تعتبر شجرة الزيتون من الأشجار الضاربة في القدم على الجغرافيا السورية، فبسبب المناخ المتوسطي، والتربة الجبلية، والأهم بسبب عشق أهل المتوسط لها ولزيتها، صارت مكوناً أصيلاً للخريطة الخضراء على سفوح الجبال الساحلية.
في سوريا، يعد موسم قطاف الزيتون تراثاً قديماً يعود إلى أيام مملكة أوغاريت، حيث تشير الرسومات والجرار الأثرية أن الزيت كان جزءاً من عمليات التجارة المتبادلة مع الدول المجاورة، لما له من شهرة امتدت حتى يومنا الحاضر، حيث احتلت سوريا المرتبة السابعة عالمياً في إنتاجه في 2018. في حين كانت تحتل المرتبة الرابعة عالمياً قبل اندلاع الحرب، وبإنتاج يقدر بـ200 ألف طن سنوياً.
تعيش عائلات الساحل السوري موسم القطاف كطقس احتفالي يجري الاستعداد له مع نهاية فصل الصيف ونضوج الثمار المباركة، من فلاحة أراضيهم، وتقليم الأغصان، أو "تجلية" الجذوع، وإزالة الأعشاب الضارة، وبالطبع الـ"عساسة" كما تسمى في بعض مناطق الشمال الغربي، أو السقاية الدورية للأشجار في انتظار موسم وفير، خصوصاً إذا استبشر الناس خيراً فيما يعرف شعبياً بـ"مطرة نيسان".
رزقة السنة
الزيتون مصدر رزق أساسي لأصحابه، سواء لتأمين مؤونة العام من الزيت وكبيس الزيتون، أو لبيعه وتحصيل جزء من دخل الأسرة، ويُضاف إلى ما سبق فوائده العلاجية المتوارثة في الوصفات الشعبية، واستخدام مخلفات عصره التي تُدعى "عرجوم" في صناعة الصابون، أو تحويلها إلى وقود منزلي للتدفئة في فصل الشتاء فيما يُعرف بـ" البيرين" أو "التمز".
منذ القدم يرتبط موسم القطاف عند الفلاحين بخطط الزواج، أو لإتمام بناء منزل أحدهم، أو سفر مؤجل، أو سداد الدين، أو لتغطية نفقات الشتاء التي تثقل كاهل الناس.
منذ القدم يرتبط موسم القطاف عند الفلاحين بخطط الزواج، أو لإتمام بناء منزل أحدهم، أو سفر مؤجل، أو سداد الدين، أو لتغطية نفقات الشتاء التي تثقل كاهل الناس
يشير أحمد (40 عاماً) الذي يعمل مزارعاً أن أبرز المعوقات تتجلى في أزمة الوقود "المازوت" والمطلوب لأغراض حراثة الأرض، بالإضافة إلى غلاء أسعار الأسمدة العضوية والصناعية والمبيدات الضرورية، وارتفاع أجور النقل، وفي المجمل فارتفاع تكاليف الإنتاج تؤثر على المردود الاقتصادي.
يقول لرصيف22: "تجاوز سعر التنكة 200 ألف ليرة سورية أي ما يعادل 50 دولار لهذا العام، وبالتالي لم يقوَ معظم الناس على شراءه، مما اضطر الفلاح لبيع جزء جيد من موسمه لتغطية ما دفعه للعناية بأرضه، وبالتالي خرج الكثير منهم تقريباً (راس براس) بعد توفير حاجة منازلهم من مادتي الزيت والزيتون".
ولدى سؤاله عن إنتاجية الموسم الحالي، أكد أنه كان ممتازاً، سيما أن الطقس الذي عرفته المنطقة هذا العام اتسم بالحرارة نهاراً والبرودة ليلاً ما جعل الثمار تنضج جيداً ورفع نسبة الزيت، حيث تجاوزت 20% لكل 100 كيلو زيتون، وهي نسبة ممتازة مقارنة بالموسم السابق إذ لم تتجاوز 13%
أما من لا يمتلكون أرضاً فيلجؤون إلى ما يُعرف بـالـ"تعفير" أي البحث في الكروم وبساتين الزيتون التي تم الانتهاء من قطافها حديثاً، وهي عملية من البحث المضني عن تلك الحبات اليتيمة المتساقطة أو التي ظلت على الأشجار، أو البحث في أشجار الزيتون المتواجدة في الحواكير المحيطة بالمنازل الريفية.
الزوادة والبساط والأمشاط
مع نهاية أيلول/سبتمبر و بداية أكتوبر/تشرين الأول، وبعد أول هطل مطري يستعد الجميع للقطاف عبر تجهيز البُسط والمدات المصنوعة من الأقمشة، أو الأكياس المعروفة باسم "قشر الحية"، لمدّها تحت الأشجار بغية جمع الثمار المتساقطة من الأشجار.
يذهب الناس منذ الفجر إلى ما يُعرف بـ"ورشات النافعة" مصطحبين معهم الزوادة التي غالباً ما تتكون من البطاطا المسلوقة والخبز والماء والبندورة والخيار والشاي المغلي على الحطب، ويترأس الـ"فعالة" شخص يُدعى الـ"شاويش" وغالباً ما يكون صاحب الأرض نفسه.
