هذا المقال أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.
في أحدث دراسة لمنظمة أوكسفام حول الإجراءات الحكومية في 59 دولة، لمعالجة تفاقم عمل النساء غير المدفوع الأجر من أعمال رعائية ومنزلية بعد جائحة كورونا، أظهرت النتائج بأن أقل من 30٪ من سياسات تلك الدول أخذت المنظور الرعائي بعين الاعتبار وأقل من 12٪ منها كانت معنية باحتياجات النساء على الإطلاق.
العمل الرعائي ليس مجانياً
هذه الأرقام المقلقة تظهر أننا لم نتعلم من الدروس القاسية التي لقنتنا إياها الجائحة، عندما تفاقمت حاجة البشرية للعمل الرعائي المدفوع الأجر منه، من رعاية طبية وتعليم وحضانات أطفال، وغير المدفوع الأجر منه من أعباء المنزل وعناية الصغار والأقارب كبار السن خلال الحجر، والتي ما زلنا نشعر بآثارها الاقتصادية والنفسية علينا.
أهم هذه الدروس التي سرعان ما نسيناها هو أن الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الرعائي من صحة وتعليم ورعاية أطفال وكبار السن يخلق فرص عمل ووظائف أكثر على المدى الطويل من الاستثمار في قطاعات تقليدية مثل البناء والإنشاءات على سبيل المثال، وأن إهمال البنى التحتية الداعمة من مستشفيات وحضانات ودور رعاية نهارية له آثار كارثية على استمرار البشرية وبقائها.
الاستثمار في قطاعات الاقتصاد الرعائي من صحة وتعليم ورعاية أطفال وكبار السن يخلق فرص عمل ووظائف أكثر على المدى الطويل من الاستثمار في قطاعات تقليدية مثل البناء والإنشاءات.
ومع ذلك، ولأن الرأسمالية الحديثة المرتكزة على المفاهيم الاجتماعية الأبوية لا تعتبر العمل الرعائي عملاً ذا قيمة عالية في المجتمع، بل تعتبره امتداداً للعمل الرعائي الذي تتحمله النساء بمعظمه في الفضاء الخاص داخل المنازل، فبعد انقضاء الجائحة وزوال الحاجة الملحة له، عاد للواجهة مجدداً تجاهل صناع القرار لأهمية إدماج المفاهيم والسياسات الرعائية في صلب السياسات العامة.
هذا التجاهل السياساتي والإجرائي ليس جديداً علينا عندما يتعلق الأمر بسياسات متعلقة بالنساء، والذي ينعكس بدوره على السياسات الداعمة للقطاع الرعائي. ذلك أن المفاهيم الاجتماعية السائدة تربط العمل الرعائي -خصوصاً غير المدفوع منه- بالنساء بشكل مباشر.
فاقم التراجع في مرتبة الاقتصاد الرعائي على سلم أولويات الدول، إستفادة النظم الرأسمالية من عمل النساء غير المدفوع الأجر بل زاد اعتمادها عليه في إعادة إنتاج القوى العاملة والحفاظ عليها لتستمر في سوق العمل كل يوم فيما يعرف بـ"نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي"، حيث تقليدياً تعتني الزوجة بزوجها العامل عبر طهو طعامه وتنظيف ملابسه وبيته ورعاية أطفاله والاعتناء بهم ليصبحوا هم قوى عاملة في المستقبل وهكذا.
وبالتالي، يسهل تراجع الدولة عن تحمل مسؤوليتها في تقديم خدمات الرعاية، لصالح الاستعانة بالنساء بالمجان للقيام بهذه الأعمال وتحملها. ولأن تراجع دور الدولة في تقديم ودعم خدمات الرعاية يتناسب طردياً مع مشاركة النساء في سوق العمل، تجد الحكومات بالأخص في الدول المتعثرة اقتصادياً نفسها في معضلة، عندما تلجأ للاقتراض من صندوق النقد الدولي الذي يطلب منها الالتزام بمؤشرات من ضمن برامج "الإصلاحات الهيكلية" المرتبطة بشروط إقراض الصندوق، وعلى رأسها المؤشر الأصعب "رفع المشاركة الاقتصادية للنساء".
التشريعات فتنفيذها فالرقابة عليها
لم تنجح دولة واحدة في العالم في إشراك النساء في سوق العمل والمحافظة عليهن فيه دون تدخل ودعم مباشر منها، ودون المشاركة الحكومية في تحمل العبء الرعائي الواقع عليهن، وذلك عبر سن وإنفاذ التشريعات الناظمة لسوق العمل والتي تلبي احتياجات النساء فيه، وتحميهن من العنف والتحرش، وتوفر لهن الحمايات الاجتماعية والخدمات المساندة من حضانات ودور رعاية نهارية بمعايير موحدة مدعومة بشكل مباشر من الدولة.
في ظل هذه المعطيات، كيف نجيب على السؤال الأهم عنوان هذه المقالة، كيف نسترجع دور الدولة في رعاية أطفالها، عماد مجتمعها واقتصادها واستمراريتها؟
الانتقال من مرحلة النظريات والدراسات وترجمتها إلى التشريعات تعتبر خطوة أولى مهمة، نجحت في عبورها العديد من الدول، لكن التحدي الأكبر يأتي عند محك التطبيق والإنفاذ الحقيقي على الأرض، والرقابة لضمان الاستمرارية والبناء عليها.
يعاني الأردن بسبب وجوده في أسفل نسب المشاركة الاقتصادية للنساء في العالم بواقع 14٪ فقط، ولأن الدولة لم تنجح بتجاوز هذه النسبة في العقود الثلاثة الأخيرة، كان لا بد من تحولات سياساتية سريعة لعلاج هذا الاختلال الذي كان من أحد أهم مسبباته العبء الرعائي، والذي نسميه عبئا لما يشكله من أعباء على حياة النساء.
هذا التجاهل السياساتي والإجرائي ليس جديداً علينا عندما يتعلق الأمر بسياسات متعلقة بالنساء، والذي ينعكس بدوره على السياسات الداعمة للقطاع الرعائي. ذلك أن المفاهيم الاجتماعية السائدة تربط العمل الرعائي -خصوصاً غير المدفوع منه- بالنساء بشكل مباشر
ومع أن قانون العمل الأردني كان يحمل في طيه مادة متقدمة نظرياً لتخفيف هذا العبء وهي المادة 72 التي كانت تفرض على أصحاب العمل توفير مكان لرعاية أطفال العاملات لديها، إلا أن القانون في صلبه تخلى عن دور الدولة في هذا الملف ووضع العمال في مواجهة أصحاب العمل. فأجبرت الدولة أصحاب العمل على إنشاء حضانة في مكان العمل إن انطبق شرط وجود 20 امرأة عاملة وأكثر، ولم توفر لهم حوافز أو تمنحهم مزايا لتحملهم العبء المادي المترتب على ذلك وتخفيفه عنها أي الدولة.
خلل في القانون
إلا أن النص القانوني حينذاك لم يحم النساء تماماً، بل كان قد يؤثر بشكل عكسي على توظيف الإناث، إذ من الممكن أن يتوقف أصحاب العمل عن توظيف النساء عند العدد 19 في المنشأة الواحدة لتجنب الالتزام بالقانون.
يعاني الأردن بسبب وجوده في أسفل نسب المشاركة الاقتصادية للنساء في العالم بواقع 14٪ فقط
لم تنجح المادة في شكلها السابق ومضمونها في تغيير مسار نسبة المشاركة الاقتصادية في سوق العمل، وكان لا بد من تغيير جذري في شكل المادة مع توفير دعم مباشر للأسر العاملة ولأصحاب العمل ولقطاع الرعاية في الحضانات، الذي يعتبر قطاعاً هشاً يفتقد الحمايات الاجتماعية والأجور العادلة والمعايير الخدمية، والتي تشكل النساء النسبة الأكبر من العاملات وصاحبات العمل فيه.
ثم شكلت جائحة كورونا نقطة تحول كبرى في مسار ملف الاعتراف بالعمل الرعائي غير المدفوع الأجر في الأردن، الذي حملت رايته مجموعة من النساء المتضررات من غياب انتشار الحضانات منذ عام 2011، نظمنا أنفسنا في مؤسسة مجتمع مدني حملت اسم "صداقة" للعمل على خلق بيئة عمل صديقة للنساء. ووضعنا له إطاراً وطنياً بالتعاون مع منظمة العمل الدولية ووزارة العمل، ليرسم خارطة طريق للنهوض بقطاع الرعاية، وليربط ما بين التعديلات التشريعية والحوافز ورفع معايير الخدمات في قطاع الرعاية ومهننته.
نظمنا أنفسنا في مؤسسة مجتمع مدني حملت اسم "صداقة" للعمل على خلق بيئة عمل صديقة للنساء. ووضعنا له إطاراً وطنياً بالتعاون مع منظمة العمل الدولية ووزارة العمل.
فقبل الجائحة بعام واحد، وبعد عشر سنوات من المطالبات نجحت مؤسسة صداقة والمنظمات الداعمة لملف عمل المرأة بتعديل قانون العمل وعلى رأس التعديلات المادة 72 لتصبح الحضانات في مكان العمل من حق الأم والأب بنماذج مختلفة تتيح لأصحاب العمل المرونة في اختيار الأنسب لمنشآتهم. كما تم إدخال مفهوم العمل المرن وإجازة الأبوة ومنع التمييز بالأجور بين الجنسين في التشريع.
وخلال الجائحة، وبعد تصاعد المشكلة قامت مؤسسة الضمان الاجتماعي وبالتعاون مع مؤسسة صداقة بالخروج ببرنامجين لدعم الأمهات العائدات لسوق العمل بعد انتهاء إجازة الأمومة ودعم اشتراكات أطفالهن في الحضانات لمدة ستة أشهر ولغاية عمر خمس سنوات من خلال برنامج "رعاية". كما خصص الضمان الاجتماعي برنامج "دعم الكلف التشغيلية" لدعم قطاع الحضانات بشكل مباشر وتوسيع مظلة الحماية الاجتماعية للعاملات فيه.
تم تخصيص موارد البرنامجين من خلال صندوق تأمينات الأمومة، الذي أسس في عام 2011 لحماية الأمهات العاملات في سوق العمل ومنع التمييز ضدهن والتخلي عن خدماتهن خلال إجازة الأمومة عبر تحمل رواتبهن خلال الإجازة من الصندوق.
ولأن نسبة المستفيدات من الصندوق في السنوات العشر السابقة كانت متدنية بسبب تدني نسبة المشاركة الاقتصادية للنساء بشكل عام، توفر فيه فائض مادي أتاح خلق برامج مبتكرة لدعم وحماية النساء والأمهات العاملات ودعم البنية التحتية المساندة لعملهن.
عند الربط بين نظرية تحمل الدولة لمسؤولياتها الاجتماعية وآلية تطبيقها، من المهم أن ننظر إلى تنويع مصادر الدعم من الدولة بطريقة لا تشكل عبئاً إضافياً عليها في ظل ظروف اقتصادية أقل ما يقال عنها إنها حرجة. وفيما يعتبر برنامج الضمان الاجتماعي تجسيداً لنموذج من نماذج الدعم المباشر لقطاع الرعاية، يجب السعي لمأسسة هذا النموذج وإيجاد موارد مستدامة له، ليس فقط عبر اشتراكات منتسبي الضمان بل والتوسع في ذلك وتخصيص موارد مباشرة لرفده من الموازنة العامة أو إيجاد صناديق أخرى لدعم قطاع الرعاية بشكل شمولي من تدريب وتأهيل للكوادر العاملة فيه، لرفع معايير الخدمة ومهننة القطاع، وتقديم الدعم المباشر للعاملين والعاملات فيه، ولدور الرعاية النهارية بكافة أشكالها من حضانات ورياض أطفال، والنظر في منح حوافز تشغيلية من خصومات على فواتير الكهرباء لمقدمي الخدمة وحوافز ضريبية للقطاع والأسر العاملة نفسها لتصبح قادرة علي تحمل الأقساط.
عند الربط بين نظرية تحمل الدولة لمسؤولياتها الاجتماعية وآلية تطبيقها، من المهم أن ننظر إلى تنويع مصادر الدعم من الدولة بطريقة لا تشكل عبئاً إضافياً عليها في ظل ظروف اقتصادية أقل ما يقال عنها إنها حرجة
هذه التكاملية تتأتى عندما تتبنى الدولة منظوراً طويل الأمد عبر احتساب عوائد الاستثمار في الطفولة المبكرة على العوائد الاقتصادية، ومهما كان هذا الاستثمار الآتي من الدولة متواضعاً في البداية، ومهما كانت أشكاله، إلا إن الرسالة والغاية منه ستصلان حتماً إلى أصحابها إن كانت الدولة معنية فعلاً بالتنمية المستدامة وتحقيق العدالة الاجتماعية ورعاية أبنائها وبناتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ ساعتينلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري