"على دلعونــة وعلى دلعونـة زيتـون بـلادي أجمـل مـــا يكونـــا
زيتون بلادي واللوز الأخضر والميرامية ولا تنسى الزعتــر
وقراص العجــة لمـا تتحمـــر ما أطيب طعمها بزيت الزيتونا"
كانت أم سمير ظاهر (82 عاماً) تغني وهي تتلقى "كبشات" من الزيتون، يقطفها أحفادها ويضعونها على ثوبها الفلسطيني المطرز، الذي تحبّ أن تلبسه في هذه الأيام من السنة، وهي تشارك أبناءها وأحفادها موسم "جد" أو قطف ثمار الزيتون.
"لما يصلب الصليب..."
"شجر الزيتون معمر في بلادنا من مئات السنين، وهاي الشجرة غلاوتها من غلاوة ولادي، بنهتم فيها طول السنة لغاية ما يصلب الصليب".
تفسر أم سمير معنى "صلب الصليب"، كما تحمله في ذاكرتها: "كنت أسمع سيدي وابوي يحكو لما يصلب الصليب ما ترفع عن زيتونك القضيب، أي أنه يمكن البدء في عملية القطاف دون استعمال الجدادة، لأنها تؤثر على سلامة القمم النامية، وقد تخرب الموسم المقبل، ولكن يمكن جمع الزيتون "النفل" الساقط تحت الشجر".
وتضيف أم سمير: "طبعاً كل الفلاحين والمزارعين كانوا يتمنون نزول المطر قبل "الجداد"، أو القطاف، حتى يغسل الأشجار والثمار من غبار الصيف، ويزيل الجفاف من آثار الريح، ثم يبدأ المزارعون مباشرة "بالجول"، أي التقاط نفل الزيتون الناضج، الذي يسقط بواسطة الهواء، وكلما تأخر "الجداد" إلى منتصف أكتوبر، تنتفخ الثمار، وتستمر في النمو، وبالتالي تعطي سيولة أكثر عند العصر"."إحنا في هذا الموسم بنفطر وبنتغدى وبنتعشى في الأرض ومن خير الأرض، وكتير حلوة أجواء قطاف الزيتون، خصوصاً لما نشرب شاي على الحطب، وكل العيلة موجودة"
وتصف أم سمير الموسم السنوي، وهي تفرز الزيتون الأخضر من الأسود: "هاي أحلى أيام السنة، وكلها خير وبركة ورزق كتير، وأنا صارلي أكثر من سبعين سنة، بشارك في جد الزيتون ومن واحنا في البلاد قبل نكبة الـ48، لما كان عنا أراضي بقرية برير، وهي قرية عربية تقع على بعد 21 كم شمالي شرق غزة ".
تضحك أم سمير، وتقول لرصيف22: "سقى الله على هديك الأيام، لما كنت شباب، وأطلع على السلم، واهز الشجر، وألقط حبات الزيتون، انا وأبوي وإخوتي، وكل الحبايب يشاركونا".
شتوة الصليب
" مطر الصليب" اسم مأخوذ من الديانة اليهودية، وهو قطرات المطر الأولى التي تسقط مع بداية فصل الخريف، وتنبئ ببدء عام عبري جديد، أو برأس السنة العبرية. ومن هنا أخذ الاسم، بحسب المهندس الزراعي محمد أبو عودة.
يستطرد أبو عودة لرصيف22: "أما "شتوة الصليب" عند العرب، فهي تعني هطول ماء الزيت، أي بدء موسم قطف الزيتون بعد هطول زخات المطر، وبعدها بيوم تبدأ عملية القطف، ويكون الزيتون قد غُسل بالمطر، فيصبح ناضجاً لعصره، ويكون غنياً بالزيت".
ويضيف أبو عودة عن فائدة الأمطار للزيتون: "المطر يغسل أشجار الزيتون من الأتربة والغبار، ويعتبره المزارعون مؤشر خير".وتستمر مدة القطف حسب المهندس أبو عودة بين 45 و60 يوماً، تبدأ في العشرين من أيلول\سبتمبر، فيُقطف الزيتون الخاص بالتخليل، وفي بداية تشرين الأول\أكتوبر يُقطف الزيتون الخاص بالعصير، ليتم تحويله للمعاصر مباشرة، وفي كل الأحوال هذا الموسم حسب وصف أبو عودة "هو عرس فلسطيني، حيث الفرح والخير والمشاركة العائلية والمجتمعية، خصوصاً أن أغلب المزارعين قديماً كانت لديهم أراضيهم التي يملكونها، ويعملون بها، وتجتمع العائلة لقطف الزيتون، لكن اليوم يحتاجون لمتطوعين".
"اليوم هنالك زيادة في كميات الزيتون المزروعة، لأن عدد أشجار الزيتون في الدونم تصل إلى 40 شجرة، وأيضاً زراعة الزيتون تكون على أطراف المزارع والبيارات، ويستخدم سياج لحمتيتها؛ لذلك فالمزارع أصبح يحتاج إلى عمال للقطف والنقل، وعادة تكون المساعدة مبادرات مجتمعية وشبابية لمشاركة المزارعين في فرحتهم، وأيضاً اتقليل التكاليف على المزارعين"، يضيف أبو عودة.
"كنز عائلتنا الدفين"
"صحيح الشغل فيه تعب بس والله هاي أحلى أيام السنة"، تقول تغريد فلفل (33 عاماً) التي بدأت مع عائلتها في قطف شجر الزيتون في أرضهم، التي يقيمون عليها منزلهم. تقول:" نبدأ العمل منذ الصباح الى المغرب بأدوات بسيطة كخلية نحل".
وتضيف: "احنا في هذا الموسم بنفطر وبنتغدى وبنتعشى في الأرض ومن خير الأرض، وكتير حلوة أجواء الجد خصوصاً لما نشرب شاي على الحطب، وكل العيلة موجودة".
وتشير الحاجة جازية والدة تغريد إلى أن عائلتها الصغيرة تهتم ببعض أشجار الزيتون المعدودة في أرضها، وهي بالنسبة لها "كنز العائلة الذي لا يمكن أن تفرط فيه".
وتقول الحاجة السبعينية لرصيف22: "شجرة الزيتون بتقربنا من بعض، وبنشعر بالفرح واحنا بنتعاون وكل واحد عنده مهمة يأديها، حتى ممكن نترك كل أشغالنا، ونتفرغ للموسم، وما بنهتم لأي شيء سوى إننا نتجمع لننجز الجد في أسرع وقت".
أمثال شعبية
العلاقة بين موسم الزيتون وبين التاريخ الفلسطيني علاقة وثيقة، وهو ما دفع الكثير من المؤرخين والكتاب لتوثيق هذه العلاقة عبر كتاباتهم، كما فعلت الكاتبة والأديبة د. فتحية صرصور، التي عكفت على توثيق الأمثال الشعبية الفلسطينية، وحاز موسم قطاف الزيتون مساحة واسعة من عملها.
"في الصليب يطيح الزيت بالزيتون".
تقول صرصور لرصيف22: "الموسوعة الفلسطينية غنية بالأمثال الشعبية التي تناولت موسم تصليب الصليب، وجد الزيتون، مثل "في الصليب بطيح الزيت بالزيتون"، و"إذا صلب الصليب ما ترفع عن زيتونك القضيب"، والكثير من الأمثال حسب حديثها تناول فوائد الزيتون وزيته من كل النواحي المادية والاقتصادية والعلاجية، مثل "كول زيت وانطح (ناطح) الحيط"، الذي يدل على أهمية توفر الخبز والزيت في كل بيت كغذاء رئيسي لا يستغنى عنه".
