أُعلن مؤخراً عن قرب عرض الفيلم الإسباني "بُناة قصر الحمراء" (Los Constructores de la Alhambra)، والذي يشارك في بطولته مجموعة من الممثلين من ذوي الأصول العربية، بينما تخرجه المخرجة الإسبانية إيزابيلا فرنانديز. يتناول الفيلم فترة حكم بني الأحمر في مملكة غرناطة، وهي الفترة التي وضعت حداً للوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية.
يلقي الفيلم الضوء على شخصية الوزير لسان الدين بن الخطيب -يجسد دوره الممثل المصري عمرو واكد- باعتباره واحداً من أهم الأدباء والسياسيين الذين عرفتهم تلك الفترة الحرجة. تُعدّ سيرة ابن الخطيب نموذجاً ممتازاً لفهم التقلبات السياسية المتسارعة التي شهدتها مملكة غرناطة في ذلك العصر، كما تشهد مؤلفاته على معارفه الموسوعية التي حدت بالإسبان لتكريمه على مرّ القرون.
رحلة ابن الخطيب بين قصور الأندلس والمغرب
ولد لسان الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن الخطيب في بلدة لوشة الواقعة بالقرب من غرناطة سنة 713هـ. درس في صغره علوم الطب والفقه والفلسفة والشريعة والأدب على يد كبار العلماء الأندلسيين في عصره. كان أبوه موظفاً عند الوزير أبى الحسن بن الجياب، فلما وقع قتيلاً في معركة طريف التي وقعت بين المسلمين والقشتاليين سنة 741هـ، خلفه ابنُه لسان الدين في نفس الوظيفة وظل بها حتى توفي الوزير سنة 749هـ، فاختير ابن الخطيب عندئذٍ في منصب الوزارة من قِبل السلطان أبي الحجاج يوسف.
بعد وفاة أبي الحجاج خلفه ابنه محمد الغني بالله على كرسي الحكم، وزاد من الاعتماد على ابن الخطيب في تلك الفترة بعدما ظهرت كفاءته في أمور الإدارة وتدبير شؤون الدولة، فأرسل به على رأس سفارة عظيمة لسلطان المرينيين في المغرب ليطلب العون والنصرة في الحرب ضد الإسبان.
ينقل المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" عن ابن الخطيب قوله واصفاً حالَه في تلك الفترة: "فقلّدني السلطان سرَّه ولما يستكمل الشباب، واستعملني في السفارة إلى الملوك، واستنابني بدار ملكه، ورمى إلي بخاتمه وسيفه، وائتمنني على صون حضرته وبيت ماله، وسجوف حرمه، ومعقل امتناعه ولما هلك السلطان، ضاعف ولده حظوتي، وأعلى مجلسي، وقصر المشورة على نصحي".
أُعلن مؤخراً عن قرب عرض الفيلم الإسباني "بُناة قصر الحمراء"، والذي يشارك في بطولته مجموعة من الممثلين من ذوي الأصول العربية. يتناول الفيلم فترة حكم بني الأحمر في مملكة غرناطة، ويلقي الضوء على شخصية الوزير لسان الدين بن الخطيب الذي يجسد دوره الممثل المصري عمرو واكد
الأوضاع السياسية سرعان ما تبدلت في غرناطة، في سنة 760هـ وقعت الثورة ضد محمد الغني بالله ليتولى الحكم أخوه إسماعيل. تمكن ابن الخطيب من الحفاظ على مكانته كوزير لفترة قصيرة، وبعدها عُزل من منصبه وأُلقي به في السجن بعد أن صودرت أمواله وأملاكه. هنا تدخل السلطان أبو سالم المريني وطلب من ملِك غرناطة الجديد أن يرسل له بكلٍّ من الملك المخلوع الغني بالله والوزير المحبوس ابن الخطيب. استجاب إسماعيل لطلب السلطان المريني، وبالفعل وصل الرجلان إلى فاس في 761هـ واستقبلهما السلطان المريني بحفاوة بالغة.
قضى ابن الخطيب في المغرب ما يزيد عن العامين، وتجول في الكثير من مدنها حتى استقرّ في مدينة سلا، ولعلّ أهم ما وقع في تلك الفترة أن الوزير الغرناطي قد تعرف على المؤرخ الشهير عبد الرحمن بن خلدون الذي كان يعيش في تلك الفترة في كنف سلطان المرينيين.
في سنة 763هـ تمكّن محمد الغني بالله من العودة مرة أخرى إلى عرشه وذلك بمساعدةٍ من وزيره عثمان بن يحيى. رجع لسان الدين بن الخطيب إلى غرناطة، وتولى منصب الوزارة، ونشب الصراع بينه وبين عثمان، وتمكن ابن الخطيب من الانتصار على منافسه اللدود بعدما أقنع الغني بالله بخطورته على مُلكه وسلطته لينفرد أخيراً بالنفوذ المطلق في المملكة الصغيرة.
وصف ابن خلدون قوةَ ابن الخطيب في تلك الفترة بقوله: "...وغلب على هوى السلطان، ودفع إليه تدبير الدولة، وخلط بنيه بندمائه وأهل حكومته، وانفرد ابن الخطيب بالحلّ والعقد، وانصرفت إليه الوجوه، وعلقت به الآمال، وغشى بابه الخاصة والكافة، وغصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتفننوا في السعاية فيه...".
في سنة 772هـ شعر ابن الخطيب أن أعداءه قد نالوا منه، وأنهم تمكنوا من إشعال نيران العداوة والغيرة بينه وبين الغني بالله، ولذلك راسل السلطان عبد العزيز المريني، وبعدها قدم عليه في تلمسان وعاش في جواره، ولم يلبث أن وجد لنفسه مكاناً متقدماً بين مستشاريه وأعوانه. أما أعداؤه في غرناطة فقد تمكنوا من دفع بعض الفقهاء لإصدار فتوى بإثبات زندقة ابن الخطيب بسبب بعض ما ورد في أشعاره ومؤلفاته، فجُمعت كتبه وأُحرقت على مرأى من الجميع.
الأوضاع تبدلت بسرعة في المغرب؛ مات عبد العزيز المريني وخلفه ابنُه الصغير، وما لبثت أن وقعت الثورة ووصل إلى الحكم أحمد ابن السلطان الأسبق أبي سالم. لمّا كان أحمد صديقاً مقرباً للغني بالله فقد كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن يُقبض على ابن الخطيب وأن يُلقي به في السجن.
يتحدث محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس" عن المشهد الختامي في سيرة الوزير الغرناطي الأشهر الذي راح ضحية ذلك العصر المعروف بتقلباته السريعة: "عقد السلطان أحمد مجلساً من رجال الدولة وأهل الشورى، استدعى إليه ابن الخطيب لمناقشته، ومواجهته بالتهم المنسوبة إليه، وأخصّها تهمة الزندقة، استناداً إلى ما ورد في بعض رسائله، وعزر ابن الخطيب وعذب أمام الملأ، وأفتى بعض الفقهاء المتعصبين بوجوب قتلِه، ودسّ عليه الوزير سليمان -الذي كان من ألد خصوم ابن الخطيب- بعض الأوغاد فقتلوه خنقاً في سجنه، وأخذت جثته في الغد وأضرمت فيها النار، ثم دُفنت خارج فاس على مقربة من باب المحروق؛ وما زال قبره المتواضع قائماً هنالك في مكانه حتى يومنا".
تُعدّ سيرة الوزير لسان الدين بن الخطيب نموذجاً ممتازاً لفهم التقلبات السياسية المتسارعة التي شهدتها مملكة غرناطة في فترة حكم بني الأحمر، كما تشهد مؤلفاته على معارفه الموسوعية التي حدت بالإسبان لتكريمه على مرّ القرون
الطريقة الفظيعة التي قُتل بها ابن الخطيب دفعت الكثيرين بتسميته بـ"ذي القبرين" أو "ذي الميتتين"، بسبب أنه مات مخنوقاً في سجنه في أول الأمر، وبعدها أُضرمت النيران في جثته. من الجدير بالذكر أن الكثير من الفقهاء قد أنكروا قتل ابن الخطيب على تلك الصورة البشعة؛ على سبيل المثال يقول الشوكاني في كتابه "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع": "وقتلُه على الصفة المذكورة هو من تلك المجازفات التي صار يرتكبها قضاة المالكية ويريقون بها دماء المسلمين بلا قرآن ولا برهان...".
الشاعر الأديب
لم يبرع ابن الخطيب في أمور السياسة والحكم فحسب، بل اشتُهر بكونه أديباً وشاعراً لا يُشقّ له غبار. امتدحه أحد معاصريه فوصفه قائلًا: "هو شاعر الدنيا، وعلم الفرد والثنيا، وكاتب الأرض إلى يوم العرض، لا يدافع مدحه في الكتب، ولا يمنح فيه إلى العتب، آخر من تقدم في الماضي، وهو نفيس العدوتين، ورئيس الدولتين، بالاطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية".
يُعدّ موشح "جادَكَ الغيْثُ..." من أشهر الأشعار التي أنشدها ابن الخطيب، والتي تناقلها الناس بعده جيلاً بعد جيل. يقول في مطلع هذا الموشح:
جادك الغيث إذا الغيث همى/يا زمان الوصل بالأندلسِ
لم يكن وصلُك إلا حلما/في الكَرى أو خلسةَ المختلسِ
أيضاً، اشتهر ابن الخطيب بأشعاره التي أنشدها لخدمة أهدافه السياسية. من ذلك النوع قصيدته المشهورة التي أنشدها بحضرة السلطان المريني مستنصراً إياه لنجدةِ مملكة غرناطة:
خليفة الله ساعد القدر/علاك ما لاح في الدجى قمر
ودافعت عنك كف قدرته/كلا ليس يستطيع دفعه البشر
وجهك في النائبات بدر دجى/لنا وفى المحل كفك المطر
الطريقة الفظيعة التي قُتل بها ابن الخطيب دفعت الكثيرين بتسميته بـ"ذي القبرين" أو "ذي الميتتين"، بسبب أنه مات مخنوقاً في سجنه في أول الأمر، وبعدها أُضرمت النيران في جثته
في سياق آخر، صَنف ابنُ الخطيب الكثير من المؤلفات الأدبية والعلمية المهمة، من أهمّها كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف"، وهو كتاب في شرح مفهوم الحبّ الإلهي عند الصوفية. وبسبب ما ورد في هذا الكتاب اتُّهم ابن الخطيب بالزندقة بعدما رماه أعداؤه بأنه يعتقد بوحدة الوجود وبالحلول وبالاتحاد، وهي العقائد التي قال بها العديد من الصوفية.
يوضح ابن الخطيب في كتابه الالتباسَ الحاصل في فهم عقيدة وحدة الوجود عند الصوفية، فيقول مفصلًا المسألة: "... وليس مرادهم أن شيئين صارا واحداً، إنما مرادهم أن التوحيد الحقيقي هو التخلص من ضيق عالم الحدوث إلى فسحة القدم، وهو في ثلاث درجات؛ الأولى: العرفان التام، المترجم عنه بأنا وليس إلا الله حقيقة وللسالك وهماً لما استترت به البشرية في نور المعرفة، واتحد العاقل بالمعقول... الثانية: مقام الحاضر في مقامات المكاشفة والمشاهدة للغائب عن الغيرية، وترجمته أنت، قال رسول الله: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. والثالثة: مقام الغائب المستدل بالأثر، المحجوب عن العيان بالخبر وترجمته هو، وهو خطاب الجمهور... هو الرحمن الرحيم... فمن زعم أنه اتّحد بالله بعد أن كان غيره، وصار معه شيئاً واحداً، لم يكن من الصوفية المحققين في شيء، وهو إلى الهذيان أقرب".
المؤرخ السياسي
هو شاعر الدنيا، وعلم الفرد والثنيا، وكاتب الأرض إلى يوم العرض، لا يدافع مدحه في الكتب، ولا يمنح فيه إلى العتب، آخر من تقدم في الماضي، وهو نفيس العدوتين، ورئيس الدولتين، بالاطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية... الوزير لسان الدين بن الخطيب
عُرف ابن الخطيب كذلك بمؤلفاته التاريخية والسياسية المتميزة. على سبيل المثال كان كتابه "الإحاطة في أخبار غرناطة" واحداً من أشهر الكتب التي خُصصت لتاريخ تلك المدينة الأندلسية العريقة. تناول ابن الخطيب في الكتاب أشهرَ من عاش في غرناطة من الأعلام والمشاهير، كما تعرض لجغرافية المدينة وما حولها، وقدم وصفاً مطولاً لما فيها من قصور وأبنية.
في مقدمة الكتاب، عدّد ابن الخطيب أسماء المؤلفين المسلمين الذين تحدثوا عن بلادهم واختصوها بالكتابة والتصنيف، فقال مبرراً تصنيفه لهذا الكتاب: "... فلست ببدع ممن فتن بحب وطن، ولا بأوّل ما شاقه منزل فألقى بالعطن، فحبُّ الوطن معجون بطينة ساكنه، وطرفه مغرى بإتمام محاسنه...".
أيضاً صنف ابن الخطيب كتابه الشهير "أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام"، وتعرض فيه لأخبار الغالبية الغالبة من الخلفاء والملوك الذين تقلدوا السلطة في البلاد الإسلامية. يقول لسان الدين في مقدمة الكتاب مشيراً إلى أهمية دراسة التاريخ في فهم الواقع: "ونذكر بفوائد الدهر التي نسيها اليوم بنوه، فطووا حديثها ودفنوه، وغمصوا حق زمنهم وغبنوه، ونجلب تذكيره فنوقظ العيون ونقضي من شكر الله الديون...". كذلك صنف ابن الخطيب العديد من الكتب السياسية، منها: "رسالة في السياسة"، و"الإشارة إلى أدب الوزارة".
من هنا يمكن اعتباره عالماً موسوعياً أحاط بالكثير من علوم عصره. ولذلك لم يبالغ محمد عبد الله عنان إذ وصفَه في كتابه سابق الذكر: "والحقيقة أن ابن الخطيب كان عبقرية متعددة الجوانب، فكان طبيباً وفيلسوفاً وشاعراً وكاتباً، وكان سياسياً ومؤرخاً، وقد ترك لنا تراثاً ضخماً منوعاً، من مؤلفات عديدة، أدبية وتاريخية وطبية، وطائفة كبيرة من غرر القصائد والموشحات، ورسائل أدبية وسياسية لا تحصى؛ ومن أشهر رسائله بنوع خاص رسائله السلطانية، التي كان يكتبها عن حوادث عصره برسم ملوك المغرب، وتلك التي كان يوجهها إلى أهل الأندلس من وقت إلى آخر، يحثهم فيها على الجهاد، والذود عن وطن يتربص به العدو، ويعتزم القضاء عليه، وهى رسائل تدلي بما كان لابن الخطيب من فكر ثاقب وبصيرة نافذة، هذا فضلاً عما تمتاز به من روعة البيان والأسلوب".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...