تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسائل (أمّا بعد)، في قسم ثقافة، رصيف22.
في الكتابة والكلام أتجنب أفعل التفضيل. أملك هذا، ولا أملك رفاهية اجتناب الاستماع إلى ذوي اليقين، الديني والأيديولوجي والوطني والأخلاقي والأدبي، أما اليقين الثوري فافتقدَ يقينه، واهتزّ بعنفٍ تحت ضربات مطارقِ قوى الثورة المضادة في مصر. أعجبُ لذوي اليقين وأسكت، والسكوت في هذه الحالة علامةُ التقدم في السنّ، والرغبة في ادخار باقي العُمْر والصحة والطاقة والمرارة لما هو أكثر أهمية من المناهدة. التجربة علمتني أنّ تراجُعَ الكثيرين عن آرائهم شيء نادر، قليل الجدوى. ويدهشني الطموحون إلى تغيير الآخرين، والساعون إلى تأكيد يقينهم وتجديده. لكن عنوان "الرسائل" يحشد جموعاً من أفعل التفضيل. لا حيلة لي وأنا أخمّن الرسالة الأكثر قِـدَماً وإلغازاً.
لم يحسم علماء الآثار تاريخَ أقدم رسالة بشرية. وأصحاب الرسالات السماوية، قبل عصور التدوين، لم يتركوا كتباً مقدسة. ولعل الخوف يكون موضوع الرسائل البشرية الأولى، حين تُكتشف. الْتِماسُ الإنسان للأمن يسبق غرائزه كلّها. الصراع من أجل السلامة يسبق الصراع على الطعام. في فجر التاريخ، عبّر البشر عن الخوف، وحفروا في الصخور رسوماً للوقاية، ولإفادة غيرهم. تلك ميزة تخصّ الإنسان، وبها تراكَم وعيُه وخبراته، وبنى على تجارب أسلافه، وأعفى نفسه من جهود اكتشاف دروبٍ سلكَها السابقون. أهل الكهف الخائفون حفروا في الصخور رسائلَ تنبض بحبّ الحياة. أمام الموت وترويض الطبيعة لا وقت للتجويد ولا مسودات، فيستنفر الإنسان طاقتَه القصوى، دفقة تلقائية.
الإنسان الخائف، المشتاق إلى الأمن، سبق الملوك في نقش الرسائل، ونسيها ونُسي هو أيضاً. أبناء الشعب لا تُوثَّق أسماؤهم، بعد المعارك يُشيّدون نُصْب "الجندي المجهول"، ولا نُصْبَ للضابط المجهول. سلالة الضباط فوق الجميع، ولو كان حاكماً حالماً مثل أخناتون. قسا عليه نجيب محفوظ، وإن تظاهر بالموضوعية، فلا موضوعية في الفن.
مصادفةً كُشفت رسائل تلّ العمارنة بعد نحو 3250 عاماً، التي اعتُبرت حتى الآن "أهم مجموعة مراسلات تم الكشف عنها على الإطلاق"، وتكشف سعي ملوك الشرق "بكلّ جهدٍ إلى الاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية جيدة مع مصر طوال عهد العمارنة
في رواية "أمام العرش" مثُـل أخناتون في محكمة الحياة الآخرة، وقضى الإله أوزير أنه مع الخالدين، وأبدت إيزيس فخرها بابنٍ "آمن برسالة أراد أن ينقذ بها البشر، ولكن لم يكن أحد مستعداً لفهمه أو التفاهم معه فكانت المأساة". وتابع أخناتون المحاكمات، وتساءل: "كيف اهتدى العرب إلى إلهي بينما نبَذَه قومي".
رسائل أخناتون
رسائل أخناتون تُبطل اتهامات وجهها إليه نجيب محفوظ بقسوة، في روايتيْ "أمام العرش" و"العائش في الحقيقة"، وإن كان عنوان الرواية الأخيرة وحده منصفاً إلى حدّ ما. الإدانة على ألسنة حاكميْن عسكرييْن عظيميْن أحدهما سابق هو تحتمس الثالث، والثاني حور محب قائد جيش أخناتون، ومعهما كهنة آمون ووزراء أخناتون، والسيدة "تادو خيبا" أرملة أبيه أمنحتب الثالث. اتهامات بالمروق والردة والجنون وإهمال الجيش وتبديد الإمبراطورية. كان على أخناتون الذي حكم بين عامي 1379 و1362 قبل الميلاد أن ينتظر، وأن ننتظر معه حتى عام 1887 ميلادي، حين اكتُشفت رسائل "تل العمارنة"، في مدينة "أخيتاتون" التي اتخذها عاصمةً، بعيداً عن طيبة المثقلة بالآلهة والكهنة.
قصة رسائل تل العمارنة كتبها تريفور برايس الأستاذ بجامعة كوينزلاند الأسترالية في كتابه "رسائل عظماء الملوك في الشرق الأدنى القديم". مصادفةً كُشفت تلك المراسلات، بعد نحو 3250 عاماً. كنزٌ عثرتْ عليه فلاحةٌ تحفر بين أنقاض ما كانت مدينة أخيتاتون. وفي الكتاب الذي ترجمه الدكتور رفعت السيد علي يقول المؤلف إنها حتى الآن "أهم مجموعة مراسلات تم الكشف عنها على الإطلاق"، وتكشف سعي ملوك الشرق "بكلّ جهد إلى الاحتفاظ بعلاقات دبلوماسية جيدة مع مصر طوال عهد العمارنة". قويت أواصر تلك العلاقة عن طريق زواج التحالف، وكان نهجاً قديماً، ذا اتجاهٍ واحد، فلم يحدث "أن أعطيت ابنة ملك مصري كزوجةٍ لملك أجنبي".