وهناك مثل يقول "إذا كان في البيت خبز وزيت زقفت أنا وغنيت"، أي أن وجود الزيت في البيت مهم وعدم وجوده دلالة على الفقر، وعندما يكون الموسم قليلاً ويسمى "شلتونة"، يعتب الفلاح على زيتونه، وإذا كان حسناً يقول: "يا زيتون الحق عليك واطلع زيتك من عينيك".
"ليست كأي شجرة"
وعادة ما تنشط الأفكار التطوعية لدى الشباب الفلسطينيين، ويبادرون بعرض خدماتهم على المزراعين لمساعدتهم في قطب الزيتون، والأمر بالنسبة لهم وطني بامتياز.
يقول جمعة كريزم (39 عاماً): "منذ أن كنت طالباً في جامعة بيرزيت، وكان مقرراً إتمام ساعات تطوع، كنت أفضل أن أقضيها في قطف الزيتون، أنا بهذا العمل أشهر انتمائي للأرض. هذه الشجرة ليست كأي شجرة وإنما هي هوية فلسطين".
وتقول سوزان خلف (28عاماً): "كتير تمنيت يكون عنا أرض وازرعها بس للأسف حلمي ما تحقق، علشان هيك بهتم كتير بمساعدة جيرانا في كل المواسم، لكن بالذات في موسم الزيتون لأنه بنعرف إنه متعب، وبدل ما يجيبو عمال بفلوس، أنا وبعض الاصدقاء بنتطوع لمساعدتهم".
"هاي أحلى ايام السنة وكلها خير وبركة ورزق كتير، وأنا صارلي أكثر من سبعين سنة، بشارك في جد الزيتون ومن واحنا في البلاد قبل نكبة ال 48 لما كان عنا أراضي بقرية برير"
ولسعيد جودة (41 عاماً) قصة مختلفة، فأرض عائلته تعرضت للجرف أكثر من مرة، قبل الانسحاب الإسرائيلي من جنوب قطاع غزة عام 2005، لذلك فهو متعلق بالأرض كثيراً، ويدرك ما معنى اقتلاع شجرة عمرها نحو 500 عام، لذلك وجد نفسه يساعد جيرانه من المزارعين، قائلاً: "هاي مش مجرد شجرة، ولا خير ولا رزق، هاي تراثنا وتاريخنا وإذا المحتل قلع شجرة بنزرع عشرة".
مشاركة الأطفال
ترسيخ مفهوم حب الأرض والتعلق بشجرة الزيتون يغرسهما الفلسطينيون في أبنائهم منذ الصغر. لذلك في هذا الموسم يشارك الصغار أيضاً ولو بصورة رمزية في قطف الزيتون عبر رحلات مدرسية ورحلات رياض أطفال.
تقول إصلاح الغنيمي، وهي مديرة إحدى رياض الأطفال في غزة، لرصيف22: "كل عام بيشارك أطفالنا في موسم قطف الزيتون، بنجيب لهم فروع كبيرة من شجرة زيتون وهم يقطفوها، أو بناخدهم على مكان فيه شجر، وكمان بنكبس الزيتون قدامهم، وبمشاركتهم، وطبعاً بنحط أغاني وطنية، وبيلبسوا ملابس تراث، وبنشرحلهم فوائد الزيتون والزيت وبنحكي عن تاريخ شجرة الزيتون الأصيل وعن أراضينا اللي سرقها المحتل".
وتضيف الغنيمي: "هذه السنة للأسف ما قدرنا نشارك في هذا النشاط الوطني بسبب إغلاق الروضة، نتيجة فايروس كورونا، ولكن لو كان في قرار للعودة للمدارس ورياض الأطفال قبل إنتهاء موسم جد الزيتون، أكيد راح نحاول جاهدين نشارك الأطفال فيه لأنه احنا هيك بنرزع في أطفالنا حب الأرض، وبنأكد إنه هذه الأجيال لن تنسى فلسطين وتراث فلسطين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...