هرباً من داعش الذي احتل مدينتهم وأجزاء واسعة من العراق في العام 2014، قررت عائلة محمد الحديثي الخروج من مدينة تكريت، مركز محافظة صلاح الدين. غادرت منزلها بدون أي وجهة واضحة. فقط أرادت أي مكان بعيد عن سيطرة التنظيم المتشدد. خوف ورعب وأمل في النجاح بالابتعاد. لم يكن في بالهم أن ما ينتظرهم خارج أسوار سجن التنظيم الكبير سيكون أسوأ.
في طريق الهروب، وصلت العائلة إلى نقطة سيطرة أمنية متمركزة في منطقة الجلام الفاصلة بين قضائي الدور وسامراء. أمرهم عنصر الأمن بالترجل من السيارة، للتدقيق الأمني، وهو إجراء عادي، فقد يكون بين النازحين إرهابيون.
ترجّل الوالد وديع الحديثي من السيارة وتوجّه إلى الباب الخلفي ليساعد ابنه محمد، وكان عمره حينها 23 سنةً، على الجلوس على كرسيه المتحرك، فهو مصاب بمرض الضمور العضلي منذ أكثر من عشر سنوات.
صرخ الجندي بالوالد طالباً منه الابتعاد. نظر إلى محمد وأمره بالمشي. لكن الأخير عاجز عن ذلك بطبيعة الحال. أصر الجندي على طلبه ولم يستمع إلى توسلات العائلة التي حاول أفرادها شرح مرض ابنهم الذي تبدو علاماته على قدميه النحيلتين، ولكن دون جدوى. انتهى النقاش قبل أن يبدأ: "ابنكم داعشي ويريد تفجير نفسه عبر كرسيه المتحرك"، قال عنصر الحشد الشعبي.
جملة تحمل استنتاجاً متسرّعاً وغبيّاً كانت كفيلة بأن تحلّ الرعب على كامل العائلة، رعب فاق كل ما عايشوه في رحلة هروبهم من داعش، "فكيف بذي الإعاقة الجسدية أن يفجّر نفسه، وأين هي أداة التفجير؟"، يقول والده وهو يروي لرصيف22 تفاصيل الحادثة التي قلبت حياتهم، ويضيف: "اقتاد العناصر المسلحون محمد إلى مكان بعيد قليلاً عنّا، كنّا جميعاً نبكي ونتوسل الرحمة. لم تمر دقائق معدودة حتى سمعنا طلقات نارية من المكان الذي اقتيد إليه".
"أدركت أن ابني لن يعود وغادر الدنيا"، يتذكّر أبو محمد بلوعة، "ولكني أخذت قراري بالمغادرة فوراً، فبقاؤنا في هذا المكان سيعني بلا شك سقوط ضحية جديدة منّا. أكملنا طريقنا أنا وزوجتي وابني الصغير وبناتي الأربع. كنّا نبكي جماعةً وكأننا في مأتم لا نعرف مَن نعزّي فيه. كنت أقود السيارة من دون أن أدرك إلى أين أنا ذاهب. فقدتُ الشعور بكل شيء".
ينهي الرجل الخمسيني كلامه: "هربنا من الإرهاب لنشهد على إرهاب آخر. يا ليتنا ما هربنا، وقتلنا داعش جميعاً، بدل العيش في ظل ذكرى قتل فلذة كبدي، والشعور بالعجز عن الدفاع عنه".
الطائفية الحديثة في العراق
قصص كثيرة مشابهة لما مرّ به محمد الحديثي توثّق جوانب مؤلمة مما خبره المجتمع العراقي، في ظل انتشار الطائفية في البلاد.
والطائفية في العراق ليست ظاهرة جديدة، لكنها لم تتفاقم يوماً على مرّ تاريخها، كما جرى بعد عام 2003. قبيل إسقاط نظام صدام حسين، أعلنت قوى المعارضة العراقية التي كانت تضم معظم الأحزاب الإسلامية الشيعية، دعمها لحرب إسقاط النظام البعثي، وكانت ترى أنه يمثل السنّة دون الشيعة، وأن الشيعة يحق لهم السيطرة على النظام السياسي في العراق، باعتبارهم الطائفة الأكبر عددياً.
