إذا كانت الطبقة الوسطى في المدينة المصرية اختارت الأغنية العاطفية لتعبر عنها، من أم كلثوم وعبد الوهاب لعمرو دياب وأنغام لتامر حسنى وشيرين، واختارت الأحياء الشعبية الأغنية الشعبية من محمد رشدي لأحمد عدوية ثم حسن الأسمر وحكيم وعبد الباسط حمودة، واختار عمال البناء أغاني سيد درويش لتسلّيهم في عملهم الشاق، فثمة فئة أخرى لا تُصنّف بالعامل الاقتصادي ولا الثقافي، وإنما بالعامل المكاني أو الجغرافي:
الريف، وهي فئة متساوية في عاداتها وتقاليدها، حتى لو فرّقت بين أفرادها عوامل مثل الممتلكات أو سلطة العائلات. اختار أهل الريف الأغاني الريفية لتعبر عنهم وعن أحداثهم اليومية، وأهمها الأغاني المرتبطة بالأفراح، من ليلة التنجيد لليلة الحنّة، من ليلة الزفاف إلى الصباحية.
وإن كانت كل ليلة في الأصل خُصصت لها أغان معينة، إلا أن "ليلة الحنّة" في الواقع صارت الليلة التي تجمع كل هذه الأغاني، وهي مسألة مرتبطة بتجمع الأحباب والمدعوين وفتح مساحة للغناء والرقص، ما لا يتوافر بنفس القوة في ليلة الزفاف نفسها.
نالت "ليلة الحنّة"، الليلة التي تسبق ليلة الزفاف، نصيب الأسد في الأغنية الإيروتيكية. كأن الحياة الجنسية المكبوتة منذ البلوغ جاءت لحظتها الآن لتنفجر
ليلة الحنّة... ليلة النساء
نالت "ليلة الحنّة"، الليلة التي تسبق ليلة الزفاف، نصيب الأسد في الأغنية الإيروتيكية. كأن الحياة الجنسية المكبوتة منذ البلوغ جاءت لحظتها الآن لتنفجر. ليتحقق ذلك، يجب أن تأتي بصوت امرأة، باعتبارها أصل الغواية (على سبيل المديح هذه المرة)، مصحوبة من آن لآخر بغمزة عين ودلال وغنج.
تميزت هذه الأغنية بأن الصوت النسائي بات مُكلًّفاً بإطلاق سراح الفطرة، والاستسلام عبر الكلمات والتمايل لمتطلبات الجسد، وتجسيد الصور الإيروتيكية التي راوغت، بطبيعة الحال، كل بالغ وبالغة، ولأن هذه ليلة المرأة بالذات، فالتعبير عن مشاعرها هو الأساس.
والكلمات المقفاة ببراعة، المنتقاة بدقة، هي الوسيلة. يكشف الصوت الأنثوي من ورائه عن امرأة حكيمة، صاحبة تجربة، بغض النظر عن سنها، وإن كانت في أغلب الأحيان سيدة متزوجة أو مرّت بتجربة الزواج.
أهم ما يميز الأغاني الإيروتيكية في ليلة الحنة قدرتها على التلميح، لترسل رسالة يكتمل فهمها مع لغة الجسد، حركته وغمزة العين والتعبير باليد، والاعتماد في نهاية كل مقطع على "قفلة" غالباً ما تكون مثيرة للضحك لخفتها أو لجرأتها
يأتي صوتها المتدفق كحكاية شعبية، تعتمد فيها الصورة، وتحكيها من خلالها راويتها نفسها، كخبرة تنقلها للعروس المقبلة على تجربة شبيهة، أو أنها تستعير صوت العروس لتبث عبره هذه الرغبة، الرغبة في العريس وفي التجربة الجديدة.
