الكلمة.
كلما قرأتُ كتبَ الأديان المقدّسة، وجدتها جميعاً تتسابق حول "الكلمة"، تتحدى النصوصُ الإنسانَ والزمانَ أن تزول، ويقف الله، هناك، بعيداً في مكان ما، وهو يعرف أن شرفه في كلمة؛ كما وصف عبد الرحمن الشرقاوي، في مسرحيته الخالدة" الحسين ثائراً": "شرف الله هو الكلمة".
"هذا رجل ليس في صدرِه دين"، أي بلغة عصرنا دمُه حلال. ذلك ما كان يقوله رجال الدين على الفيلسوف التنويري سبينوزا، فقد كان المُفكر المُفترى عليه من المتدينين اليهود والمسيحيين في أوروبا، للدرجة التي جعلت أيضاً أحدَ اللاهوتيين يكتب عبارة لتوضع على ضريحه، تقول: "هنا يرقد سبينوزا... ابصقوا على قبره".
أتأمل في حالنا اليوم، من يمتلكون كلمات تختلف عن ومع كلمات الله، فأجدني أتذكر جسد العلامة اللاهوتي جورج حبيب بباوي، الذي رقد منذ عام، وما فعله البابا شنودة الثالث، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الراحل.
بدأ الخلاف بين بباوي والبطريرك في عام 1983، حين منعه من التدريس في الكلية الإكليريكية، والسبب كما أوضح البابا أنه يقدم "تعاليم خاطئة"، تبع قرار المنع وقفَ الراتب، والتضييق عليه نفسياً بشكل صارم حتى واجه بباوي أزماتِ عيشٍ حقيقيةً.
1- الكلمة العقلانية
كانت التعاليم الخاطئة التي أشار إليها البابا شنودة، تتمثل في أفكار تقدمية حرة عند بباوي، مثل معارضته للبابا حين هاجم زواج الكاثوليك والبروتستانت، وقال إن الزواج خارج الكنيسة الأرثوذكسية هو زنا. لم ينصع بباوي، وكان ردّه المتهكم أن "معنى كدا إن العالم كله زاني ما عدا إحنا؟!".
التعاليم الأخرى مرتبطة بفكرة تناول المرأة الحائض، إذ أنصفها بباوي، وشرح بشكل تفصيلي أن المرأة يمكنها أن تتقدم للتناول في أي وقت، كذلك أفكار أخرى لاهوتية، ردّ فيها بشكل صارم على البابا شنودة الثالث.
لم تكن الخصومةُ خصومةَ تعاليم أو عقيدة، إنما كانت خصومة شخصية، قرر فيها البطريرك أن يقتصّ لنفسه من بباوي بعد مواقف عديدة، أشهرها ردُّ بباوي عليه في تفسير الثالوث، ومهاجمته في فترة عزل البابا بقرار من الرئيس المصري آنذاك، أنور السادات، حيث قال بباوي لواحدة من الصحف الأمريكية: "إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تمرّ بفترة كهنوتية، أحكمت قبضتها على الشعب، مستخدمة كلَّ وسائل الترهيب، كذلك فإن البابا شنودة تصرف بحماقة سياسية مع السادات".
"أنا الله والله كامن بي/أنا الجسد والروح/ولكن الجسد والروح لا يسعني"، "يشغلني كثيراً/أن الله امرأة محبة/فهي القادرة فقط/على خلق كلّ هذا الجمال من عدم"... هل يستحق من كتب مثل هذه الكلمات أن يُسجن أو يقتل أو يُعذّب حياً؟
لذلك وقّع البابا و60 من الأساقفة على قرار الحرمان الكنسي عام 2007 دون محاكمة، في مخالفة صريحة لقوانين الكنيسة، التي تنص على المحاكمة قبل توقيع الحرمان.
حُرم بباوي، ولم يجد فرصة واحدة للدفاع عن نفسه، فهاجر من البلد بأكملها، وترأس قسم الدراسات اللاهوتية في جامعة كامبريدج في بريطانيا.
تتلمذ على يد بباوي عددٌ كبير من الباحثين، وملأ العالمَ بضجيج أفكاره وأبحاثه وكتبه، رغم التعنّت الواضح ضدّه من البابا والكنيسة، فإنه ظل يعلّم، وظلّ ينادي ويطعن على حكم الحرمان، ويطلب حقّه في المحاكمة والدفاع عن أفكاره، لكن لا ردّ أبداً حتى وفاة البابا شنودة عام 2012 وبداية حبرية البابا تواضروس الثاني، الذي كان واحداً من الأساقفة الموقعين على بيان الحرمان، لكنه وبخطوة إصلاحية رفع الحرمان عن العلامة اللاهوتي، وسمح بالصلاة على جسده، وقد لاقى القرارُ معارضةً كبيرة من الأصوليين، الذين اعتبروا البابا شنودة المصدرَ الوحيد للمنح والمنع.
2- الكلمة الصادقة القوية
لم يكن بباوي وحده من عانى بسبب كلمة قالها، لكن الكنيسة الأرثوذكسية، وتحديداً في عصر البابا شنودة الثالث، حرمت بشكل تعسفي عدداً من الكتاب واللاهوتيين ورجال الدين، وظلت ترسّخ أفكارَ المقتِ والكراهية عند شعب الكنيسة تجاههم.
أذكر أيضاً القس إبراهيم عبد السيد، الذي قرأتُ له كتاباً بمحض الصدفة، تحت عنوان "الإصلاح الكنسي". اندهشتُ وقتها من أفكاره الإصلاحية، وكلماته الصادقة القوية، أكملت قراءة مؤلفاتٍ أخرى له، تناقش السلطة الكنيسة، والتعسف، والكهنوت، والرهبنة، وغيرها من الموضوعات الشائكة الجريئة؛ مما جعلني أبحث عن حياته، كيف كانت؟
جاءت الإجابة كما توقعتها، بعد قراءة ما حكته ابنته سوسن عن الحروب التي خاضها، وعن منعه من التعليم، وإبعاده عن كنيسته بشكل تعسفي، وبقرار شفهي من جانب الأنبا بيشوي، مطران كفر الشيخ الراحل، دون محاكمة، ودون إيقافٍ لراتبه أو إصدار أي قرار رسمي.
كانت الضربة القاضية، حين فارق القس إبراهيم عبد السيد الحياة عام 1990؛ أصدر البابا شنودة قراراً بمنع الصلاة على جسده في أيّ كنيسة من الكنائس الأرثوذكسية، وهذه عقوبة المهرطقين والخارجين عن الدين المسيحي.
ظلت أسرة إبراهيم، وهي مكلومة القلب تبحث عن أي كنيسة تصلي فيها على جسد الإصلاحي الحرّ، ولم تجد، حتى حين ترجّت البابا في مكالمة هاتفية، لم يتحنن قلبه، وأصرّ على الرفض.
حملوا جثمان إبراهيم القس، وذهبوا في مشهد درامي قاسٍ إلى المقابر، منفردين، ليتطوع راهبٌ من دير الأنبا بيشوي بالصلاة على الجثمان دون انتظار إذن البابا، مما عرضه لخلافات في ما بعد، ترك بسببها الكنيسةَ.
3- الكلمة الحقيقة المحمدية
أعود إلى زمن قديم، أقدم من الكتب المقدسة، متسائلة عن حال الكلمة، ومعناها في الفلسفة اليونانية (القوة العاقلة). يقول هرقليطس إن الكلمة هي الروح الإلهي، الظاهر في الوجود، وفي فلسفة أناكساغوراس هي العقل الإلهي، وعند الرواقيين هي المدبر للكون.
ثم ظهرت الأديان الإبراهيمية/السماوية لتغدو عند اليهود كلمة الله، ومن أثرها الخلق، وفي المسيحية هي ابن الله: "في البدء كانت الكلمة"، و"الكلمة كانت عند الله، وكان الكلمة الله".
أقرأ في الإسلام، فألاحظ هذا الكم من المصطلحات في "نظرية" محي الدين بن عربي، التي تشير إلى الكلمة، منها أنها الحقيقة المحمدية، حقيقة الحقائق، وروح محمد، والعقل الأزلي، وتتقاطع نظرتُه مع الرؤية المسيحية للكلمة، إذ إنها تقوم على التثليث، ولكن التثليث عند محي الدين تثليث للصفات وليس الأقانيم، كما في المسيحية "الأب، والابن، والروح القدس".
حملوا جثمان إبراهيم القس، وذهبوا في مشهد درامي قاسٍ إلى المقابر، منفردين، ليتطوع راهب من دير الأنبا بيشوي بالصلاة على الجثمان دون انتظار إذن البابا، مما عرضه لخلافات فيما بعد، ترك بسببها الكنيسةَ... حكايات لضحايا "الكلمة المقدسة"
قُتل عدد كبير من المفكرين والأعلام المسلمين أيضاً بسبب كلماتهم، صُلب الحلاج، ومات شر موتة بسبب أشعاره ورؤيته للإله، وقتل سفيان بن معاوية ابنَ المقفع، بعدما صلبه، وقطع لحمه وشواه على النار. كفّر معظم الشيوخ ابنَ سينا، ووصفوه بإمام الملحدين، وعاش أبو العلاء المعرّي ومات تحت لقب أهم مشاهير الزنادقة، نصير الشِّرك والكفر.
وحتى يومنا هذا يتعرض للقتل والاغتيال المادي أو المعنوي أصحابُ الكلمات المؤثرة، هاجر نصر حامد أبو زيد بعدما اتهموه بالكفر والزندقة، وحاولوا التفريق بينه وبين زوجته بالقوة، وقُتل فرج فودة إبان كلمة ألقاها في معرض القاهرة الدولي للكتاب. والقائمة لا تنتهي أبداً.
4- الكلمة الثورة
لقد وجدتُ الحقيقة الإلهية:
أنا الله.
الحق أقول لكم.
أنا الله والله كامن بي
أنا الجسد والروح
ولكن الجسد والروح لا يسعني.
كلمات وأشعار كانت السبب الأول في سلخ الصوفي عماد الدين النسيمي عام 1417، والذي كان واحداً من ممثلي المذهب الحروفي، والمؤسس الأول للأدب الأذربيجاني.
تجلى النسيمي، وطار بكلماته بفارق عصور عن عصره. انتصر للحبّ ولصورة الله المُحبة وسّيد الإنسان على الجميع، للدرجة التي جعلت الناس مريدين له، فأخافت كلماتُه المماليكَ، رأوا فيه خطراً على استقرار سلطتهم لاتّساع تأثيره، وخشيتهم من تحوّل ثوريّته الفكريّة إلى ثوريّة سياسيّة، خصوصاً أنّ نسيمي كانت له علاقات قوية مع الأمراء التركمان في الأناضول.
اتهم السلطان المملوكي أبو النصر النسيميَ بالكفر والزندقة والخروج عن الدّين وسبّ الذات الإلهية، بسبب أشعاره التي كتبها، وانتشى بها الكثيرون. تحالف الأمراء والشيوخ ضدّه في حلب، وقرروا اتهامه بالكفر ليتخلصوا منه ومن كلماته التي يردّدها العامةُ. اعترض من اعترض وأيد من أيد. في النهاية وقف النسيمي في ساحة واسعة، وحوله مريدوه وهو يُسلخ حياً، ولسانه لا ينطق سوى بكلمات أشعاره:
لا إله إلا نحن
نحن نعرف ذلك دون ريب
عندما نرفع القناع عن وجهنا.
إنك تحتاج كي ترى وجهي
إلى عين تستطيع أن ترى الله.
سلخوا جسده سبعة أيام، وقرروا قطع أعضائه على أن تكون النّهاية بقطع رأسه، وأن تُرسل قطعةٌ من أعضاء نسيمي إلى أهم مريديه.
5- الكلمة القانون
بشكل أو بأخر تدعم القوانين في الدول العربية التعدي على حرية الكلمة من قبل المؤسسات الدينية، فتتضمن القوانين الجنائية في الدول العربية موادَّ تنصّ على تجريم الإساءة للأديان، ما بين الغرامات والسجن.
في مصر تنص المادة 98 على أنه " يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تتجاوز 5 سنوات أو بغرامة لا تقلّ عن 500 جنيه (32 دولار)، ولا تتجاوز ألف جنيه، كلُّ من استغلّ الدِّين في الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأي وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة، أو التحقير، أو ازدراء أحدِ الأديان السماوية، أو الطوائف المنتمية إليها، أو الضرر بالوحدة الوطنية أو بالسلَّم الاجتماعي".
والحقيقة أن الأزمات الحقيقية التي تحدث نتيجةَ وجود قوانين ازدراء الأديان تعود إلى مطاطية الكلمات، وعدم وجود تعريفات واضحة، وكذلك الانتقائية في تطبيق القانون، ففي أغلب الأحيان لا يطبّق على من يزدري أديان الأقلية.
الأزمة الأكثر أهمية، هي استغلال النص القانوني للإطاحة بأيّ كاتب أو شاعر أو لتصفية خلافات اجتماعية أو سياسية، وفي مداخلة هاتفية لبرنامج "حديث القاهرة" مع الإعلامي إبراهيم عيسى، قال المحامي علي الحلواني، المعني بقضايا النشر وحرية الرأي، إن "سيل الاتهامات والبلاغات الخاصة بازدراء الأديان لا يتوقف، وأن العدد وصل في مصر إلى 148 قضية".
وقد صدرت أحكام بالفعل تجاه عددٍ من الكتّاب مؤخراً، وأُخلي سبيل آخرين بعد دفع كفالة، منهم المستشار أحمد عبده ماهر، الذي حُكم عليه بالسجن لمدة 5 أعوام بسبب كتابه "إضلال الأمة في فقه الأئمة"، ومنذ أيام في أواخر شهر تشرين الأول/أكتوبر 2022، تعرضت الشاعرة أمينة عبدالله للحبس، ودفعِ كفالة قدرها 5000 جنيه، بسبب نصّ شعري كتبته ضمن قصائد ديوانها "بنات الألم" يقول:
يشغلني كثيراً
أن الله امرأة محبة
فهي القادرة فقط
على خلق كلّ هذا الجمال من عدم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...