يستطيع الكسالى اتهامَ أخناتون بالاستبداد الديني، وفرض إلهه "آتون". نجيب محفوظ أنطق الكاهن المرتل "توتو"، فقال: "لو أن الذي خلف أمنحتب الثالث على عرشه عدوّ من الحيثيين لما استطاع أن يفعل بنا أكثر مما فعله المارق اللعين" أخناتون. تريفور برايس برّأ أخناتون الذي "لم يسجل أية إشارة عن معتقداته الدينية في أيٍّ من رسائله، التي بعث بها إلى نظرائه، ولا تلك التي بعث بها إلى الحكام التابعين لهيمنة التاج المصري"، كما "ظلّ على اتصال منتظم لمتابعة الأنشطة المختلفة في الأقاليم التابعة للتاج المصري، بالرغم من الادعاءات أنه في الغالب لم يكن ليستجيب لأغلب الشكاوى الواردة من حكام الولايات ولا طلباتهم".
رسائل أخناتون تُبطل اتهامات وجهها إليه نجيب محفوظ بقسوة، في روايتيْ "أمام العرش" و"العائش في الحقيقة"
في رواية "أمام العرش" (1983) تسجل صحيفة أعمال أمنحتب الثالث، أبو أخناتون، أنه "عشق الطعام والشراب، وفي آخر أيامه تزوج من ابنة ملك ميتاني في سن حفيدته فعجلت بوفاته". نجيب محفوظ لم يذكر اسم "تادو خيبا" بنت توشراتا ملك ميتاني. ادخرَ التفاصيلَ لرواية "العائش في الحقيقة" (1985). سوّغ أمنحتب الثالث زواجه بتوثيق علاقات مصر بميتاني، ولم ينكر فتنتَه بالصبية التي سمع عن جمالها، وعلى الرغم من الشيخوخة فقد أفرط في الحبّ حتى أماته. وفي المحكمة يقول: "ميتة الحب أفضل من ميتة المرض". مات الأب، وقالت أرملته تادو خيبا إن أخناتون ملكٌ أبله يعالج الخطايا بالحبّ لا العقاب، وأنه خرب الإمبراطورية.
اعتاد ملوك مصر استقبالَ زوجات أجنبيات، لتأكيد حسنِ نية الملوك تجاه مصر. ولم يرسل ملك مصري أميرةً لتكون زوجة لملك أجنبي، "كان ذلك تقليداً راسخاً لا استثناء له... الملوك الأجانب قد تفهموا ذلك وقبلوه". يوجد استثناء "نظري" وحيد، أمنية أحبطها قائد الجيش. أرسلت "عنخ إسن آمون" أرملة توت عنخ آمون، الذي مات دون الثامنة عشرة في ظروف غامضة، إلى سوبيلوليوما ملك الحيثيين هذه الرسالة: "مات زوجي، لو أعطيتني أحدَ أبنائك سأجعله زوجاً لي. لن آخذ أبداً واحداً من خدمي وأجعله زوجاً لي". ظنها الملك خدعة، ثم تبين له صدق "الرسالة اليائسة"، كما تصفها آنا رويز في كتابها "روح مصر القديمة".
لم تستوعب الأرملة الحمقاء درسَ أخناتون. لا تحتمل التقاليد والأعراف المصرية الراسخة، بوجهيْها الديني والعسكري؛ نغمة ناشزة. هل عادى الشعبُ أخناتونَ الهاربَ بدينه، بعيداً عن كهنة طيبة؟ أخطأ أخناتون، فللمرة الأولى تتحد السلطتان الدينية والدنيوية في شخص واحد. وتحالفَ الكهنةُ الخائفون على امتيازاتهم مع أعداء آخرين للثورات وهم العسكريون، وثاروا على الثورة، ومحوا مدينة أخناتون. وأخطأ ملك الحيثيين في فهم ما وراء الرسالة، وأرسل ابنه "زانانزا" فمات في الطريق، قبل بلوغ حدود مصر. يرى تريفور برايس أن موت الأمير لغزٌ، وأنه ضحيةُ قوى مصريةٍ حالت دون اعتلاء أميرٍ أجنبيٍّ عرشَ البلاد. لكن آنا رويز رجّحت قتله "بأمر من حور محب".
لا أعرف مصير الأرملة، ولا ردّ فعل ملك الحيثيين الذي أغراه الطمعُ في عرش مصر. كانت الفوضى قائمة، بعد أربعة عشر عاماً على قتل أخناتون. ولا يستطيع الملكُ المغامرةَ بالهجوم على مصر التي لم تعلن المسؤولية عن قتل الأمير. وكان قائد الجيش يشيطن أخناتون وعصره وما تلاه من اضطرابات. وليس من الحكمة تهديد حدود مصر في ظروف ثورة يقودها الجيش، فينال شرعية مضاعفة، تسوّغ إجراءات استثنائية، في مرحلة انتقالية طالت كثيراً باعتلاء حور محب عرشَ مصر، للمرة الأولى لحاكم ليس من النبلاء. عسكري شاءت المصادفات أن يقود الجيش والأسرة الحاكمة مفتتة. وحكم ثمانية وعشرين عاماً. لا أعاد الله تلك التجربة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 8 ساعاتHi
Apple User -
منذ 8 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا