شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"كل مرة بدي آجي أزور البلد بدي أدفع عن ابني 40 دينار؟"... عن معاناة المتزوجة من غير الأردني

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والنساء

الجمعة 30 سبتمبر 202202:55 م

هذا المقال أُنتج ضمن مشروع "المدافعات عن حقوق المرأة"، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.

كلما شعرت بأن الحديث عن الحقوق المنقوصة للمرأة الأردنية أصبح مكرراً ولا فائدة تُرجى منه، يحدث ما يشعرني بمرارة الظلم الذي تتعرض له المرأة في بلدي؛ أشعر بالقهر، وأغضب، وأحياناً أبكي من يأسي، ثم أفكر؛ لعل التكرار يغيّر شيئاً، أثم أهدّئ نفسي مواسيةً "فالج لا تعالج".

بدأت أفهم هذه المعاناة حين أنجبت ابني الثاني اللاأردني من أب يحمل جنسية أوروبية.

 عشت معظم حياتي في الأردن، ونصف سنوات أمومتي فيها كأم عزباء، وأدرك تماماً ما الذي يعنيه أن أكون امرأة وأماً عزباء في نظر المجتمع والقوانين والدستور في الأردن، قبل أن أصبح أماً لطفل غير أردني. كثيراً ما استمعت لشكاوى صديقاتي المتزوجات من أجانب عن الصعوبات التي تواجههن مع أزواجهن وأبنائهن الذين لا يملكون الجنسية على الرغم من "الدم الأردني" الذي يجري في عروقهن، لكنه دم النساء لا الرجال، وهو أرخص قيمة بكثير.

بدأت أفهم هذه المعاناة حين أنجبت ابني الثاني اللاأردني من أب يحمل جنسية أوروبية، تفاجأت بكمية القوانين التي تحرم ابني من حقوقه وتمنحها لابني الأكبر الأردني دون أية معاناة، على الرغم من أن كليهما أنجبتهما نفس الأم الأردنية المولد والمسكن والجنسية. 

عشر سنوات على حملة "أمي أردنية" 

في العام 2007 أطلقت الراحلة نعمة الحباشنة مبادرة "أمي أردنية وجنسيتها حق لي"، وانضمّت لها أمهات وناشطات وناشطون. وفي 29 تموز/ يوليو 2010 تم إطلاق الصفحة الخاصة بالحملة على فيسبوك، وكان أول ما تم نشره فيها نص المادة السادسة من الدستور الأردني "الأردنيون أمام القانون سواء لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة أو الدين".

قبل أن أصبح أماً لطفل غير أردني كثيراً ما استمعت لشكاوى صديقاتي المتزوجات من أجانب عن الصعوبات التي تواجهه أبنائهن الذين لا يملكون الجنسية على الرغم من "الدم الأردني" الذي يجري في عروقهن، لكنه دم النساء لا الرجال، وهو أرخص قيمة بكثير

بعد سنوات من انطلاق الحملة، أقرت الحكومة الأردنية منح أبناء وبنات الأردنيات مجموعة من المزايا؛ مزايا يمكن تسميتها بالمبتورة، مع تعقيدات في الحصول عليها تدفع معظم النساء إلى التخلي عنها كرهاً لخوض رحلة مرهقة من المعاملات الرسمية التي لن تعطي أبناءهن وبناتهن سوى "مزايا ومكارم" سطحية عوضاً عن حقوق يكتسبها المواطن بطبيعة الحال.

بعد أكثر من عشر سنوات من انطلاق الحملة صدر في الجريدة الرسمية ليوم 31 كانون الثاني/ يناير تعديل الدستور الأردني لسنة 2022، والذي تمّ فيه تعديل المادة أعلاه بإضافة عبارة "والأردنيات" بعد كلمة الأردنيين الواردة فيه. وبإضافة الفقرتين (6) و(7) إلى المادة السادسة من الدستور بالنصين التاليين:

- تكفل الدولة تمكين المرأة ودعمها للقيام بدور فاعل في بناء المجتمع بما يضمن تكافؤ الفرص على أساس العدل والإنصاف وحمايتها من جميع أشكال العنف والتمييز.

