أوراق خضراء رقيقة تقف مزدهرة على أغصان شجرة لا يزيد ارتفاعها عن سبعة أمتار، تحتضن زهرات بيضاء عنقودية تملأ الأجواء بعطرها الساحر النفاذ، الذي صمد عبر العصور والأزمنة، فتخطت حدود موطنها الأصلي وفرضت حضورها في أغلب بلدان العالم حتى أنه لم يعد أحد يعرف أين نبتت للمرة الأولى .
إنها شجرة الحناء التي عرفها المصريون القدماء، وأوصى بها خاتم المرسلين، وأكدت الأبحاث الطبية أهميتها، فكانت دواءً وبركة وفأل حسن عبر الزمن.
الهكسوس أدخلوها إلى مصر
تقول الأسطورة إن الإنسان اكتشف صبغة الحناء حينما التهمت بعض الحيوانات أوراقها، ولاحظ تغير لون أفواهها لأيام. لكن أين ظهرت للمرة الأولى؟ لا أحد يعرف، لكن من المرجح أنها نبتت لأول مرة في غرب أسيا وانتقلت بعد ذلك للصين والهند، ثم إلى دول حوض البحر المتوسط عندما عرفها المصريون القدماء واستخدموها في التجميل والتحنيط، كما أكد الدكتور حسين دقيل -باحث وأكاديمي متخصص في الآثار- لرصيف22 وقال: "قد أولعت المرأة المصرية القديمة بالزينة ومواد التجميل مثل العطور والدهون والزيوت العطرية الثمينة، فلم يكن يليق بها أن تخرج إلى حفل أو مأدبة دون أن تتزين وتتجمل".
واستخدمت المرأة في مصر القديمة، العديد من مستحضرات التجميل، سواء للبشرة، أو للشعر. واهتمت بصبغ شعرها وخاصة باللونين الأحمر والبني، وهو صباغ كانت تحصل عليه باستخدام عجينة الحناء من خلال خلط مسحوق الحناء بالماء، ثم تدلك به شعرها وهو مبلل بالماء، وتتركه طيلة الليل، فيُصبح الشعر ناعماً ولامعاً، فضلاً عن أن الحناء تقوي جذور الشعر وتمنع من تساقطه.
عرفها المصريون القدماء، وأوصى بها خاتم المرسلين، وأكدت الأبحاث الطبية أهميتها؛ فكانت دواءً وبركة وفألاً حسناً عبر الزمن... إنها شجرة الحناء التي زينت رؤوس النساء وأعدت المصريين للقاء الآلهة
لم تستخدم الحناء فقط في صبغ الشعر، بل استخدمتها المرأة المصرية القديمة أيضاً، في طلاء الأظافر، فضلاً عن التبرك بها من خلال طلاء الكفوف والأقدام في مناسبات الأفراح، وهي العادة التي لا تزال قائمة حتى الآن.
والحناء، كما يذكر بعض المؤرخين، جلبها المصريون من بلاد فارس حيث كانت تنمو هناك. ويُقول آخرون إن الهكسوس هم من أدخلوا الحناء إلى مصر، وعلموا المصريين كيفية زراعتها. وقد استُخدمت الحناء أيضاً في عملية التحنيط.
إيزيس وأوزوريس وليلة الحنة
يعتقد المصريون أن الحناء نباتاً مباركاً يطرد الأرواح الشريرة، ويقضي على القوى الخفية الشيطانية، ويجلب الحظ والبركة، وتوارثوا هذا الاعتقاد جيلاً بعد جيل حتى قبل أن يدخل الاسلام مصر ويوصى النبي محمد عليه الصلاة والسلام أمته باستخدام الحناء.
ذكرت العديد من المصادر المختلفة أن ليلة الحناء التي تسبق يوم الزفاف ما هي إلا عادة مصرية صرفة، ابتدعها المصريون متأثرين بأسطورة إيزيس وأوزوريس الشهيرة حين قتل "ست" أخاه "أوزوريس" ومزقه أشلاء وزعها في أقاليم مصر المختلفة، لتقوم زوجته الوفية إيزيس بجمعها مرة أخرى حتى غرقت يداها بدمائه واصطبغت باللون الأحمر، فاعتبرها المصريون رمزاً للمحبة والوفاء، فصاروا يصبغون يدي العروس قبل الزواج حتى تصير وفية لزوجها مثل إيزيس.
لذلك لا يزال المصريون يحتفون بـ"ليلة الحنة"، ويخلقون لها طقوساً خاصة كما يحدث في صعيد مصر، وخاصة في قري النوبة التي لا تزال محتفظة بتقاليدها القديمة رغم مد التحضر والانفتاح.
محمود قطز، موظف في أحد قطاعات وزارة الثقافة المصرية يبلغ من العمر 48 سنة، هو أحد أبناء قرية المالكي، إحدى القرى التي استقر فيها نوبيون بعد موجة التهجير الأولى المصاحبة لإنشاءء خزان اسوان. حكى قطز لرصيف22 عن "ليلة الحنة" في النوبة، يقول: "الاحتفاء بالحناء في منطقة تهجير النوبة له خصوصية وتميز عن باقي مناطق أسوان أو الصعيد بشكل عام. فقرى النوبة قبل التهجير كان لها امتداد بالقربى مع مناطق في السودان، وبالتالي كانت الافراح متشابهة مع الطقوس السودانية".
تحضر أخوات العريس وقريباته الحناء، إذ يعجنَّها بالماء ويضيفن إليها مواد، سودانية الأصل، كالمحلبية التي تمنح الحناء رائحة مميزة تمتد لأسبوع، وتحول لونها مع الوقت من الأحمر إلى الأسود. ثم تُفرد الحنة بعد تجهيزها في إناء يوضع به شموع منيرة، يوضع في قفص يتم تزيينهـ ويتحرك في فوج كبير من بيت العريس ليطوف القرية
يحدثنا محمود عن حنة العريس في النوبة فيقول: "حنة العريس تكون يوماً كاملاً، وليس ليلة واحدة فقط كما هو معتاد في أنحاء مصر، حيث يجلس العريس على كنبة خشبية في الشارع أمام بيته يرتدي جلباباً قصيراً قطنياً اسمه "العراقي"، ويربط حول معصمه "الحريرة" وهي شريط أحمر من الصوف. ويجتمع حوله أقاربه وأصدقائه".
ويكمل: "تحضر أخواته البنات وقريباته الحناء إذ يقومون بعجنها بالماء ويضيفون إليها مواد مهمة جداً، سودانية الأصل، كالمحلبية التي تمنح الحناء رائحة مميزة تمتد لأسبوع، وتحول لونها بعد التحنية مع الوقت من الأحمر إلى الأسود. ثم يتم وضع الحنة بعد تجهيزها في إناء يوضع به شموع منيرة، وتوضع في قفص يتم تزيينه ويتحرك فوج كبير من بيت العريس، أطفال وشباب وفتيات يطوفون شوارع القرية مرددين الأغاني المختلفة خلف من يحملون طبق قفص الحناء، ثم يعودون حيث العريس وتقوم قريبات العريس بتحنيته وهو جالس على الكنبة. وتتم عملية التحنية من خلال أربع نساء يتولين تحنية الكفين. وبعد وضع الحنة في الكف يقبض يده ليضعن الحناء على أطراف الأصابع من الخارج ومواضع عقل الأصابع ثم تحنية باطن القدمين فقط".
يعتقد المصريون أن الحناء نباتاً مباركاً، يطرد الأرواح الشريرة ويقضي على القوى الخفية الشيطانية ويجلب الحظ والبركة، وتوارثوا هذا الاعتقاد جيلاً بعد جيل، حتى قبل أن يدخل الإسلام مصر، إذ يوصى النبي محمد (ص) أمته باستخدام الحناء
ويضيف محمود: "خلال عملية الحنة يتم ترديد بعض الأغاني التراثية من قبل إحدى قريبات العريس باستخدام الطار (الدوف) وهو طبلة من الخشب وجلد الماعز ليردد خلفها الواقفون حوله من الجيران والأصدقاء والأقارب كما يقوم بعض المقربين بدفع نقوط على الحنة وهو نقوط محبة".
الجدير بالذكر- والكلام لمحمود- أن تحنية العريس تكون في آخر الليل، إذ بعد تحنيته يستند بظهره على مسند كبير ويحاول النوم نصف جالس وممدد حتى يتم إزالة الحناء بعد فترة باستخدم المحلبية.
وبعد الانتهاء من عملية التحنية للعريس، يتم توزيع ما تبقى من الحناء على الحاضرين، وتقوم بتلك المهمة إحدى الحاضرات في طقس مبهج.
الدلكة
حنة العروس في النوبة تختلف عن العريس حيث تتم داخل المنزل في حضور النساء. وتقوم "الحنانة" برسم الحناء باشكال مختلفة ومميزة على الكفين والقدمين وأجزاء من الجسم. وفي اليوم التالي يقيم البعض ليلة تسمى ليلة الحناء احتفاء بها، وتكون إما "بالكف" وهو نوع من الغناء الفولكوري الصعيدي، أو بالفرقة على مسرح خشبي. ويليها بعد ذلك ليلة الدخلة. هذا ما يعرفه محمود عن حنة العرس في النوبة. لكن هبة عثمان التي تعود جذورها إلى النوبة منحتنا تفاصيل أخرى، حيث أكدت لرصيف22 أن هناك طقساً تقوم به العروس قبل الحناء وهو "الدلكة" إذ يتم تدليك جسد العروس بالزيوت العطرية الطبيعية مع خشب الصندل لتفوح رائحة جسدها الجميلة طوال الوقت رغم التعرق. وبعد ذلك يتم رسم الحنة ولكن بطريقة كثيفة بحيث تكون القدم كلها مصبوغة بالحنة ويجري الرسم على وجه القدم والساق. أما بالنسبة لرسم الأيدى فيتم صبغ أطراف الأصابع بالحنة وظهر اليد والذراع.
الحنة تجميل وعلاج
تؤكد هبة أن النساء في النوبة يستخدمن الحناء طوال العام وليس في المناسبات فقط، فهي تفصيلة أساسية في أدوات التجميل الخاصة بهن، وخاصة المتزوجات.
وهو ما أكده محمود قطز أيضاً إذ أضاف: "الحنة في النوبة ليست للتجميل فقط ولكننا نستخدمها كعلاج منذ عصور سحيقة. ففي حالة ارتفاع حرارة أحدهم نقوم بخلط مسحوق الطحينة بالقرض بعد طحنه (عشب يستخرج من شجرة السنط). ويتم تحنية القدمين والكفين بالطريقة العادية فتتنخفض الحرارة على الفور".
كتب التراث والدراسات الحديثة
استخدام الحناء في علاج ارتفاع الحرارة أمر عرف عبر الأزمنة المختلفة. فقد جاء ذكره في مؤلف داوود الأنطاكي "تذكرة أولى الالباب والجامع للعجب العجاب" المعروف باسم "تذكرة داوود"، الذي أكد فيه أنها تطرد الحرارة وتقضي على الصداع. وتعالج الطحال والمفاصل والالتهابات المختلفة وتذهب قروح الرأس وتصلح الشعر.
كذلك أوصي بها العلماء المسلمون، منهم ابن القيم والموفق البغدادي وابن سينا، وأكدوا أنها تنفع في علاج الحروق والجروح وقروح الفم ومعالجة البرص وتفتت الحصى.
اكتشاف فوائد الحناء لم يقتصر على علماء المسلمين السابقين فقط، ولكنها كانت محل اهتمام الطب الحديث، فكما أكد الدكتور محمد نزار الدقر في مقالات نشرها عبر موقع إعجاز القرآن والسنة عن الحنة، أن مالك زادة أستاذ الميكروبات والجراثيم في جامعة طهران أكد في إحدى دراساته المنشورة أن الحناء لها قدرة فعالة على قتل الجراثيم. كما أكد الدكتور حسين الرشيدي الطبيب والباحث في الجراثيم والميكروبات في الجامعات الأمريكية في دراسة نشرها عبر الإنترنت أنه قبل سنوات بدأ باستعمال الحناء في العلاج الطبي، بعدما قرأ الحديث النبوي (كان لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء) والذي أخرجه الترمذي.
وبعد عدة سنوات من التجارب، أسماها بالنبات السحري، فقد اكتشف من خلال الأبحاث والتجارب قدرة الحناء العالية في علاج الحروق والجروح وإيقاف النزيف. كذلك أثبتت فاعليتها في حماية أقدام مرضى السكري وآلام الظهر والتهابات القولون التقرحي ونزيف الإثني عشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...