تحقق ما أرادته هذه القوى منذ البداية، عبر مبدأ المحاصصة الذي وافق عليه الحاكم الأمريكي للعراق حينذاك بول بريمر. تشكل مجلس الحكم الانتقالي وسيطر السياسيون الشيعة على 13 مقعداً من مقاعده الـ25. لكن أزمة الطائفية لم تنتقل إلى الشارع حتى عام 2004، وبدأت باغتيال التنظيمات المسلحة الشيعية أعضاء من حزب البعث من السنّة، مثل نقيب الفنانين العراقيين داوود القيسي، المعروف باسم مطرب صدام، في أيار/ مايو عام 2003، أي بعد شهر من نهاية العمليات العسكرية لاحتلال العراق، قبل أن تتصاعد وتيرة الاغتيالات تدريجياً.
في المقابل، ومدعوماً بامتعاض عربي غير خفي من "إعطاء العراق للشيعة"، راح تنظيم القاعدة وتنظيمات جهادية سنّية متشددة أخرى ينفّذون حملات مشابهة ضد الشيعة، مع فارق أن نشاط الجماعات الشيعية كان أوسع و"أسهل"، فهي تغلغلت في مؤسسات الدولة، مع دمج عناصر من الأحزاب المعارضة الشيعية داخل المنظومة الأمنية، بعد حل سلطة الاحتلال للجيش السابق. هؤلاء عُرفوا لاحقاً بمصطلح "ضبّاط الدمج".
تطرّفان نشطان كانا كافيين لجرّ العراق إلى أحداث الاقتتال الطائفي التي اندلعت بعد تفجير قبتيْ مقاميْ الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في مدينة سامراء، في 22 شباط/ فبراير 2006، فوقع العراق تحت ثقل التفجيرات الإرهابية من جهة وثقل استهداف الحواجز الأمنية لكل مَن يحمل اسماً فيه دلالة سنّية، بجانب عمليات تهجير منظمة ضد السنّة في مناطق بغداد.
توضح الباحثة الاجتماعية في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية سجى خالد لرصيف22 أن "خسارة أحدهم لأقاربه أو عائلته ضمن هذه العمليات، يعزز استمرار الفكر الطائفي في المجتمع، ويصعّب محوه، ويجعله يتغلغل تدريجياً في نفوس باقي أبناء المذهب، ضمن حميتهم الطائفية أو العرقية، وبالتالي يعزز رغبات الانتقام في المجتمع".
ويضع البعض عمليات الفصائل الشيعية الانتقامية ضمن هذا السياق، ويعزو آخرون انضمام بعض السنّة إلى التنظيمات الجهادية إلى البحث عن الانتقام أيضاً.
فوضى العراق هجّرت أبناءه. بين عاميْ 2005 و2008 فقط، وصل عدد اللاجئين العراقيين في سوريا وحدها إلى أكثر من مليون ونصف لاجئ، بحسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة.
من المالكي إلى داعش
في ظل هذه الفوضى العارمة، وصل القيادي الشيعي نوري المالكي إلى رئاسة الوزراء. كان ذلك في أيار/ مايو 2006. كان الوضع الأمني منفلتاً إلى أقصى الحدود ومستوى الاحتقان الطائفي وما يرتبط به من قتل على الهوية وخطف وتهجير في ذروته.
لتثبيت أقدامه في منصبه، رفع المالكي شعار فرض القانون، وشنّ عمليات عسكرية على جبهتين: أطلق عملية "صولة الفرسان" ضد ميليشيا جيش المهدي التابعة للزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر في المحافظات الشيعية، والمنخرطة في عمليات الاقتتال الطائفي، وعملية "أم الربيعين" ضد تنظيم القاعدة في محافظة الموصل، وعمليات أخرى ضد التنظيمات الجهادية.
"اقتاد العناصر المسلحون محمد إلى مكان بعيد قليلاً عنّا. كنّا جميعاً نبكي ونتوسل الرحمة. لم تمر دقائق معدودة حتى سمعنا طلقات نارية من المكان الذي اقتيد إليه"
ولكن جهود المالكي لم تحمل الحل المنشود، فهو نفسه من أكثر الشخصيات المتهمة بالطائفية في العراق، وضمّ إلى حكومته متهمين بالضلوع في الاقتتال الطائفي مثل وزير الداخلية السابق باقر جبر صولاغ، المتهم بقيادة فرق الموت، والذي مُنح حقيبة المالية، وجواد بولاني الذي مُنح حقيبة الداخلية ويُتّهم بإفساح المجال أمام زيادة نفوذ الجماعات المسلحة داخل أجهزة الشرطة. كما قرأ كثيرون "حربه" ضد الصدر على أنها حرب على النفوذ في "البيت الشيعي". ثم كان لعملية إعدام صدام حسين في عهده، وما تخللها من تجاوزات، أثر كبير في زيادة شعور قطاعات واسعة من السنّة بأنها تحت مرمى الاستهداف الشيعي.
يذكّر الباحث السياسي رعد هاشم، في حديثه لرصيف22، بالشعارات التي رفعها المالكي، وسخّر من أجلها ميزانية الدولة، مشيراً إلى أنها تنسجم مع سياسة إيران في المنطقة و"استغلالها للفتيل الطائفي من أجل بسط سيطرتها".
وكان المالكي قد رفع شعارات أطلقتها قائمته الانتخابية، "الائتلاف الوطني العراقي"، والمعروفة شعبياً باسم شمعة، نسبةً إلى رمزها، والتي ضمت معظم الأحزاب الإسلامية الشيعية وقتها، مثل: "ماكو ولي إلا علي"، و"يا شيعة أمير المؤمنين انصروا مرجعيتكم"، و"لا تكونوا كأهل الكوفة عندما خذلوا الحسين".
في العمليات العسكرية التي شنتها حكومة المالكي ضد التنظيمات المسلحة في المحافظات السنّية، بين عامي 2006 و2010، لم يسلم المدنيون، واعتُبر ذلك إمعاناً في سياسة التهميش التي طالت المناطق السنّية أثناء فترة حكم المالكي. هذا الشعور الشعبي السنّي كان من أبرز أسباب انتفاضة المحافظات السنّية بين عامي 2012 و2013، والتي وصلت إلى مناطق الزخم السنّي في العاصمة، وأصبحت بذلك تهدد الحكم الشيعي مباشرة، بحسب النظرة الحزبية الضيّقة. فما كان من بعض الأحزاب الشيعية المهيمنة على البلاد، إلا أن قادت حملة قمعية ضد المنتفضين، أسفرت عن مجازر عدّة أبرزها مجزرة الحويجة في 23 نيسان/ أبريل 2013، والتي قُتل فيها أكثر من 50 مواطناً على يد القوات الأمنية.
مثّلت تلك الظروف الفرصة الأنسب لتوسّع داعش. في العاشر من حزيران/ يونيو 2014، اقتحم مسلحو التنظيم محافظة نينوى بدون قتال، وسيطروا في وقت قصير على مناطق واسعة من العراق تشمل كل المحافظات السنّية.
وأمام عجر القوات الأمنية وانسحابها بدون قتال من أمام قوات داعش الزاحفة، وما تطرحه من علامات استفهام لا تزال بلا إجابات شافية حتى اليوم، أعلنت المرجعية الشيعية العليا فتوى الجهاد الكفائي، في 13 حزيران/ يونيو 2014، وتشكَّل بموجبها ما عُرف بالحشد الشعبي، الذي يضم إضافة إلى المتطوعين، معظم الفصائل المسلحة الشيعية.
"هربنا من الإرهاب لنشهد على إرهاب آخر. يا ليتنا ما هربنا، وقتلنا داعش جميعاً، بدل العيش في ظل ذكرى قتل فلذة كبدي، والشعور بالعجز عن الدفاع عنه"
تجاوز عدد الفصائل المسلحة ضمن هيكلية الحشد الشعبي 67 فصيلاً، وبقي محافظاً على استقلاله وصفته كتنظيم مسلح موازٍ للقوات الأمنية حتى 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، عندما أقر البرلمان قانون هيئة الحشد الشعبي، ليصير جزءاً من منظومة الدولة الأمنية بشكل رسمي.
نشط الحشد بفعالية في المعارك ضد داعش، مسنوداً بدعم إيراني ميداني، وبغطاء جوي أمريكي غير رسمي. ومع تحرير العراق من التنظيم المتطرّف، بقيت فصائل الحشد الأكثر تطرفاً طائفياً تسيطر على مساحات واسعة من المناطق المحررة.