من لا يمتلكون أرضاً يلجؤون إلى ما يُعرف بـالـ"تعفير" أي البحث في الكروم وبساتين الزيتون التي تم الانتهاء من قطافها حديثاً، وهي عملية من البحث المضني عن تلك الحبات اليتيمة المتساقطة أو التي ظلت على الأشجار
تقول رنا (30 عاماً) لرصيف22: "كل مجموعة مكونة من خمسة أشخاص تعمل على خط واحد من الأشجار تسمى سرباً، نبدأ العمل بمد البُسط الخاصة حول الأشجار، وتعليق (السيبايات) أو السلالم الحديدية عند أطراف الأشجار للوصول إلى الثمار العالية، نستخدم خلال ذلك إما العصي ل ضرب الأغصان بشكل خفيف بحيث لا تتأذى الشجرة التي تُسمى بـالـ(ناتورة) والـ(راط) أو الأمشاط البلاستيكة، حيث نقوم بتمريرها بين الأغصان، بينما هناك من يعمل على التقاط الثمار المتساقطة على الأرض، ومع الانتهاء من كل شجرة نجمع الثمار، ونضعها في أكياس خاصة".
مع انتصاف النهار يمضي الجميع إلى فترة الاستراحة والتي غالباً ما تكون لنصف ساعة، حيث يجتمعون لتناول الطعام أو الزوادة، تصف رنا الأجواء بالمرحة والمسلية حيث يتبادل الناس القصص والأخبار والنكات والنميمة، وأحياناً يذهب المزاج إلى الغناء والعتابا ليمر الوقت والتعب. في حين ينشغل كبار السن بقطف الأغصان المتدلية أو تجميع حبات "العطون" وهو الزيتون الأسود.
شجار في المعصرة
كثيرة هي أنواع أشجار الزيتون في سوريا، ولعل الـ"صوراني" صاحبة الشهرة الأوسع في الساحل، ومثلها شجرة "أبو شوكة" التي تتميز ثمارها برؤوسها الحادة وغناها بالزيت.
تصف رنا الأجواء بالمرحة والمسلية حيث يتبادل الناس القصص والأخبار والنكات والنميمة، وأحياناً يذهب المزاج إلى الغناء والعتابا ليمر الوقت والتعب
يتحدث غانم (40 عاماً) لرصيف22، وهو مالك معصرة للزيتون عن الاختلاف في طرق العصر قديماً وحديثاً. فقديماً، كانت تستخدم طريقة "العجول" وهي عبارة عن اسطوانتين حجرتين كبيرتين تتصلان بمحور يجره عجل. تطحنان ثمار الزيتون لدرجة معينة، ما يؤدي إلى هدر ما نسبته 20% من الزيت.
أما المعاصر الحديثة فتعتمد الطرق الآلية بالكامل، ما يجعلها أكثر نظافةً وأقل هدراً، فبدورانها بمعدل 4700 دورة في الدقيقة واعتمادها على الطرد المركزي، يتم استخراج 98% من الزيت من كل حبة زيتون.
وقد حددت مكاتب الزراعة أجرة عصر الكيلو بسعر 200 ليرة سورية أي 0,079 دولار في حال ترك الـ"عرجوم" لصاحب المعصرة. وأكثر من ذلك بقليل في حال أراد صاحب المحصول الاحتفاظ بمخلفات العصر.
ورغم استخدام التقنيات الحديثة إلا أن هذه الأيام لا تخلو من المناوشات والاتهامات بالغش، بين أصحاب المحاصيل وأصحاب المعاصر. وقد يتطور الأمر إلى شائعات بوجود "أنبوب خفي يتصل بالحوض الذي يتجمع فيه الزيت بعد انتهاء عملية العصر يؤدي إلى حفرة مُعدة مسبقاً من قبل صاحب المعصرة لسرقة جزء من الزيت دون علم الفلاحين".
وكثيراً ما تجد أصحاب الزيتون يقفون ومعهم رغيف خبز ساخن جاء به الصغار للتو، لتذوق أول عصرة بطعمها المر والحاد أو الـ"حدق" كما يسمى شعبياً، أو للتنافس والـ"جكر" فيمن "زيته أطيب السنة".
أما أشهر أنواع الزيوت في المنطقة فيعرف باسم "الخرّيج"، وينسب إلى المنطقة الساحلية في الغالب وتحديداً جبلة. ورغم التحذيرات الموسمية من قبل مكاتب الزراعة بسبب ارتفاع نسبة حموضته إلى 5%، أي ما يزيد بـ2% عن النسبة المسموح بها من قبل منظمة الصحة العالمية، إلا أنه يبقى مفضلاً ومرغوباً.
صحتين وهنا
ومن النشاطات الموازية للقطاف تحضيرات ربات المنازل لإعداد مؤونة "كبيس الزيتون" الذي يكاد يكون إلزامياً على المائدة السورية مع وجبتي الإفطار والعشاء، أو ما يُعرف بالـ"نواشف" والتي لا تكتمل بدون كأس الشاي الساخن.
كثيراً ما تجد أصحاب الزيتون يقفون ومعهم رغيف خبز ساخن جاء به الصغار للتو، لتذوق أول عصرة بطعمها المر والحاد أو الـ"حدق" كما يسمى شعبياً، أو للتنافس والـ"جكر" فيمن "زيته أطيب السنة"
تتحدث أم علي (50 عاماً) ربّة منزل لرصيف22 عن كيفية إعداد الكبيس الشهير، فبحسب وصفتها يتم رصه بداية بمدقة الثوم أو حجر، ثم يُصار إلى وضعه في قدر متوسط الحجم وغمره تماماً بالماء لسبعة أيام، حيث يُغير خلالها ماءه بشكل دوري حتى يتم التخلص تماماً من الطعم المُر.
بعد ذلك، يُصفى الزيتون من الماء ويُترك جانباً، ثم يوضع في الـ"قطارميز" أي الأواني مع إضافة الملح وملح الليمون والماء، وأخيراً، يضاف بعض زيت الزيتون ويترك لأسبوعين حتى يصبح جاهزاً للأكل، تبتسم أم علي قائلة بلكنتها الخاصة قائلة"وصحتين وهنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون