شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
استدعاءات الذاكرة… أو كيف نُشفى من الصدمات؟

استدعاءات الذاكرة… أو كيف نُشفى من الصدمات؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 15 نوفمبر 202201:50 م


قد تبلغ من القوة ما يساعدك لتخرج من علاقة سيئة أو صدمة أو موقف أليم، لكنك لا تقدر على مواجهة الذكرى. أسوأ ما يسببه اضطراب كرب ما بعد الصدمة، هي "الفلاشباكات"، تماماً مثل الأفلام والأعمال الدرامية، التي تجعلك لا تسترجع الحدث فقط، وإنما تشعر بأنك رجعت لتعيشه مرةً أخرى.

عرف جيلي الصدمات الجماعية، لما عشناه في الثورات، والأحداث الملحمية في السنوات العشر الماضية، لكن هناك صدماتي الشخصية، التي تتعلق بجسدي، وتعرّضي لعنف جسدي، وذكرى غائمة لتحرّش في فترة الطفولة، وكلها أشياء يأبى جسدي أن ينساها. ويعيدها على مسامعي يومياً. استغرقت سنوات حتى استطعت استيعاب الصدمة، لكن بعد الإنكار، ومواجهة النفس بما حدث، والتقبل، تبدأ ألعاب الذاكرة، أو"الفلاشباكات" الخاصة بالحادث. تتجدد الذكرى ويبدأ العرض المسرحي للحادث القديم وعليّ أن أحضره كل يوم، إلى ما لا نهاية، حتى أكاد أصاب بالجنون.

عرف جيلي الصدمات الجماعية، لما عشناه في الثورات، والأحداث الملحمية في السنوات العشر الماضية، لكن هناك صدماتي الشخصية، التي تتعلق بجسدي، وتعرّضي لعنف جسدي، وذكرى غائمة لتحرّش في فترة الطفولة

أفكر لماذا نتذكر دائماً الأحداث المؤلمة لفترة طويلة؟ هل لنتجنّبها في المستقبل؟ وأفكر أيضاً كيف ننسى؟ أنا في الأساس قدرتي على التركيز وتذكر الأحداث البسيطة ضعيفة، كأن الصدمة قد استحوذت على ذاكرتي كلها. أسأل نفسي هل يمكن مراوغة الذاكرة؟ أريد حقاً أن أنسى. كنت قد أخذت قراراً بعدم النبش في الماضي، لكن الذكرى تهجم كأسراب النمل، لا أريد أن أنتحب يومياً وألعق الألم كل صباح. أريد بصدق أن أتجاوز ما مضى، لكن المشهد يأبى إلا أن يلاحق ذاكرتي.

أستطيع تحمل القلق، أو الاكتئاب، إلا استدعاءات الذاكرة. أكاد أُجنّ من تكرار الصور. أحاول طردها من رأسي. أقوم بالخبط على دماغي، لعل الذكرى تنساب من بين يدي. تخبرني الطبيبة النفسية بأن أحاول تخيّل المشهد الذي سبّب لي الصدمة، وتغيير أحداثه. في صغري كنت أسمع أمي تقول إنها تتمنى لو كانت هناك طريقة لمحو أجزاء معيّنة من الذاكرة، ولم أعرف لماذا، لكني عرفت بعد ذلك.

أستطيع تحمل القلق، أو الاكتئاب، إلا استدعاءات الذاكرة. أكاد أُجنّ من تكرار الصور.

أمي مصابة بالأمر ذاته، فقد تعرضت لصدمة عنيفة بعد موت أمها، وهي في الخامسة عشر من عمرها، لكنها لم تكن تعرف الأطباء النفسيين في حينها، فتفاقمت حالتها. أصبحت عالقةً في الماضي بشكل كامل، في مشهد موت أمها. ما زالت تبكي عليها، وتفتقدها. تخبرني دائماً "كأنه مبارح"، وبأنها تمنّت لو دخلت معها إلى القبر. يا إلهي، إنه عذاب سيزيفي. أفكر هل سأمر بالأمر ذاته؟ سأظل محبوسةً في هذا المشهد إلى الأبد مثلها؟ أفكر ماذا يحدث للذين نجوا من الحرب؟ أو من يهاجرون عبر البحر؟ وماذا تفعل بهم الذكرى؟ هل ينجون لكي يعيشوا الحرب كل يوم؟

أتجنّب القراءة عن حدث مشابه يجدد الصدمة، لكن في الحقيقة كل ما حولي يحفّز الذكرى؛ أحداث العنف تلاحقني يومياً. أصبح مجتمعنا عنيفاً للغاية. يمكن لأي شيء أن يحفّز الذكرى؛ بيت شعر، يافطة محل، أو جملة في فيلم. أحاول الانغماس في نشاطات كثيرة لتشتيت انتباهي. أتجنب الأماكن التي من شأنها أن تجدد الألم. ألجأ إلى تدوين مشاعري في نوبة التذكّر. أنام كثيراً كي أنسى، وأحاول الرقص كي أنفض التروما من جسدي. أجرّب تقنيات أخرى اقترحتها عليّ الطبيبة النفسية، مثل تقنية الحواس الخمس؛ الصوت، واللمس، والرائحة، والتذوق، والبصر. أن أركّز في لون معيّن حولي، وأستنشق رائحة مادة قوية، وأستمع إلى موسيقى صاخبة. أستحضر المشهد الحالي، أنا هنا والآن، وما مضى قد مضى، لا يمكن أن أرجع لأعيش الصدمة مرةً أخرى.

أمي مصابة بالأمر ذاته، فقد تعرضت لصدمة عنيفة بعد موت أمها، وهي في الخامسة عشر من عمرها، لكنها لم تكن تعرف الأطباء النفسيين في حينها

ثم أجرّب مع الطبيبة طريقةً أخرى جديدةً تُسمّى إزالة حساسية العين وإعادة معالجتها وهي تقنية لإزالة حساسية الشخص لتأثير الذاكرة، ولعلاج الصور المزعجة التي تتكرر وتلحّ على رأسي باستمرار. تخبرني الطبيبة بأن أتذكر المشهد وأعيده عليها، فأستعيد شكل المشهد، والألوان، وماذا كنت أفعل، وأين كنت أجلس. ثم تسألني أن أغيّر في المشهد: ماذا كنت أتمنى أن يحدث؟ أعيد المشهد وأتخيل أنني لم أصمت أو أرتبك وقتها، أو أنني اتخذت رد فعل عنيف، وأحس بالراحة قليلاً وأهدأ. لكن يأخذني رأسي بعيداً، فأتخيل أنني اتّخذت لحياتي مساراً آخر، وأغرق في الكثير من السيناريوهات.

لحسن الحظ هناك أدوية الآن تعالج استعادة الذكريات. وصف لها الطبيب الدواء ذاته الذي أتناوله، علّنا ننجو، أنا وأمّي، معاً ونمضي قدماً إلى الأمام

يقولون إن الذاكرة تعمل بطريقة "النسخ من نسخة"، أي عندما تتذكر موقفاً لا تتذكر الحدث الأصلي، بل تتذكر كيف فكرت فيه في المرة الأخيرة. لا أعرف إن كان ذلك صحيحاً أم لا، لكن أفكر هل من الممكن أن يبهت المشهد، حتى يختفي تماماً كأنه لم يحدث؟

لسنوات كانت أمي ترفض الذهاب إلى الطبيب النفسي. لم تكن هذه الثقافة منتشرةً، لكني استطعت إقناعها بالذهاب إلى طبيب نفسي متخصص في علاج الصدمات غير المحلولة، ولحسن الحظ هناك أدوية الآن تعالج استعادة الذكريات. وصف لها الطبيب الدواء ذاته الذي أتناوله، علّنا ننجو معاً ونمضي قدماً إلى الأمام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image