"الزندقة" لفظٌ أجمع المؤرخون والمتبحرون في علوم اللغة على أنه ليس عربياً، وأنه مأخوذ عن الفارسية، نقلاً عن تراثهم الأدبي، بكل ما فيه من معتقدات دينية عُرِفت بين آبائهم، وبخاصة ما رُوِيَ عن كتاب "البستاه" لزرادشت، ذلك الكتاب المشتمل على صلوات ومواعظ، حتى أتى فارسي آخر، يُدعى ماني بن فاتك، وفسّر "الأفستا" تفسيراً عقلياً، فهوجِمَ بضراوة، فسُميَ مارقاً وأتباعه زنادقة.
ربما كان التعريف اللغوي لـ"الزندقة" هو الإجماع الوحيد الذي جرى بين الفقهاء وعلماء اللغة... أطلق على الثنوية والمجوسية، وعلى الجهمية والباطنية، وأحيانًا على المنافقين، بل أطلقه بعضهم على أصحاب المجون والفُحش
ربما كان التعريف اللغوي للزندقة هو الإجماع الوحيد الذي جرى بين الفقهاء وعلماء اللغة في هذا الشأن، أما كل ما يخص المعنى الاصطلاحي فجميعه مقتضب لا يدل على شيء، أو مُجمل بشكل فيه إطلاق يخل بالمعنى الحقيقي "حيث أطلقه بعضهم على الثنوية والمجوسية، وأطلقه آخرون على الجهمية والباطنية، وأطلقه بعض الفقهاء على المنافقين، بل أطلقه بعضهم على أصحاب المجون والفُحش" حسبما أورد سعد بن فلاح العريفي في كتابه "الزنادقة.. عقائدهم وفِرقُهم وموقف أئمة المسلمين منهم".
عدم دقة المعلومات المتوارثة عند العرب عن الزنادقة
عدم دقة المعلومات المتوارثة عند العرب عن الزنادقة، يُرجِعه المؤرخ عبد الرحمن بدوي في كتابه "من تاريخ الإلحاد في الإسلام" إلى أن "المصادر التي تُحدثنا عن الزندقة والزنادقة قليلة غير مأمونة، وهذه القلة إما لأن كتب الزنادقة قد فقدت كلها تقريباً، ولم يعد بين أيدينا منها إلا شذرات ضئيلة نعثر عليها بعد عناءٍ طويل في كتب الردود".
ويضيف "بدوي" أن تلك الشذرات المروية عن الزنادقة غير مأمونة من ناحيتين: "الأولى أن الروايات المكتوبة في بعضها لم يتحرّ أصحابها الدقة في إيرادها، فجاءت في الغالب مُهوشة ناقصة؛ والثانية أن البعض الآخر من هذه المصادر، وهو أغلبها، قد كتبه الخصوم وأوردوا فيها آراء الزنادقة بعد أن أدخلوا عليها شيئاً غير قليل من التبديل والتغيير، بما يوافق أغراضهم في الخصومة والحِجاج، ومما يتلاءم مع الإلزامات التي يريدون أن يستخلصوا منها. لهذا يصعب على الباحث أن يتبين أقوال الزنادقة الحقيقية وأن يعرف كيف كانوا يوردونها".
الزندقة في العهد الأموي... بذرة زُرعت في بلاط الخلافة فأسقطتها!
بدأت بوادر الزندقة تظهر في أواخر دولة بني أمية، وبخاصة في خلافة هشام بن عبد الملك، الذي "على عهده ظهرت الفرق في الإسلام وانتشرت ترجمة تصانيف ماني وبردستان التي نقلها من الفهلوية أو الفارسية، عبد الله بن المقفع وغيره، وفي ذلك الوقت ظهرت كتب ابن أبي الأرجح، وحمّاد عجرد، ويحيى بن زياد، ومُطيع بن إياس، وظهرت الزندقة وراجت"، وفقاً لما أورده المسعودي في "شذرات الذهب".
ويرى سعد بن فلاح العريفي في كتابه "الزنادقة.. عقائدهم وفِرقُهم وموقف أئمة المسلمين منهم" أن زنادقة أواخر العصر الأموي، زرعوا بذرتهم في بلاط الخلفاء والولاة "تحت ستار العلم والأدب، حتى نالوا بغيتهم بكسب ثقة بعض الخلفاء، مما جعلهم يعينونهم مؤدبين لأولادهم، وحصل ذلك مع عبد الصمد بن عبد الأعلى، الذي كان مؤدبًا للوليد بن يزيد (أحد خلفاء بني أمية) والجعد بن درهم، الذي كان مؤدباً لمروان بن محمد (آخر خلفاء بني أمية)".
ويذهب البعض إلى جعل الجعد بن درهم أول مسمارٍ دُقّ في نعش الأمويين، لدرجة أنهم ينسبون آخر خلفاء بني أمية إليه، كأنه ولده، فيقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "وهذا الجعد إليه يُنسب مروان بن محمد الجعدي، آخر خلفاء بني أمية، وكان شؤمه عاد عليه حتى زالت الدولة"!
"قم سيدي نَعصِ جبار السموات"... العباسيون دولة ازدهار الزندقة
الربط بين الزندقة والعصر العباسي يكاد يكون أمر مُجمَع عليه من قِبل الباحثين، وهو ما يُبرزه صلاح الدين الجبيلي، الأستاذ بقسم اللغة العربية في جامعة هانكوك، في مقدمة بحثه "الشعراء الزنادقة في العصر العباسي: بشار بن برد نموذجاً"، بقوله: "إن استعراض أسماء الشعراء الزنادقة الذين نشأوا في بدايات القرن الثاني للهجرة يجعل من هذا السؤال سؤالاً بلا معنى، لأننا حين نستعرض الشعراء العباسيين دون مَن اتُّهم منهم بالزندقة، فلن يتبقى لنا إلا القليل فعلاً".
واستعرض الجبيلي بعضًا من أسماء فحول الشعر العباسي، كبشار بن برد، وأبي نواس، وأبي العتاهية، وابن الرومي، والمتنبي، مشيراً إلى أنه من المستحيل تكوين فكرة كاملة حول الأدب العباسي دون التطرق إلى قضية الشعراء الزنادقة في هذا العصر.
أبيات شعراء العباسيين كثيرة ومتعددة، وما يُحمَل منها على الكُفريّات يشير الجبيلي إلى بعضٍ منه في رسالته، فلابن الرومي هجاء شهير لشهر رمضان، يقول فيه: "إني ليعجبني تمام هلاله/ وأسرّ بعد تمامه بنحوله/ شهر يصد المرء عن مشروبه/ مما يحل له وعن مأكوله/ لا أستثيب على قبول صيامه/ حسبي تصرّمه ثواب قبوله".
وللمتنبي بيت شهير، حمله البعض على الاستهزاء بالتوحيد، بقوله: "يرتشفن من فمي رشفات/ هن أحلى من التوحيد"، ويقول بشار بن برد: "إبليس أفضل من أبيكم آدم/ فتبينوا يا معشر الأشرار/ النار عنصره وآدم من طينة/ والطين لا يسمو سمو النار".
للمتنبي بيت شهير، حمله البعض على الاستهزاء بالتوحيد، بقوله: "يرتشفن من فمي رشفات/ هن أحلى من التوحيد"
أما أبو العلاء المعري، فمن أبياته: "اسقني يا أسامة/ من عقار مدامة/ اسقنيها فإنني كافر بالقيامة"، وعلى الدرب ذاته، ينتشر بيت لأبي نواس يقوله فيه: "يا أحمد المرتجى في كل نائبة/ قم سيدي نعصِ جبار السموات".
أبيات كهذه وغيرها أرعبت خلفاء الدولة العباسية، وهو ما يبرز في وصية الخليفة المهدي لابنه، التي أوردها الطبري في "تاريخ الأمم والملوك"، بقوله: "يا بني إن صار لك الأمر فتجرد لهذه العصابة، فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهرٍ حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ثم تخرجهم إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور وترك الهوام تحرجاً وتحوباً، ثم تخرجهم من هذا إلى عبادة اثنين أحدهما النور والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات والاغتسال بالبول وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له".
ولما بلغت الزندقة حدّتها في عصر المهدي، اضطُر إلى اتخاذ ديوان للفحص عنهم والتنكيل بهم، ودعا المتكلمين والمعتزلة للرد عليه، وفي هذا يقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه "الفن ومذاهبه في الشعر العربي": "أكبر الظن أن المهدي لم يجد فيهم خطراً على الإسلام وحده، بل رآهم خطراً على دولته، وكذلك شَعرَ الخلفاء من بعده، وخاصة لتلك الثورات التي كانت تنشب ضدهم في إيران، مثل ثورة المقنّع الخراساني الذي كان يزعم أن الذات الإلهية تجسدت في أبي مسلم ثم حلت فيه، ومثل ثورة خليفته بابك الخُرمي لعهد المأمون".
ضحايا المهدي من الزنادقة يصعب حصرهم، لتعدد فئاتهم، فمنهم وزراء، وشعراء ومتكلمين، فلم يقتصر على قتل الأفراد منهم كما فعل والده أبو جعفر، بل تتبعهم بديوانه الذي أنشأه خاصة، حتى أبادهم جماعات وأفرادًا، ومن أشهر ضحاياه، الوزير ابن أبي عبيد الله، والشاعر بشار بن برد، والمتكلم صالح بن عبد القدوس البصري. تلك الحملة قضت على أغلب تراثهم الشعري، وباتت محاولة جمعه صعبة المنال!
محاولة إحياء تراث الزنادقة الضائع
بعد سبعة وعشرين عامًا على محاولة التحقيق بشأن ميراث الزنادقة الذي عانى بشأنه المؤرخ عبد الرحمن بدوي في كتابه "من تاريخ الإلحاد في الإسلام"، الصادر عام 1980، أصدر الشاعر العراقي جمال جمعة كتاب "ديوان الزنادقة.. كفريات العرب" عام 2007.
محاولة جمال جمعة أتت مدفوعة بما اعتبره تعمدًا لسياسة "التشذيب وتغييب النصوص (...) فقد بدأت دور النشر باستصدار طبعات جديدة منقحة لكتب التراث، قامت فيها ببتر كل ما لا يتلاءم مع توجهات القوى الظلامية المستفحلة في المجتمعات العربية".
مئات الأبيات الشعرية المتناثرة لعشرات الشعراء منذ مهد الإسلام
ورصد الشاعر العراقي في "ديوان الزنادقة" مئات الأبيات الشعرية المتناثرة لعشرات الشعراء منذ مهد الإسلام، بداية من أم جميل بنت حرب، وبنت الضحاك بن سفيان، وأمية بن الصلت، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وهند بنت عتبة، وصولاً لمحمد بن طاهر الحافظ المقدسي، القائل: "دع التصوف والزهد الذي اشتغلت/ به خوارج أقوام من الناس/ وعُج على دير داريا/ فإن الرهبان ما بين قسيس وسماس/ واشرب معتقة من كف كافرة/ تسقيك خمرين من لحظ ومن كاسِ/ ثم استمع رنة الأوتار من رشأِ/ مُهفهَفِ طرفهُ أمضى من الماس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...