"طاهرة قرة العين"؛ لدى البعض في إيران يدلّ هذا الاسم على الشِّعر والشغف والجرأة، ولدى بعض آخر يرمز إلى الشِّرك والشرّ ويستحقّ اللعن والازدراء. إنها أول امرأة خلعت الحجاب في إيران الإسلامية، وثارت ضد الإسلام المتخلف والمتحجر الذي كان يروّج له الحكم القاجاري في القرن التاسع عشر وضد استبداد ذلك الحكم، فسجلت اسمها ضمن أوائل النساء الإيرانيات المناضلات اللاتي كنّ يحلمن بالتساوي والعدل بين الخليقة. كانت طاهرة شاعرةً، ومجتهدة في الفقه الإسلامي، وعالمة بالأحاديث ومتحدثة بارعة لا منازع لها في المجادلة والنقاش.
اسمها الأصلي هو فاطمة بيْگُم البَرَغاني القزويني، ولفرط ذكائها لُقّبت بـ"زرّين تاج"، ما يعني في الفارسية "ذات التاج الذهبي". تذكر بعض الروايات ولادتها عام 1814، والأخرى المستندة إلى المصادر البهائية تقول إنها من مواليد عام 1817.
إلى قبل الثورة الدستورية في إيران (1906) لم يكن يحق للنساء التعلّم، ونساء البلاط كن يستطعن تعلم قراءة القرآن فقط، وليس الكتابة، خوفاً من أن يكتبن رسائل حبّ أو تقع عيون الرجال غير المحارم على خطوط أيديهن. أما النساء اللاتي كن من عائلات الأعيان فكن يستطعن تعلم القراءة والكتابة. وكانت عائلة طاهرة من تلك العوائل.
أمها، آمنة القزويني، وأبوها، ملّا محمد صالح البرَغاني، كانا قد حصلا على درجة الاجتهاد، ويديران مدرسة "صالحية" الشهيرة في مدينة قزوين الإيرانية، ويدرسان فيها. طاهرة، وإلى جانب شخصيات معروفة في التاريخ الإيراني مثل أشرف الدين الحسيني القزويني، مدير جريدة "نسيم شمال" المعروفة خلال الثورة الدستورية، وميرزا كوجك خان، المناضل المعروف في هذه الثورة، كانت قد درست في هذه المدرسة.
أنهت طاهرة التعاليم الدينية العليا لدى والديها وأعضاء آخرين من العائلة، وتلقت الأدب والشعر الفارسي من أمها التي كانت شاعرة بدورها. أما الفقه، والحديث، وعلم التفسير، والحكمة، والعرفان، فأخذتها من أبيها وعمّها وأبناء العمّ. ومنذ الطفولة كانت تجلس خلف ستارة، وتستمع إلى مناقشات أبيها مع ضيوفه، وفصاحتها وبلاغتها في الكلام كانت تثير استغراب الآخرين.
تزوجت طاهرة في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمرها من ابن عمها، ملا محمد، وأنجبت منه ثلاثة أو أربعة أبناء وفق ما تقول وتختلف عليه الروايات. في بداية زواجها، ومتأثرة بعمّها، ملّا محمد علي، تعلّقت بمدرسة أو فرقة "الشيخية"، وتابعت دروس مؤسس هذه الفرقة، الشيخ محمد الإحسائي.
من المعروف أن ناصر الدين شاه تقدم بطلب يد طاهرة، إلا أنها رفضت ذلك، فنشدت أبياتاً مضمونها: لك مُلكُك ومقامك، ولي طريقتي في الزّهد
"الشيخية" فرقة شيعية تعتقد كغالبية الشيعة بإمامة الأئمة الاثني عشر، إلا أنها لا تعترف بالعدل الإلهي والمعاد من بين مبادئ الدين، بينما تضيف مبدأً آخر هو "التولية"، وهو تولي شيخ "الشيخية" أمور المسلمين أو المعتقدين بهذه الفرقة. أول هؤلاء المتولين كان الإحسائي وهو المؤسس لهذه الفرقة، وناب عنه كاظم الرَّشْتي. زوج طاهرة وأبوه كانا من المعارضين لهذه الفرقة.
في العراق
بعد مرور فترة قصيرة على زواجها، ذهبت طاهرة برفقة زوجها إلى كربلاء في العراق، من أجل مواصلة دراسات زوجها في علوم الفقه، حيث مكثت معه ثلاثة عشر عاماً. في العراق التقت بالشيخ كاظم الرَّشتي، الزعيم الثاني لفرقة الشيخية ونائب الإحسائي، وأخذت تدرّس العلوم الدينية إلى جانبه.
بعد العودة من العراق إلى قزوين يقال إنها كتبت رسالة في الدفاع عن الشيخية، وأخذت في الترويج لها، ومكاتبة سيد كاظم، فتأثر كاظم بها ولقبها بـ"قرة العين"، وهو لقب كان يطلق على الفقهاء والمجتهدين وإطلاقه على امرأة كان غير متعارف عليه.
مغادرة إيران ثانية
تضاربت آراء طاهرة مع زوجها وأبيه، ما دفعها لترك زوجها وأطفالها الثلاثة، فغادرت إيران إلى العراق برفقة ابنتها وأختها وأخت زوجها. بقيت في العراق ثلاث سنوات، وخلال هذه الفترة تعرف إلى فرقة "البابية"، وتعلقت بها.
مؤسس البابية كان سيد علي محمد الشيرازي الملقب بـ"الباب"، وكان تلميذاً للإحسائي ومريداً للشيخية. لكنه بعد فترة ادعى النبوة في مدينته شيراز، وأطلق عقيدته "البابية". تقول بعض مصادر علم الاجتماع في إيران إن البابية كانت نوعاً ما حركة تعارض نظام الرعية والأرباب بلباس ديني، وأثرت هذه الحركة على النهضة النسوية في إيران لأنها كانت تعتقد بالتساوي بين النساء والرجال في الحقوق، وكان الباب مدافعاً لحقوق النساء.
عند إقامتها في العراق، كان كاظم قد مات آنذاك، فأخذت طاهرة بتعليم تلاميذه في العراق من خلف الستار، فكانت أصبحت وجهاً بارزاً في البابية ومعترفاً بها من قبل الباب دون أن يلتقيا، ما جعل بعض الرجال من البابية الاعتراض على ذلك، والوشاية بها، فلقبها الباب بـ"طاهرة".
العودة إلى قزوين
بعد مرور ثلاث سنوات على إقامتها في العراق، وإثر نشاطها الديني هناك والترويج للبابية، اضطرت لمغادرة العراق، وعادت إلى قزوين. وفي مسقط رأسها واصلت الترويج للبابية خلال الطريق ما جلب لها كثيراً من التابعين لاسيما في غرب إيران، وكان بعضهم من أتباع التصوف وفرق دينية أخرى، إلى أن وصلت إلى قزوين وواصلت التبشير بالبابية أيضاً هناك.
نشاطها هذا فاقم من الصراع بينها وعائلتها. بقيت طاهرة في قزوين ثلاث سنوات أيضاً، ولم تقبل العودة إلى زوجها، بل، ولأنها كانت حاصلة على درجة الاجتهاد في الفقه، قررت أن تقرأ خطبة الطلاق بنفسها، لتطلق نفسها من زوجها، فيتم تكفيرها من قبل زوجها وأبيه، ملّا محمد تقي البَرغاني، الذي كان إمام جمعة قزوين، من رجال الدين الأصوليين المتشددين ومعارضاً كبيراً للشيخية والبابية. انتهى مصير ملّا محمد تقي باغتياله على يد أحد رجال البابية في جامع قزوين.
يقول البعض إنها أوعزت بقتل أب زوجها
تقول بعض الروايات إن طاهرة هي التي أوعزت بقتل أب زوجها، ولذلك تمّ القبض عليها بعد موته وتسجن في سجن منزلي، إلا أنها تهرب بمساعدة بعض النساء البابيات، وترحل إلى طهران، وتعيش هناك بسرية لمدة عام.
تأثر كاظم الرشتي بها ولقبها بـ"قرة العين"، وهو لقب كان يطلق على الفقهاء والمجتهدين وإطلاقه على امرأة كان غير متعارف عليه
على شاهدة قبر ملا محمد تقي ثمة رسم تظهر فيه امرأة واقفة وفي يدها ورقة. يقول البعض إن هذا الترسيم يؤكد رأي إيعاز طاهرة بقتل الرجل من جهة، ومن جهة أخرى يظهر أنه وفق المعتقد الذكوري آنذاك في إيران أن المرأة إن كانت متعلمة سيودّي ذلك إلى التهلكة والموت! وقد أشارت إلى ذلك السينمائية الإيرانية شبَنم طلوعي، في فيلمها الوثائقي عن حياة قرة العين "التُربة، النوار، النار".
اجتماع بَدَشت
خلال هذه الفترة أخذ الحكم القاجاري الذي كان يتولاه ناصر الدين شاه القاجاري، بقمع البابية بشدّة، واعتُقل الباب في قلعة "ماكو". فقرّر قادة البابية أن يجتمعوا في سهل "بَدَشت" بالقرب من طهران عام 1848 ليناقشوا مستقبل البابية، والإفراج عن الباب، وكان قد مرّ على وجود طاهرة في طهران عامٌ. شاركت طاهرة في هذا الاجتماع بقوة، لتلقي خطاباً هناك وتطالب بعزل البابية من الإسلام، وتطرح فكرة النضال المسلّح.
خلال هذا الاجتماع وعند خروجها من الخيمة المقيمة في السهل، خرجت طاهرة دون حجاب على رأسها، فثارت ضجة بين الجموع. غادر البعض الاجتماع اعتراضاً على سفورها، ووصمها الآخر بالإلحاد، أما رجل من بين الحاضرين فحاول الهجوم عليها، أما آخر فمزّق حنجرته وغادر المكان مدمى وصارخاً. انتهى اجتماع بَدَشت بعد 22 يوماً، لتواصل طاهرة حياتها السرّية من قرية إلى أخرى لمدة عام آخر.
إلى السجن والإعدام
نشب بعد ذلك قتال كبير من قبل البابيين ضدّ قوات الحكم، فقرّرت طاهرة الذهاب إلى هناك، ولكن تمّ القبض عليها خلال الطريق بتهمة قتل عمّها، وأوتي بها إلى طهران، فسجنت في الطابق العلوي لمنزل رئيس الشرطة في طهران لمدة ثلاث سنوات. وخلال سجن طاهرة، كانت تأتي إليها النساء فيتلقين التعاليم منها.
غادر البعض الاجتماع اعتراضاً على سفورها، ووصمها الآخر بالإلحاد
خلال هذه السنوات تمّ إعدام الباب، وإثر ذلك، حاول بعض رجال البابية اغتيال ناصر الدين شاه (1851)، دون جدوى، فأمر الملك بقتل البابيين، فبدأ قمع كبير لهم في البلاد.
من المعروف أن ناصر الدين شاه تقدم بطلب يد طاهرة، إلا أنها رفضت ذلك، فنشدت أبياتاً مضمونها: "لك مُلكُك ومقامك، ولي طريقتي في الزّهد. إن كان ذلك حسناً فطوبى لك به، وإن كان هذا سيئاً فأنا أولى به."
خلال السنوات الثلاث من سجن طاهرة، أتى الكثير من رجال الدين والفقهاء لمجادلتها لكنهم جميعاً هُزموا في ذلك، إلى أن اثنين منهم حكما بالإعدام عليها. وخلافاً للباببين الآخرين الذين كان يتمّ قتلهم وإعدامهم أعدمت طاهرة في السرّ، وألقي بجثتها في بئر. وبعد ذلك تم إحراق جميع مخطوطاتها وثيابها. وهي المرأة الأولى في إيران التي تم إعدامها بتهمة "الإفساد في الأرض".
لا يُعلم إن كانت طاهرة قرة العين تبلغ من العمر 36 أو 39 عاماً، إلا أنها سجلت خلال عمرها القصير دوراً ريادياً في النضال الفكري والاجتماعي وتركت أثراً كبيراً على الحركات التحررية النسوية في إيران.
لم تشر طاهرة خلال نضالها إلى حقوق المرأة بشكل مباشر، إلا أنها ناضلت من أجل حقوق الإنسان والتجدد والحرية، وما يصبّ في حقوق المرأة كالاعتقاد بتعدد الزوجات، وخلع الحجاب.
أعمال مستلهمة منها
استلهمت كثير من الأعمال الفنية والأدبية من حياة قرة العين؛ مثّلت سارا برنارد دورها في مسرحية أجريت في مدينة سان بطرسبورغ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إذ اقترحت هذه الممثلة آنذاك تأليف عمل عن "جان دارك الإيرانية"، وأخرجت الفنانة الإيرانية نيلوفر بيْضائي مسرحية تتطرق إلى حياة طاهرة والشاعرة الإيرانية الرائدة فُروغ فرّخ زاد في قاعة فرويد بجامعة لوس أنجلوس.
وقد غنّيت بعض قصائدها من قبل المطربين الإيرانيين، أهمها قصيدة الحبّ التي غناها محسن نامجو، ومطلعها: "إن رأيتك ثانية، وجهاً لوجه وعيناً بعين... سأشرح ألم حبّك نقطة نقطة وحرفاً حرفاً/ من فراقك يسيل دمُ قلبي من عينيّ... دجلةً دجلةً، نهراً تلو نهر، عيناً تلو عين، وساقية تلو أخرى".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 4 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ اسبوعينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.