمل ما فيه أنه يقع بين موعدين، بين ابتسامتين من عينيك، صحيح أنهما سرعان ما تنطفئان لكنني أسرقهما منك، وأحتفظ بهما في قلبي، وأتركك تغضبين وتغضبين... حسناً! لا يهم، فلقد عوّدتُ نفسي على أن أعاملك طبقاً لإحساسي وليس طبقاً لانفعالاتك، أحبّكِ ولا أريد أن أفقدكِ أيتها الفتاة البرية التي تكسو وجهَها بمسحة الهدوء المنزلي الأليف".

وردّت عليه بكلمات أنثوية أشدّ رقة: "أحبّكَ... أكثر اتساعاً من رؤى عينيك، أكثر قرباً من مسامات جلدك، عصفور ينطلق من أطراف أصابعي هارباً من ضيق الحروف الأربعة... تسألني كلُّ الفروع المتسلقة فوق الأيام بلا جذور: ولماذا هو؟ ـ لأنه لا يستطيع أن يكون أنتم؟ يسألني قلبي بعفوية شديدة: من هو؟ أرسمك امتداداً".

وفي رسالة أخرى، ربما محت ما بداخل عبلة من حزن، قالت: "الغفران ليس من طبيعتي، والنسيان أيضاً ليس من طبيعتي. لكنك حين تدخل كالسيف في داوئر حلمي، أتحول إلى مساحاتٍ للحبّ والغفران".

وتأكَّدَ غفرانُ عبلة حين أخبرت أمل في واحدة من رسائلها: "جلس اليوم أمامي في المترو شابٌّ جميل الملامح، نظر إليّ وابتسم، أحسست أن ابتسامتَه تغتالك من الخلف، فتجهّمت مدافعةً عنك، أتمنى أن تكون جواري في (مترو) الغد لأبتسم لكلِّ الملامح الجميلة، وأغتالك وحدي".

لم تدم الزيجة طويلاً برغم كثرةِ ما بها من رسائلِ جزرٍ ومدّ، إذ تدخَّلَ السرطان ليُعجّل بانتهائها، فمات أمل دنقل في أيار/مايو عام 1983، على سريره الذي رآه أصدقاؤه قبراً، تاركاً حياةً صاخبة حسبها قرّاؤه دهراً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image