مجنون ولكن إرهابي
أثناء مداهمة ليلية في إحدى ليالي العام 2016، في مركز قضاء المقدادية، اعتقل الحشد الشعبي علي النعيمي وأخيه. قصة علي وشقيقه تحمل تفاصيل غريبة. هما متهمان بالتخطيط لشن هجمات إرهابية. يمكن تصديق هذه التهمة على أخيه. لكن علي مصاب بمرض عقلي شديد. بحسب الوصف العامي هو "مجنون". لا يعرف اسمه. فكيف له التخطيط لعمل إرهابي؟
حاولت والدتهما شيماء استجداء تعاطف الخاطفين، ولكن دون جدوى. تروي لرصيف22 أنها لم تترك سبيلاً لمحاولة إيجاد ولديها، وأنها وكّلت محامين، وقابلت أعضاء في البرلمان، ولكن الفشل كان رفيقاً لجميع محاولاتها. تركها الخاطفون بلا معين، برفقة فتاتين صغيرتين، فزوجها كان قد خطفه مرض السرطان.
يصنَّف علي وشقيقه ضمن قوائم المغيّبين. لا أحد يعرف مصيريهما. هل يقبعان في أحد السجون؟ هل قُتلا؟ "تركتُهما بيد خالقهما"، تقول الوالدة، بصوت فيه الكثير من الأسى والتعب.
"الاعتقالات القسرية تجد سبيلها دوماً إلى السنّة، وبتهم متنوعة ما بين الإرهاب أو الانتماء إلى حزب البعث"، يقول مصدر نيابي سابق رفض التصريح باسمه بسبب حساسية الوضع الأمني، لرصيف22، ويضيف أن "استفحال هذه الظاهرة يرجع إلى ضعف التركيز الإعلامي عليها، نظراً إلى الرقابة المفروضة على مثل هذه النوعية من الأخبار، ومنع تغطية أحداثها، كما تُجهَّز لها توضيحات مسبقة واعترافات بالإكراه من أجل تبريرها، وإنْ كان المعتقلون مجانين".
رفع نوري المالكي شعارات مثل "ماكو ولي إلا علي"، و"يا شيعة أمير المؤمنين انصروا مرجعيتكم"، و"لا تكونوا كأهل الكوفة عندما خذلوا الحسين"
ومسألة استغلال ذوي الإعاقة العقلية تتجاوز الانقسام الطائفي، فقد استخدم داعش هذه الفئة في تنفيذ عمليات انتحارية. يقول المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة اللواء تحسين الخفاجي لرصيف22 إن "داعش فعل كل شيء عندما كان يسيطر على بعض المناطق، واستخدم المدنيين دروعاً بشرية"، ويضيف: "كان يستخدم الأشخاص من ذوي الإعاقة الجسدية والعقلية لتفخيخهم وإرسالهم باتجاه القوات الأمنية. ليس هذا فحسب، بل في إحدى المرات فخخ طفلاً كان ينتظرنا خلال عمليات تحرير مدينة الموصل".
استغلال داعش لا يقتصر على ذوي الإعاقة العقلية، فقد تجاوز ذلك نحو استغلال الأطفال في تنفيذ عمليات انتحارية أو قتالية أخرى، بحسب تقرير نشرته لجنة حقوق الطفل التابعة للأمم المتحدة، في شباط/ فبراير 2015، وهذا الاستغلال تم "على الأرجح دون أن يعوا ذلك"، بحسب الخبيرة في اللجنة ريناتي وينتر، في تصريح لها لوكالة رويترز، في شباط/ فبراير 2015.
الإرهاب والتغيير الديموغرافي
بعد انتهاء عمليات تحرير المناطق التي سيطر عليها داعش، بقيت فصائل من الحشد الشعبي تسيطر على بعضها، بذريعة حمايتها من عودة التنظيم إلى نشاطه فيها. لكن البعض يتهمها بالعمل على تغيير ديموغرافيا بعض المناطق السنّية.
من هؤلاء "مركز جنيف الدولي للعدالة"، وهو منظمة غير حكومية. يتهم "الأجهزة المرتبطة بالسلطة القائمة في العراق ومن خلال أذرعها ووحداتها التي تأخذ تسمّيات وهياكل شتّى" بممارسة عملية "تطهير عرقي" و"تغيير ديموغرافي" في محافظة ديالى منذ عام 2016، وذلك بتواطؤ "عناصر برلمانية وسياسيّة... مقابل صفقات سياسية وتجارية".
يشير تقرير المركز إلى أن قضاء المقدادية هو الأكثر استهدافاً في محافظة ديالى، ويتحدث عن الهجوم الذي شنته الفصائل المسلحة في 11 كانون الثاني/ يناير 2016، وجرى فيه إعدام 30 شخصاً، وجرح 60 آخرين، في عملية تصفية تلاها تفجير 13 مسجداً خلال الأيام اللاحقة، وقتل المصلين داخلها. وبحسب التقرير، جاب المسلحون المنطقة حاملين مكبّرات صوت ومرددين شعارات طائفية ضد العرب السنّة، لحثهم على المغادرة.
أثناء مداهمة، اعتقل الحشد الشعبي علي النعيمي وأخيه. قصة الأخوين تحمل تفاصيل غريبة. هما متهمان بالتخطيط لشن هجمات إرهابية. وإذا كان ممكناً تصديق التهمة على أخيه، إلا أن علي مصاب بمرض عقلي شديد. بحسب الوصف العامي هو "مجنون"
سبب هذه الحملة ينبع من موقع المحافظة الرابط بين الحدود الإيرانية ببغداد. وكانت حملة تهجير سكان قرية نهر الإمام التابعة لقضاء المقدادية منتصف تشرين الأول/ أكتوبر 2021، آخر هذه الحملات العلنية.
عمر علي الفلاحي، أبو سلمان، يبلغ من العمر 86 سنةً، كان أحد ضحايا عملية التهجير التي طالت حي الرويعية، في مركز ناحية جرف الصخر. اعتقلته منظمة بدر التابعة للحشد الشعبي عام 2014 بتهمة الإرهاب واستهداف نقاط عسكرية عراقية، ولكن ابنه أحمد يؤكد أن أبيه كان عاجزاً عن الحركة بسبب عمره، ويقول لرصيف22 إن رفضه مغادرة منزله هو سبب اعتقاله، وحتى الآن مصير أبو سلمان لا يزال مجهولاً ويصنف أيضاً ضمن قوائم المغيبين.
وجرف الصخر كانت من النواحي الأولى التي استعادها الحشد الشعبي من داعش، عام 2014، وهجّر خلالها سكانها بحجة نزع الألغام ولكنها لا تزال مغلقة عليهم حتى الآن. وتحاصر نخبة من مقاتلي الحشد الشعبي هذه المنطقة التي تحوّل اسمها إلى "جرف النصر" حالياً، وتمنع مرور أي شخصية بقربها، أكانت مدنية أو سياسية، وحالة التعتيم المحيطة بالمنطقة أحاطتها بهالة من الشائعات حول طبيعة ما يجري داخلها.
مصعب المشهداني هو اسم مستعار لأحد ضحايا الحشد الشعبي. اعتُقل عام 2021، في قضاء الطارمية، شمالي بغداد، بتهمة الانضمام إلى داعش، وكان لا يزال في الـ13 من عمره، ومصاب بمتلازمة التوحد من الدرجة الثانية.
حتى الآن، مصير مصعب لا يزال مجهولاً، رغم مرور أكثر من عام على اعتقاله. حاولت عائلته الكشف عن مصيره عبر التواصل مع القوّة المسيطرة على الأرض، ولكن الأخيرة تنفي شنها لأي غارة على المنطقة خلال ليلة اعتقال مصعب، وكذلك الأمر بالنسبة إلى هيئة الحشد الشعبي.
الحشد "حارس السلطة"
يقول الباحث السياسي مجاهد الطائي لرصيف22 إن "الحشد الشعبي ساهم بشكل مباشر وغير مباشر في زيادة الاستقطاب الطائفي تحت غطاء الحرب على الإرهاب"، واصفاً وجهوده ونشاطه بأنه "من ضمن تداعيات الطائفية والصراع على السلطة، إضافة إلى التدخلات الإقليمية".