مع ذلك، فأهم ما يميز الأغنية الإيروتيكية هنا قدرتها على التلميح، لترسل رسالة يكتمل فهمها مع لغة الجسد، حركته وغمزة العين والتعبير باليد، والاعتماد في نهاية كل مقطع على "قفلة" مثيرة، هي الخلاصة، وغالباً ما تكون مثيرة للضحك لخفتها أو لجرأتها، كما في أغنية "حوّد ع الترعة حوّد ع المالح"، حيث الشكوى من آلام أعضاء في الجسد، تأتي بخاتمة مفاجئة "حاسب على بيتنا بانينه امبارح"، بما فيه من إشارة لقوة الرغبة والفعل الجنسي، ورد الفعل الطبيعي للمستمعين هو الضحك.
المُغنّية تُلقي دروس الإغواء
في العرف المصري، الحنّة ليلة العروس، في مقابل ليلة العرس أو الليلة الكبيرة المتاحة للجميع. ليلة العرس يغلب عليها زحام أجساد الرجال الذي لا يكسره عادة إلا وجود راقصة شرقية، أو راقصات من المدعوات بملابس الفرح، يحاولن سرقة مساحة صغيرة حتى لا تشعر العروس بالوحدة في ليلتها.
ليلة الحنّة، في المقابل، ليلة النساء، ليلة سابقة على الرسميات والخوف الكبير من المواجهة، ربما فائدتها الكبرى تخفيف توتر العروس وتشويقها لمُتع منتظرة. وفيها، يمكن الكلام في كل شيء بجرأة غير معهودة، لا مكان فيها إلا للمحرّم الذي بات في هذه الليلة مباحاً.
وفي ليلة الحنّة لا معنى لوجود الرجال، إذ تتوارى سلطتهم، ويتهمّش وجودهم، وغير مسموح لهم إلا بخدمة النساء وتلبية طلباتهن، مسموح للرجال الوقوف على الحافة أو التلصص عليهن، حتى أقارب العروس يندهشن من جرأة النساء حينها، ويتسامحون معها. لقد سمحت الثقافة الشعبية في الريف بليلة واحدة في العمر مخصصة للنساء ليقلن ويصدحن بالأغاني المحرمة في ليالٍ أخرى، أو على الأقل محرّم التصريح بها في العلن.
سمحت الثقافة الشعبية في الريف بليلة واحدة في العمر مخصصة للنساء ليقلن ويصدحن بالأغاني المحرمة في ليالٍ أخرى
في نفس هذه الليلة، لا يهم إن كان العريس قادماً في زفة صغيرة تردد نفس الأغاني بأصوات رجال، إما أصدقاء أو فرقة موسيقية، أو جاء فرداً بصحبة أهله. لا يهم ماذا يرتدي العريس. المهم العروس وبيتها، النساء الملتفات حولها، والحنّة المعدة في إناء لتصبغ كفوف اليد.
في وسط الدائرة، بجوار العروس، ينداح صوت المغنية، وهي سيدة تكون غالباً من نفس القرية وربما من قريبات العروس، في الأصل لم تكن تغني كمهنة، وإنما كهواية ومحبة للفرح. تكشف المغنية أسرار الحياة الجديدة وتقدم في شكل غنائي دليلاً للحياة الزوجية السعيدة. وحولها، فتيات ينهضن ليرقصن ويتغامزن، ويحاولن ترديد كلمات: "مقدرش أدق التوم/ إلا بقميص النوم/ مقدرش أدق الكسبرة/ أنا لسه عروسة صغيرة"، كأحد دروس الإغواء في الحياة الجديدة، كمفردات جديدة ستدخل حياة العروس.
الوصايا العشر للحياة الجنسية
لعل إحدى أشهر هذه الأغاني التي تعمل كدليل للسعادة الزوجية، أغنية: "هلبس لك لموني/ وأقلع لك لموني/ حاسب على عيوني/ ليلة الصباحية/ هلبس لك مقطع/ واقلع لك مقطع/ ع السرير اتمطع/ ليلة الصباحية"، وعادةً ما تُغنى بدلال فائق، تلعب فيه النظرات وإشارات اليد إغواء مكملاً.
لكن لتحقيق حياة جنسية سعيدة في الحياة الزوجية، جاءت أغاني تمثل الوصايا العشر، وهي وصايا تفترض أن العروس لا تعرف العريس عن قرب، لأن الزواج تم في إطار موافقة العائلات، كما تفترض أن الأم تخجل من "تفتيح عيون" ابنتها على واقعها الجديد، فتأتي الأغنية لتدل العروس على واجباتها كزوجة، فتنصحها: "حطي إيدك جمب إيده/ واشربي الشربات من إيده/ واقعدي جمبه كداهو/ اركبي ياللا العربية/ الليلادي للصبحية/ واقعدي جمبه كداهو/ اوعي يبعد ثانية عنك/ اوعي واحدة تاخده منك/ ما تكشريش أبداً في وشه/ لا العصفور يهرب من عشه/ ويروح للي بيحبوه/ الصبح غنا والعصر غنا/ والزعل ما هتشوفوه".
نلاحظ هنا الخطاب موجه للعروس، فهي المكلفة بالحفاظ على البيت وهي القادرة على إقامته أو هدمه، والوصايا تتنوع ما بين المبادرة والرفقة ومنح البهجة، ولا تخلو من التهديد إن أُغفلت.
أهو جالك أهو، نورا صبحي
"البوسة منه ترد الروح"
تتميز أغاني الحنّة بالإيقاع السريع والقافية القريبة، بالكلمات البسيطة المعتادة عليها الأذن، وبالإيفيهات الشعبية، إما لتكرّرها أو لترسيها، والكورال جزء رئيسي من اللعبة، إذ تمثل المطربة أحياناً صوت العروس، ويمثل الكورال صاحباتها اللاتي يسألن.
الآلة الموسيقية الرئيسية وأحياناً الوحيدة هي الطبلة، وأحياناً يرافقها الدف أو أواني المطبخ، لذلك فاليد وحرارتها وحركتها المباشرة على الآلة هي المسؤولة عن خلق الإيقاع، والكورال على نفس الإيقاع يردد مطلع الأغنية أو بداية كل مقطع. لا يجب أن تكون الأغنية ذات وحدة متماسكة، لكن لكل مقطع معناه المستقل، وإن كان الإطار العام للأغنية يحاول الحفاظ على الوحدة الموضوعية.
ولأنها أغاني نابعة من الريف، فمكونات الريف حاضرة في شكل الفاكهة والورود: البرتقان، اليوستفندي، الورد، النعناع، الرمان، وتستخدم للإيحاء بصورة أو لوصف العريس أو العروس، مثل "ادحرج واجري يا رمان، وتعالى على حجري، يا رمان"، كدعوة من العروس للعريس ليتعجل في المجيء.
مفردات الريف أيضاً حاضرة في "الترعة" كعنصر مكاني مميز، كما في أغنية "يا اللي ع الترعة حوّد ع المالح" مع وصف لما حدث في ليلة الدخلة، كأن العروس تحكي في الصباحية ما حدث الليلة السابقة، فتقول "شعري بيوجعني" فيسأل الكورال "من إيه؟".
غياب الجو المحيط بأغنية الحنّة أثر سلباً على جودتها ومدى تأثيرها في متلقيها، خروجها أيضاً للعلن، مرورها بالكاميرا ورفعها على منصة، جعل النساء يتراجعن عن جرأتهن المعهودة في هذه الأغاني
فتجيبهم "شعري بيوجعني من شد امبارح"، وتستمر في وصف أجزاء أخرى متألمة بالجسد "إيدي بتوجعني من زق امبارح"، "صوتي بيوجعني من غنا امبارح" "وسطي بيوجعني من رقص امبارح"، ومع كل إضافة يسأل الكورال عن السبب، ويتكرر المطلع "يا اللي ع الترعة حود ع المالح"، وهنا تلعب لغة الجسد دوراً يُساوي دور الكلمات، إذ هي المفسر والمعبّر عن الفرحة، فالألم هو اللذة في قانون الألم واللذة.
ولأن لغة الجسد تمثل سلطة مساوية في الأغنية، عادةً ما نجد حركة اليد بالتحديد وهي تشير لـ"تعالى" "قرّب"، مع لهفة النظرة ونبرة الصوت المشتاقة في أغنية مثل "وتعالى قل لي/ وتعالي قل لي/ عشان أسوي فرشتي/ وأرش الفلي/"، "يجي وأنا أقوله/ واخلص منه كلامي كله"، "على ورق الفل دلعني". وداخل لغة الجسد الرقص نفسه، وهو لا يقل إيروتيكية عن الكلمات، إذ يجسدها من ناحية ويجسد أثرها على الراقصة أو الراقصات من ناحية أخرى.
تحفل أغاني الحنّة أيضاً، كابنة شرعية للريف، بمدح العريس والإشارة إلى جماله وشهامته وكرمه وشجاعته، كما تحفل بشكل كبير بالإشارة إلى جمال العروس وووصفه، ولهذا السبب تحفل أيضاً بالخوف من الحسد ومن العيون البصاصة، ومن أجل ذلك تطلب ستر الله، كما في أغنية "أيوا يا واد يا ولعة"، إذ تبدأ بمقدمة تطلب فيها من أهل الحارة ألا يحسدوهما، ثم تنتقل إلى "أيوا يا واد يا ولعة/ خدها ونزل الترعة"، وتنتقل إلى "الواد أبو جاكت مفتوح/ البوسة منه ترد الروح".
أغنية أيوا يا واد يا ولعة، نورا صبحي
من القرية إلى اليوتيوب: الرقابة وتأديب الأغنية
لا تزال الأغاني الإيروتيكية تشغل مساحتها حتى الآن في القرية، رغم تغير نمط الحياة وإدخال التكنولوجيا بالاعتماد على الكمبيوتر والسماعات، أو الـ DJ. احتفظت النساء بحقوقهن في هذا الاحتفال أو ما تبقى منه.
تراجع عدد المغنيات المتطوعات بإحياء الحنّة، خاصةً مع تطور التعليم من ناحية والمبالغة في تحفّظ المجتمع من ناحية أخرى، وهذه المرة نشير إلى غزو ثقافة المدينة على القرية، المدينة المحافظة فرضت قيمها الرجعية على أغاني القرية المتفتحة والمحبة للحياة.
نتيجة ذلك، بدأ الاعتماد بشكل أكبر على مغنيات محترفات يأتين من قرى أو محافظات بعيدة ليؤدين نمرتهن في الغناء بصحبة فرقة أو كورال خاص بهن.
بعد ذلك جاء دور نقل هذا التراث الشعبي إلى الإنترنت وإتاحته للجمهور. حدث ذلك لأغنيات المغنيات المحترفات، مثل نورا صبحي وليلى نظمي وفاطمة عيد، وهنا بدأ تهذيب الأغاني. أولاً، تراجعت لغة الجسد، اختفى الرقص كحركات طبيعية لبنات الريف، واختفت بنات الريف أصلاً، وأتوا مكانهن بممثلات يؤدين دور الكورال.
ثم جاء دور تهذيب الكلمات، إما بحذف عبارة موحية جداً مثل "حاسب على بيتنا بانينه امبارح"، او بتغيير العبارة دون الإخلال بالوزن، فمثلاً "يا منجد على المرتبة/ اعمل حساب الشقلبة" صارت "يا منجد علي المرتبة/ عروستنا حلوة مؤدبة"، في أغنية ليلى نظمي، ممثلة الطبقة الوسطى المحافظة في الأغاني الشعبية.
يا منجد ع المرتبة، ليلى نظمي
نفس الأغنية فلتت من الرقابة مع شيماء جمال، بصوتها الشعبي الأقرب للمغنيات في الريف.
الأكيد أن غياب الجو المحيط بأغنية الحنّة أثر سلباً على جودتها ومدى تأثيرها في متلقيها، خروجها أيضاً للعلن، مرورها بالكاميرا ورفعها على منصة، جعل النساء يتراجعن عن جرأتهن المعهودة في هذه الأغاني. لكن لا تزال أغاني الحنّة موجودة، في مكان ميلادها، والإنترنت ليس إلا مكاناً مستعاراً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 20 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت