كان الشيخ محمود شلتوت (1893-1963)، شيخ الجامع الأزهر منذ عام 1958 حتى وفاته، أحد أيقونات الإصلاح الديني، ورائد التقريب بين المذاهب الإسلامية في العصر الحديث.
كرّس حياته ومؤلفاته للخروج من شرنقة المعتقد، والشفاء من العصبية المذهبية، فكان أول من حطّم احتكار الحقيقة المطلقة التي استأثر بها كل مذهب من المذاهب الإسلامية، وكان رائداً في دعوته بجواز التعبّد بأي مذهب إسلامي محكم في العصر الحديث.
قام شلتوت بالتقريب بين مذهبي السنّة والشيعة (الجعفرية أو الاثنا عشرية أو الإمامية) في فتوى رسمية شهيرة اقترنت باسمه، اعترف فيها بصحة المذهب الشيعي (الاثنا عشري)، بل وأدخله في مناهج تدريس الأزهر كما خصص عضوية للشيعة في مجمع البحوث الإسلامية التابع له، سنة 1961، وكانت هذه خطوة ثورية.
رأى شلتوت أن الخلاف القائم بين السنّة والشيعة "كالخلاف بين مذاهب السنّة بعضها وبعض"، حسبما صرّح في حوار مع مجلة الأزهر سنة 1959، وكلل جهوده بفتواه المذكورة آنفاً والتي أجاز فيها التعبّد بالمذهب الشيعي الاثنا عشري، في لفتة تشي بشجاعة نادرة من شيخ جالس على قمة الأزهر، أعتى قلاع السنّة.
رحابة الانفتاح على الآخرين
انطلق شلتوت من فكرة مؤداها أنه طالما كانت مصادر المذاهب الإسلامية واحدة، فلا يحق لأحدها احتكار الحق، ومصادرة حق المذاهب الباقية بفهم الإسلام وتكفير أتباعها وإخراجهم من الملة الإسلامية، بل وذهب أبعد من ذلك، إذ أجاز أن يعتمد المرء في عبادته طرقاً جديدة بدون حرج.
آراء شلتوت الإصلاحية في التقريب بين السنّة والشيعة، وتجاوزه حدود المذهب السنّي إلى رحابة الانفتاح على المذاهب الأخرى كانت سابقة على اعتلائه كرسي شيخ الأزهر، فقد بدأت تتبرعم خلال مواقفه في إطار "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" التي كان أحد مؤسسيها، سنة 1948، في القاهرة.
كانت هذه الدار جمعية تسعى إلى تقريب المسافات بين جميع المذاهب الإسلامية، وضمت عند تأسيسها كوكبة من 20 عضواً من كبار رجال الدين من جميع المذاهب الإسلامية، من مصر وخارجها، وكان شلتوت حاضراً فيها بوصفه عضواً في هيئة كبار العلماء في الأزهر.
تقريب المذاهب
كان شلتوت مؤمناً بما سمّاه "دعوة التوحيد والوحدة" بين المذاهب الإسلامية، لا سيما المذهبين السنّي والشيعي الاثنا عشري، وكرّس شطراً كبيراً من حياته في هذا السبيل، قبل وبعد توليه منصب شيخ الأزهر، وسخّر منصبه الأخير لهذه الغاية حتى وفاته.
وتوسّل الشيخ للتقريب بين السنّة والشيعة بعدة وسائل منها وضعه مصّنفاً يتضمن الأحاديث النبوية التي اتفق السنّة والشيعة على صحتها.
وواصل جهوده في التقريب بين المذهبين، وكللها سنة 1959 بإدخاله فقه المذهب الشيعي ضمن المذاهب التي يقوم الجامع الأزهر بتدريسها، وهو ما ساهم في إدخال المذهب الشيعي ضمن مذاهب "مجمع البحوث الإسلامية" في الأزهر، وأقرّ ذلك في قانون تطوير الأزهر سنة 1961.
وعندما أصدر شلتوت فتواه الشهيرة، حدث دوي هائل ما زالت أصداؤه باقية حتى اليوم في أروقة الأزهر، وتعدّته إلى مختلف المؤسسات الدينية السنّية.
حيثيات الفتوى
يذكر الباحث السوري حسن سلهب في كتابه "الشيخ محمود شلتوت/ قراءة في تجربة الإصلاح والوحدة الإسلامية" أن لقاءات شلتوت العديدة والتواصل الدائم مع أعلام الشيعة في تلك الفترة، أشاع مناخاً ودياً انعكست آثاره على فكر الشيخ وإنتاجه وقراراته العامة في الجامع الأزهر.
كان في مقدمة أعلام الشيعة الذين التقى بهم شلتوت آية الله حسين البروجردي (1875-1961) من إيران، وآية الله محمد حسين آل كاشف الغطاء (1877-1954) من العراق، وآية الله السيد عبد الحسين شرف الدين (1872-1957) والشيخ محمد جواد مغنية (1904-1979) من لبنان، عدا صحبته الدائمة لرجل الدين الشيعي الإيراني محمد تقي القمي (1908-1990)، العنصر المحرّك لجماعة التقريب في القاهرة، وغير هؤلاء من أعلام الشيعة في العالمين العربي والإسلامي.
النص الأساسي لفتوى شلتوت كان عبارة عن سؤال موجه له من أحد الأشخاص، يطلب فيه رأيه بشأن اشتراط صحة العبادات والمعاملات بتقليد أحد المذاهب السنّية الأربعة، دون غيرها من مذاهب الشيعة.
فأجاب الشيخ على السائل بأن الإسلام "لا يلزم أحداً باتباع أي مذهب خاص، وأن لكل مسلم الحق في أن يبدأ بتقليد أي من المذاهب المعروفة، شرط صحة النقل فيها، وتدوين الأحكام في كتب خاصة، واضحة ومعروفة. وبالإمكان أيضاً الانتقال بين هذه المذاهب بعد البدء بالتقليد، من دون أي حرج في ذلك".
ويذكر حسن سلهب أن الأحداث السياسية في زمن فتوى الشيخ شلتوت كانت مؤاتية، مشيراً إلى تجربة انطلاقة الجمهورية العربية المتحدة (اتحاد مصر وسوريا) عام 1958، وهو نفس العام الذي تولى فيه شلتوت مشيخة الأزهر، لكن سلهب لا يجازف بحصر دوافع الفتوى في الأبعاد السياسية.
وفي نهاية فتواه، قام شلتوت بتذييل وثيقتها بإحالة إلى رجل الدين الشيعي محمد تقي القمي يطلب منه فيها الاحتفاظ بها في "سجلات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أسهمنا معكم في تأسيسها". ويعلق سلهب على ذلك قائلاً إنه كأنه أراد الإشارة إلى أن فتواه هي واحدة من إنجازات الدار.
نص الفتوى
"بسم الله الرحمن الرحيم...
نص الفتوى التي أصدرها السيد صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية...
قيل لفضيلته إن بعض الناس يرى أنه يجب على المسلم لكي تقع عباداته ومعاملاته على وجه صحيح: أن يقلد أحد المذاهب الأربعة المعروفة، وليس من بينها مذهب الشيعة الإمامية، ولا الشيعة الزيدية، فهل توافقون فضيلتكم على هذا الرأي على إطلاقه، فتمنعون تقليد مذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مثلاً؟
فأجاب فضيلته:
1ـ إن الإسلام لا يوجب على أحد من أتباعه اتّباع مذهب معيّن، بل نقول: إن لكل مسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحاً، والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة، ولمَن قلد مذهباً من هذه المذاهب أن ينتقل إلى غيره، أي مذهب كان، ولا حرج عليه في شيء من ذلك.
2ـ إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الاثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة.
فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى يجوز لمَن ليس أهلاً للنظر والاجتهاد تقليدهم، والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات".
وجاء في ذيل الفتوى: "السيد صاحب السماحة العلامة الجليل الأستاذ محمد تقي القمي السكرتير العام لجماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية... سلام الله عليكم ورحمته... أما بعد. فيسرني أن أبعث إلى سماحتكم بصورة موقّع عليها بإمضائي من الفتوى التي أصدرتها في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية راجياً أن تجعلوها في سجلات دار التقريب بين المذاهب الإسلامية التي أسهمنا معكم في تأسيسها ووفقنا الله لتحقيق رسالتها. والسلام عليكم ورحمة الله".
ثم يمهر شيخ الأزهر الوثيقة بتوقيعه.
ردود الأفعال
أثارت فتوى شلتوت لغطاً كبيراً في أرجاء العالم الإسلامي، فقد تلقفها الشيعة بالثناء، في حين ثارت ضده حملة شعواء من "المتعصبين" من المذهب السنّي، وأحدهم الشيخ السعودي عبد الله بن يابس (ت. 1969) الذي وضع كتاباً بعنوان "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام" شنّع فيه على الشيخ وكفّره وانتقد ما جاء في فتواه.
"ينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته بتابعة لمذهب، أو مقصورة على مذهب"... قصة فتوى شيخ الأزهر بجواز التعبّد بالمذهب الشيعي
ولا تزال ردود الأفعال والسجالات التي تفتقت عنها هذه الفتوى مستمرة إلى يومنا هذا، لا سيما من الأوساط السلفية، بل وصل الأمر إلى تكذيبها ونفي صدورها جملةً عن الشيخ شلتوت، واعتبارها مجرد وثيقة ملفقة تنسب زوراً له.
ويُعد الشيخ يوسف القرضاوي (1926- 2022) الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أول مَن كذّب صدور هذه الفتوى عن شلتوت، في دورة "علماء المستقبل" التي نظمها الاتحاد في القاهرة في نيسان/ أبريل 2009، حين قال: "أنا لم أرَ هذه الفتوى".
وأضاف القرضاوي: "أنا عايشت الشيخ شلتوت عدة سنوات، كنت من أقرب الناس إليه، ما رأيته قال هذا... أين كتبها؟ في أي كتاب من كتبه؟ أنا أخرجت كتب الشيخ شلتوت الأربعة الأساسية"، مؤكداً أنه لم يعثر عليها.
أثار تكذيب القرضاوي عاصفة من الجدل حول صحة الفتوى، وسرعان ما ردّ عليه تلميذه ومدير مكتبه السابق، الشيخ عصام تليمة، في مقال فنّد فيه جميع ادعاءاته، وأثبت فيه صدور الفتوى عن شلتوت بنصها في مجلة "رسالة الإسلام" التي كانت تصدر عن "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" في القاهرة، تحت عنوان "فتوى تاريخية"، وهو المقال الذي احتفت به وكالة الأنباء الإيرانية "مهر" في 16 نيسان/ أبريل 2009.
جدوى الفتوى
فتوى شلتوت ذات قيمة دينية وتاريخية كبيرة في حد ذاتها. بغض النظر عما آلت إليه من نتائج، فهي المرة الأولى في تاريخ الجامع الأزهر الممتد إلى أكثر من ألف عام، التي يعترف فيها بمذهب الشيعة الإمامية، فحتى عندما كان الأزهر جامعاً شيعياً إبان الخلافة الفاطمية في مصر (972-1171) والتي تبنت المذهب الشيعي الإسماعيلي، لم يكن هناك أي اعتراف رسمي بمذهب الشيعة الإمامية (أكبر مذاهب الشيعة) وفقاً لسلهب.
رأى شيخ الأزهر محمود شلتوت أن الخلاف القائم بين السنّة والشيعة "كالخلاف بين مذاهب السنّة بعضها وبعض"، وكلل جهوده للتقريب بين المذهبين بفتواه المذكورة آنفاً والتي أجاز فيها التعبّد بالمذهب الشيعي الإمامي
كما أن فتوى شلتوت وإدخاله تدريس المذهب الشيعي فضلاً عن ضمه إلى مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، أتاحت لطلابه وفقهائه التعرف على الفقه الشيعي، لا بهدف النقد والتفنيد بل الاستفادة وتكوين صورة واقعية غير مشوهة عنه.
كذلك فإن قرار الشيخ شلتوت بتخصيص عضوية للشيعة ضمن مجمع البحوث الإسلامية يُعَدّ خطوة ثورية ذات تأثير كبير للتقريب بين المذهبين، لأن فتاوى هذا المجمع تتجاوز مصر إلى العالم الإسلامي، كما أنه أعلى مرجعية بإمكانها القطع في كثير من الخلافات المذهبية، وهو المنوط به عند إنشائه الاضطلاع بمسؤولية تجديد الفهم الديني، ما لم يتحقق حتى اليوم.
من الصعوبة الادعاء بأن فتوى شلتوت ومساعيه نجحت فعلاً في التقريب بشكل فعال بين السنّة والشيعة. يعلق عليها الباحث السوري حسن سلهب قائلاً: "تبقى هذه الخطوة ريادية في تاريخ المذاهب الإسلامية، وبالرغم من غياب أية نتائج بارزة لها على مستوى التنفيذ".
ورغم حماس الشيخ لقرار إدخال الشيعة إلى المجمع قبيل وفاته "إلا أن المعطيات الواردة حول نشاطه وبرامجه لا تفيد بإنجازات نوعية على مستوى التقارب السنّي الشيعي"، بحسب سلهب.
ثمة عوامل كثيرة تقف وراء ذلك ليس أقلها فشل التجربة القومية الوحدوية وانهيار المشروع الناصري، وهو ما خلّف فراغاً أيديولوجياً ملأته جماعات الإسلام السياسي ذات التوجهات المذهبية الراديكالية، بالتزامن مع صعود حركة "الصحوة الإسلامية" مدعومة بقوة البترودولار في السبعينيات من القرن الماضي واندلاع الثورة الإسلامية في إيران والتي بدأ معها شتاء الحرب الباردة بين إيران الشيعية ودول الخليج السنّية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.