صورت تقارير إعلامية، وكتبت مقالات عدة عن معاناة النساء في الريف التونسي، وعملهن في الفلاحة بأجور زهيدة، وفي ظروف أقل ما يقال عنها إنها سيئة وصلت حد الإصابات والموت في صفوفهنّ بسبب استهتار أرباب العمل، والسلطات المعنية على حد سواء؛ الأول يعطي مقابلاً مادياً ضعيفاً، والثاني لم يضمن حقوقهن.
معاناة النساء العاملات بأجر زهيد في حقول الزيتون ما زالت متواصلة رغم ما نوقش على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام، وجلسات البرلمان أيضاً، ممّا يهوّن من وطأة معاناتهنّ ولو قليلاً، ولكن ماذا إذا تعلق الأمر بنساء أخريات، يعملن في حقول عائلاتهن دون مقابل ولا حتى كلمة شكر من قبل رجال العائلة نفسها. هنا ربما يكون الاضطهاد أشدّ، لأنه من المسائل المسكوت عنها.
"كبرياؤهم لا يسمح"
تستيقظ الخالة سليمة (64 عاماً) من محافظة مدنين جنوب تونس فجراً لتحضر الفطور لزوجها وابنها، ثم تجمع معدات جني الزيتون، وفطورها هي وبناتها اللواتي سيرافقنها إلى الحقول، وتشرع في إيقاظهنّ بصوت خافت، كي لا تزعج ابنها وزوجها النائمين.
تقول سليمة لرصيف22 بلهجة غاضبة: "لا يعمل الرجال في جني الزيتون، كبرياؤهم لا تسمح ربما".
تحمل سليمة المعدات على ظهرها، وتحث خطاها نحو الحقول البعيدة، تتبعها بناتها الثلاث على مضض، فهن يعملن طوال اليوم دون أجر، تلتقي سلفتها منيرة (50 عاماً) زوجة أخي زوجها، وبناتها هناك، يضعن المعدات، ويتبادلن أطراف الحديث، الذي غالباً ما يكون تذمراً من التعب، ومن سخط الرجال، وديكتاتوريتهم المقيتة.
"نحن نشتغل في أرضنا، لكننا نحس باللامساواة، فماذا يعني أن ينام أخي الأكبر مني سناً، وأشد بنية حتى المساء، بينما أستيقظ أنا فجراً لجني الزيتون؟"
تقول سهام (26 عاماً) متخرجة وعاطلة عن العمل: "صحيح أن الزيتون ملكنا، ونحن نشتغل في أرضنا، لكننا نحس باللامساواة، فماذا يعني أن ينام أخي الأكبر مني سناً، وأشد بنية حتى المساء، بينما أستيقظ أنا فجراً لجني الزيتون؟"، توافقها الرأي ابنة عمها هالة (30 عاماً)، وتضيف تأييداً لكلامها: "والأدهى من ذلك أنك ستعودين مساءً لتطبخي له العشاء".
تضع سليمة المعدات جانباً، وتبدأ في توزيع الأدوار على البنات، وكأنها رب العمل، الذي يتحمل مسؤولية الجميع هنا، فتعطي أوامر بفرش الأفرشة تحت الشجرة، ثم نصب السلالم، وتكلّف إحداهنّ إعداد طعام الغداء، أما خفيفات الوزن كما تصفهن فهن اللواتي يتسلقن الأغصان المرتفعة، التي لا تصلها السلالم، تقول سليمة: "يجب أن نعوّل على أنفسنا، خلي الرجال يناموا، فنحن أقوى من الرجال إذا اتحدنا، فالعمل عبادة".
تحاول سليمة أن ترفع من معنويات النساء اللواتي يبدو على ملامحهنّ عدم الرضا بكلمات حماسية.
"عمل بلا مقابل"
تتسلق نهى (24 عاماً) طالبة، وابنة عمها سلمى (26 عاماً) متخرجة من كلية التجارة، الأغصان العالية بحذر، تمتمان كلمات غير مفهومة، تفسر عدم رضاهما عن عمل لم يجلب لهما ربحاً، حسب تعبيرهما، تقول سلمى: "البنات في سني يعملن في وظائف محترمة تضمن لهن حقوقهن حتى وإن عملن في حقل زيتون، المهم أن هناك أجراً سيدفع آخر النهار، يهون عليهن وطأة التعب، بينما نحن نعمل بلا مقابل ليرضى أخي وأبي اللذين سيبيعان الزيت، ويأخذان النقود في النهاية".
ترشقها أمها بنظرة لوم، وتقول لها: "لا تتحدثي هكذا عن والدك وأخيك، النقود ستصرف على طعام العائلة، ثم إنك تفطرين زيت زيتون كالذهب كل يوم، ما هذا النكران".
تمسك الفتاة بغصن الشجرة بعنف ثم تشرع في الجني دون أن تنبس ببنت شفة، ويبدو أن كلام أمها زاد من لهيب غضبها، وإحساسها باللامساواة، والاضطهاد، خاصة أنَّها غير معتادة الأعمال اليدوية الشاقة، فقد قضت بضع سنين في الدراسة.
تمتلك العائلتان أكثر من مائتي زيتونة تدر عليهما خيراً كثيراً كل سنة، فيتم استهلاك بعض من الزيت والزيتون، وتباع الكمية المتبقية، حسب ما صرح به العم هادي (66 عاماً) لرصيف22، وعند سؤاله عن سبب عمل النسوة في الجني دون الرجال، قال إنه "من غير المعقول أن يجني رجل الزيتون، فهذا عمل نسائي، ثم إنهنّ يعملن في ملكيتهن وليس عند أحد".
كلام العم هادي نموذج من أفكار مجتمع ذكوري ما زال يفرق بين الجنسين في جميع الأمور الحياتية، ويعتبر المرأة عنصراً ثانوياً، ويعطيها الأولوية فقط إذا ما تعلق الأمر بأعمال شاقة كجني الزيتون والحصاد وغيرهما.
عمل غير مُعترَف به
تقول سعاد (38 عاماً) من محافظة تطاوين ربة بيت وأم لطفلين: "نعاني الأمرين في موسم جني الزيتون، الذي يتزامن مع الجو البارد، فالرجال يرفضون حتى العناية بأطفالهم في غيابنا، فنضطر لأخذهم معنا إلى الحقول، وهذا ما يزيد من تعبنا، ويعرضهم للمرض والمخاطر".
تنهي النسوة عملية الجني عند غياب الشمس، فهن يقضين يوماً كاملاً في الحقول، ولا يأتي الرجال إلا لمراقبة سير العمل أو أخذ الزيتون، الذي جمع في انتظار انتهاء الجني، وأخذه للعصر، ويقرر الرجل وحده الكمية التي سيبقيها، والكمية التي ستباع، دون أخذ مشورة من زوجته أو بناته اللواتي تعبن في جنيه طوال أسابيع بل أشهر أحياناً.
تقول حنان، اسم مستعار (28 عاماً) متزوجة حديثاً: "يديّ تشققتا، وجفتا من جني الزيتون، وزوجي يعلق على الموضوع باستمرار، ويقارنني بممثلات وفنانات يشاهدهن في التلفاز، طبعاً يجب أن أملك يدين ناعمتين في البيت ليرضى عني، المرأة بالنسبة لهم تملك مصباح علاء الدين إذا ما تعلق الأمر بمصلحته الشخصية، ولا يخسر حتى اعترافاً لها بالجميل".
"يديّ تشققتا، وجفتا من جني الزيتون، وزوجي يعلق على الموضوع باستمرار، ويقارنني بممثلات وفنانات يشاهدهن في التلفاز، طبعاً يجب أن أملك يدين ناعمتين في البيت ليرضى عني"
ترى فتحية السعيدي، مختصة في علم النفس الاجتماعي، أن مجتمعنا "أبوي ذكوري بامتياز، تكون فيه المرأة من الدرجة الثانية، وبالتالي كل الأعمال المنزلية، والتي لها علاقة بالاقتصاد المنزلي، كالفلاحة يهجرها الرجال عادة، وتقوم بها المرأة، لأنها تعتبرها ضمن واجباتها المنزلية والعائلية، وهي تتبنى فكرة الثقافة الأبوية الذكورية كغيرها من أفراد المجتمع نساءً ورجالاً إذ تنتشر هذه الثقافة في إطار عملية التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة والمدرسة والمجتمع".
وتثمن السعيدي دور "المناضلات في مجال حقوق النساء"، اللواتي انتفضن على هذه الثقافة، ونددن بها باعتبارها أحد أسباب "الاضطهاد، والهيمنة الذكورية، والعنف الرمزي".
وترجع السعيدي سبب سكوت النساء عن اللامساواة في الأعمال، التي تخصّ العائلة، إلى اعتقادهن بأنها من ضمن الواجبات، ومن حقوق الرجل عليهن، وأقصى درجات اللوم بالنسبة لها تصل إلى طلب اعتراف معنوي منه، يقدّر مجهودها الذي بذلته.
وتنهي السعيدي حديثها لرصيف22، قائلة: "هناك دراسات في علم الاجتماع والاقتصاد تتحدث عن العمل غير المرئي للنساء أي غير المثمن، خاصة عندما تعمل المرأة في أرض عائلتها، خلافاً للواتي يعملن في أملاك الغير بأجر. وإذا أخذ في الاعتبار عمل المرأة غير المرئي ستدرك العائلة قيمة عملها، ومدى مساهمتها في الاقتصاد المنزلي، ومع ذلك فهو غير معترف به".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.