- تكفل الدولة تعزيز قيم المواطنة والتسامح وسيادة القانون وتكفل ضمن حدود إمكانياتها تمكين الشباب في المساهمة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتنمية قدراتهم ودعم إبداعاتهم وابتكاراتهم.

كلنا يعلم أن هذه التعديلات ما هي سوى "حبرٌ على ورق" دون وجود قوانين تدعمها وتفسّرها وتحولها إلى واقع، ولم نكن بحاجة إلى تصريح رئيس الوزراء بشر الخصاونة ليقول لنا إن إضافة كلمة الأردنيات للدستور ما هي إلا مجاملة جندرية مفرغة من معناها الحقيقي ومن أية حقوق تنضوي تحتها، إذ قال في مداخلة خلال جلسة مجلس الأعيان: "إن إضافة كلمة الأردنيات إلى الفصل الثاني من الدستور الأردني هو تكريم مستحق للمرأة الأردنية لكنه شكلي ولا يغير أحكاماً".

 طفلي غير الأردني غير مرحب به في بلدي

في العام 2020 غادرتُ الأردن للإقامة في تونس مع ابني الأردني وزوجي غير الأردني، وبعد عامين تقريباً عدت لأول مرة لزيارة عائلتي. هذه المرة جاء معنا فردٌ إضافي، رضيعي الذي لم يكمل شهره الثالث.

خلال جلسة مجلس الأعيان صرح رئيس الوزراء إن إضافة كلمة الأردنيات إلى الدستور الأردني هو تكريم مستحق للمرأة الأردنية لكنه شكلي ولا يغير أحكاماً.

وصلنا إلى مطار الملكة علياء، وأنا أحمل داخل قلبي أطناناً من الاشتياق والحب، تبخرت كلّها حين وصلت إلى واجهة ختم الجوازات وقال لي الشرطي: "ابنك بدو فيزا يختي، روحي على كاونتر الأجانب ادفعي للفيزا وارجعيلي".

لم أتمالك نفسي من الصدمة، وقلت له إن هذا الطفل أمه أردنية، ولكن كلماتي بدت وكأنها بلغة غير مفهومة. ذهبت إلى واجهة الأجانب، وأعطيت الشرطي جواز سفري الأردني وجواز سفر رضيعي الأوروبي، وقلت له بكل سذاجة "في شي غلط، كيف يعني لازم أدفع فيزا لابني وأمه أردنية؟" لم يبتسم ولم ينظر لي حتى، ختم الجواز وقال: "بس أبوه مش أردني، أربعين دينار يختي" أي ما يعادل 56 دولاراً. 

ضحكت بسخرية وقلت "كل مرة بدي آجي أزور البلد بدي أدفع عن ابني 40 دينار؟" ويبدو أن ضحكتي أثارت حفيظته، فنظر إلي وأجابني دون أي ابتسامة "هيك أحسن، عشان تخففي زيارات للبلد، مرة كل خمس سنين بكفي".

ما زلت أحمل مشاعر القهر والصدمة من هذا الاستقبال "الودود" في بلدي، وظللت أروي القصة أمام كل شخص أقابله وأنا متفاجئة من القانون ومن الرد ومن الاستقبال، ومتفاجئة من نفسي على هذا التفاجؤ بعد سنوات طويلة من المعاناة مع الحقوق المنقوصة كمواطنة أردنية سواء كأم، أو كأم عزباء، أو كأم متزوجة من غير أردني.

حين أروي القصة أمام أصدقائي الأجانب واستمع لشهقة الاستغراب تنهمر دموعي، وأدرك اليوم أن هذه الدموع في أغلبها كانت تعبيراً عن شعوري بالذل.

وفي محاولة من زوجي للتخفيف عليّ من هذا الشعور، سألني "ليش هالقد فارق معك؟ بشو رح تفيده الجنسية؟" حقاً، وفي حالتي تحديداً، لن تفيده بشيء، لعل رغبتي بأن يحصل ابني على الجنسية ما هي إلا رغبة لدي بأن أشعر بمواطنتي وأنني إنسانة كاملة الحقوق في بلدي على سبيل التغيير من أن أكون فقط كاملة الواجبات.

وصلنا إلى مطار الملكة علياء، وأنا أحمل داخل قلبي أطناناً من الاشتياق والحب، تبخرت كلّها حين وصلت إلى واجهة ختم الجوازات وقال لي الشرطي: "ابنك بدو فيزا يختي، روحي على كاونتر الأجانب ادفعي للفيزا وارجعيلي"

 تمييز مثير للغثيان 

في العام 2014 صرّحت وزارة الداخلية الأردنية بوجود "أكثر من 355 ألف ابن وابنة غير أردنيين لأمهات أردنيات"، وهو رقم غير دقيق لصعوبة حصر أعداد أبناء الأردنيات الذين يُسجل معظمهم في سفارات بلدان آبائهم دون أن يكون لهم ذِكرٌ في السجلات الأردنية، ويعاني أغلبهم من تحصيل الحقوق والخدمات الأساسية، وتقيّد السلطات حقهم في العمل والتملّك والسفر، وفي الحصول على التعليم والرعاية الصحية الحكوميَّين، بحسب تقرير صدر في العام 2018 عن "هيومان رايتس ووتش" وبالطبع فقد زادت الأرقام وزادت القيود منذ صدور التقرير.

في المطار أعطيت الشرطي جواز سفري الأردني وجواز سفر رضيعي الأوروبي، وقلت له بكل سذاجة "في شي غلط، كيف يعني لازم أدفع فيزا لابني وأمه أردنية؟" لم يبتسم ولم ينظر لي حتى، ختم الجواز وقال: "بس أبوه مش أردني، أربعين دينار يختي"

على أرض الواقع، وعلى الرغم من المزايا التي حصل عليها أبناء وبنات الأردنيات، ما زال التمييز بينهم يثير الغثيان، ما يزال ابن/ بنت الأردنية مطالباً/ة بدفع إقامة سنوية بقيمة 30 ديناراً (42 دولاراً) عن الفرد وفحص طبي من أجلها بقيمة 85 ديناراً (119 دولاراً)، ولا تلغي هذه المزايا الشكلية واجباتهم تجاه الدولة الأردنية من دفع الضرائب والالتزام بكافة المتطلبات المالية والقانونية التي تترتب على أي مواطن آخر اكتملت أردنيته. 

يواجه المحرومون من الجنسية عقبات في طريق التوظيف، وعلى الرغم من أن أبناء الأردنيات لم يعودوا بحاجة إلى تصاريح عمل للتوظيف، لكن العديد من المهن في الأردن ما زالت مغلقة أمام غير الأردنيين، وعلاوة على ذلك في الحالات التي لا يستطيع فيها الأزواج الأجانب تأمين عمل بسبب عدم وجود تصاريح عمل، تكون المرأة هي المعيلة الوحيدة للأسرة.

ضحكت بسخرية وقلت "كل مرة بدي آجي أزور البلد بدي أدفع عن ابني 40 دينار؟".

بلدي حين أنكرت عليّ أمومتي 

في العام 2020، ومع إقرار العمل بقانون الدفاع والإغلاقات التي فرضتها جائحة كورونا، وجدت بعض الأردنيات أنفسهن في مواجهة التمييز بأبشع صوره، إذ تمّ حرمان أبناء وبنات الأردنيات من إدراجهم على قوائم الطلبة الذين يدرسون في الخارج ومنحتهم الحكومة الأردنية إجراءات تسهيلية للعودة، صورة أخرى للذل الذي تعيشه المرأة الأردنية تحت نظر القانون والدستور.

أذكر في ذلك العام أن ابني الأردني كان عالقاً في الأردن بينما أنا في تونس، كان موعد لقائي به بعد أسبوع واحد من إغلاق المطار، لكن الظروف المفاجئة أجّلت اللقاء لنصف سنة كاملة، لم أوفّر طريقة إلا وسلكتها لأجتمع بابني، من التواصل مع المسؤولين إلى البكاء والترجي لكن دون جدوى.

حين تواصلت مع سفارة الأردن في تونس كانت الإجابة واضحة دون حاجة لقول الكلمات بحرفيتها "أنتِ لست مواطنة حقيقة" أجابني المسؤول يومها دون أي اعتبار لأردنيتي، قال: "إحكي مع سفارة جوزك يختي، نحنا ما بنقدر نساعدك".

حين تواصلت مع سفارة الأردن في تونس كانت الإجابة واضحة دون حاجة لقول الكلمات بحرفيتها "أنتِ لست مواطنة حقيقة" أجابني المسؤول يومها دون أي اعتبار لأردنيتي، قال: "إحكي مع سفارة جوزك يختي، نحنا ما بنقدر نساعدك"

وفعلاً قامت سفارة زوجي الأوروبية التي لا يحمل ابني الأكبر جنسيتها بمساعدتي من خلال التواصل مع السفارة التونسية في الأردن، وهكذا فقط استطعت أن اجتمع بابني مجدداً، فيما اكتفى مسؤولو بلدي بتجاهل أمومتي التي صرت لا أشعر باكتمالها إلا وأنا خارج الأردن.

منذ تلك اللحظة صرت أدرك معنى أن تحميني جنسية دولة تعترف بحقوق الإنسان وحقوق مواطنيها وعائلاتهم، وصرت أكره حاجتي لجنسية أخرى لأستقوي بها وأشعر بإنسانيتي، والأصعب أن هذا الاستقواء لم يكن مصدره وطني.

حرمان المرأة من حقوق متساوية مع الرجل في شأن المواطنة والجنسية هو شكل واضح من أشكال التمييز الجندري، والغالبية العظمى من قوانين الجنسية غير المتكافئة تميز ضد المرأة في قدرتها على اكتساب أو تغيير أو الاحتفاظ بجنسيتها ومنح جنسيتها للأطفال والأزواج الأجانب، وتتعارض مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، بما في ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز (CEDAW)التي تلزم الدول صراحة بضمان حقوق جنسية متساوية للمرأة (المادة 9)، والتي وقع عليها الأردن "بتحفظ" في العام 1992، وتم نشرها في الجريدة الرسمية في العام 2007.

من المحزن أن تجد بعض النساء الأردنيات شعور المواطنة المفقود لديهن خارج بلدهم، فيصير سهلاً عليهن في ظل غياب الحقوق أن يستبدلن أوطانهن بأوطان لا يحملن لا تاريخها ولا ذكريات طفولة فيها

عندما تنكر الدولة حقوق الجنسية المتساوية للمرأة والرجل، تخلق فئة من مواطني الدرجة الثانية، وكل ما يترتب على ذلك من انعدام الشعور بالانتماء والمواطنة والعدالة. ففي الأردن ينتمي الطفل إلى الأب، بدلاً من أن ينتمي لكلا الوالدين، ويكبر أبناء الأردنيات دون شعور بالانتماء للمكان الذي يعيشون فيه، وفي البلد الذي تحمل أمهم جنسيته، ويظل الظلم الذي يشعرون به هو المحرك الأكبر في قراراتهم وخياراتهم تجاه المكان الذي وجدوا أنفسهم مضطرين أن يقولوا عنه وطن دون أن يكون كذلك في واقع الأمر.

من المحزن أن تجد بعض النساء الأردنيات شعور المواطنة المفقود لديهن خارج بلدهم، فيصير سهلاً عليهن في ظل غياب الحقوق أن يستبدلن أوطانهن بأوطان لا يحملن لا تاريخها ولا ذكريات طفولة فيها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image