ويضيف أن "السلطة ترى في الحشد الشعبي حارساً على بقائها بيد الطائفة الشيعية ضد الحكم السنّي الذي كان قبل عام 2003، بحسب اعتقادها، وتالياً ترى العديد من أحزاب السلطة الشيعية أن تراجع الطائفية سيفسح المجال أمام ارتفاع الحس الوطني، وهو ارتفاع سينعكس سلباً على وجودها ومصالحها التي لا يمكن تحقيقها إلا بوجود الطائفية في البلاد، وهذا الاعتقاد يبرر بعضاً من أسباب توحدها ضد النزعات الوطنية، كالتي رافقت حراك تشرين عام 2019".
وبحسب مصدر أمني برتبة عقيد في جهاز الأمن الوطني في بغداد، على اطلاع على الملف، وطلب عدم كشف اسمه، فإن الحكومة العراقية على معرفة بالممارسات الطائفية لبعض الفصائل، "ولكنها تقف عاجزة أمام اتساع قاعدة نفوذ الفصائل تحت جناح الحشد الشعبي". ويضيف المصدر لرصيف22 أن الحشد الشعبي يقوم بتجاوزات كثيرة هدفها تعزيز فكرة أنه مدافع عن الشيعة ضد التطرف السنّي الذي يرغب في افتراسهم.
انتهاكات طائفية كثيرة رافقت عمليات استعادة المناطق السنّية التي كانت تحت سيطرة داعش، ولعل أبرزها، مجزرة المحامدة عام 2016 بالقرب من مدينة الفلوجة غربي محافظة الأنبار، ووثّقت لجنة شكّلها محافظ الأنبار السابق صهيب الراوي، مقتل 49 شخصاً واختفاء 643 مدنياً على يد فصائل تابعة للحشد الشعبي.
وتحدّث مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، زيد بن رعد الحسين، في السابع من حزيران/ يونيو 2016، عن "تقارير موثوقة ومزعجة للغاية من أن بعض الناس الذين نجوا من تجربة الهروب المرعبة من داعش واجهوا اعتداءات جسدية شديدة بمجرد وصولهم إلى الجانب الآخر".
ووثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش، في تقرير نشرته في التاسع من حزيران/ يونيو 2016، العديد من شهادات النازحين أثناء عمليات تحرير الفلوجة من تنظيم الدولة، كشفوا فيها اعتداء القوات الأمنية على المواطنين، واعتقالهم قسرياً وتغييبهم، إضافة إلى تنفيذ إعدامات ميدانية بحقهم.
هذه الانتهاكات تنمّي خوفاً سنّياً من الهيمنة الشيعية، واعتقاداً بأن مكافحة داعش ليست سوى حجة تُستخدم ضدهم لقمعهم وتهجيرهم. هذا الخوف ليس وليد فراغ بل وليد انتهاكات ومجازر وعمليات إخفاء قسري وشعارات رفعها الحشد الشعبي مثل شعار "يا لثارات الحسين"، رغم أن هيئة الحشد تقول إن هذه الشعارات موجّهة لإرهابيي داعش حصراً لا لعموم السنّة.
لا ينفي مصدر في المكتب الإعلامي لهيئة الحشد الشعبي، رفض ذكر اسمه كونه من غير المصرَّح لهم بالحديث للإعلام، وقوع اعتداءات على مدنيين من قبل بعض عناصر الحشد، ولكنه يعتبر أن مثل هذه السلوكيات هي أفعال فردية. وبرأيه، يندرج التركيز الحالي على مثل هذه التهم ضمن لعبة سياسية، ومحاولة تسقيط الهيئة من أجل حلها، كما يطالب بعض السياسيين والأحزاب.
لا يزال الحشد الشعبي يسيطر بالكامل على مناطق كثيرة، ويمنع أهلها من العودة، مثل العوجة وسد ناظم الثرثار وجرف الصخر، رغم مرور خمس سنوات على انتهاء العمليات ضد داعش، بحسب المتحدث السابق باسم "مرصد أفاد" ومدير المركز الثقافي العربي الأوروبي، زياد السنجري.
ويقول السنجري لرصيف22 إن حل الأزمة يكمن في تسليم الملف الأمني إلى أجهزة الدولة والتركيز على سبل تطوير عمل هذه الأجهزة بشكل مهني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه