شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"أين يقع القلب يا ماما؟"... ابنتي بين الفضائين الخاص والعام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 22 نوفمبر 202212:40 م

يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.


كانت الأمومة قراري أولاً وأخيراً. كنت أعرف أنها لن تكون قراراً سهلاً وسط مجتمع يعدّ الأنفاس على النساء، ويحمّلهن ما لا يقدر أي كائن آخر على تحمّله. حين قررت أن أكون أمّاً، كنت أحاول أن أستعيد جزءاً كبيراً من طفولتي التي سرقتها الظروف والناس والأحكام. ولكن المجتمع، وإنّ بدى أنه يتغيّر وفقاً لسيرورة تاريخية تحكم الواقع، فإنّه بقي ذاته في ما يتعلق بمن يريد الطيران خارج السّرب: متسلّطاً ودغمائياً.

وها أنا أصير أمّاً. جئت إلى الأمومة من منطقتين مختلفتين وأحياناً متناقضتين؛ الأدب والفلسفة، أي أنني متأرجحة بين أحلام الأمومة الوردية والاستعارات والتشابيه والتجربة الوجودية التي أنا في صدد الانخراط فيها، وبين قدرتي على قراءة الواقع وفهم آليات عمله الدؤوبة لتدجين التجارب ونمذجتها. كنت أعرف أنّ تجربة الأمومة لن تكون سهلةً في ظل وجود الآخرين الذين يفهمون في كل شيء، ويطلقون أحكاماً جاهزةً وصالحةً لكلّ الوضعيّات. ولعلّ ما جعل الأمومة مقترنةً بالخوف هو عدم قدرتي عن التخلّي النهائي عن الآخرين من ناحية، وعدم قابليتي للخضوع لنموذجهم الأمومي الموحد.

اتسعت هذه الهوّة حين أنجبت بنتاً وسمّيتها كيان. اضطررت أنا ووالدها إلى شرح الاسم للجميع وأنه اسم عربي أصيل وليس اسما تركياً وأنّنا نريد لها اسماً مختلفاً عن المتداول، فكان الرّد في أغلبه ضمنياً أو معلناً: "اختاروا لها اسماً دينياً، هذا أفضل لكما ويكفي من 'التفلسف'". كان ينتابني غضباً شديداً ووددتُ أن أكون حادّة الرد لكنني كثيراً ما أعمد إلى التجاهل حتى لا أجرح مشاعر الآخرين وأتجاوز تطفّلهم في الوقت نفسه، ولأنّ والد البنت أيضاً يستاء من هذا التدخل غير المبرر فقد حسم الأمر بشكل شجاع وقطعي حين قال للجميع: "البنت بنتها، وهي حرّة في تسميتها... لا أحد عانى معها متاعب الحمل وآلامه. من أراد اسماً فليسمّه لأطفاله، أما فائقة فقد اختارت أجمل الأسماء لابنتنا وهي أدرى بقيمة الأسماء ومعانيها".

اضطررت أنا ووالدها إلى شرح الاسم للجميع وأنه اسم عربي أصيل وليس اسما تركياً وأنّنا نريد لها اسماً مختلفاً عن المتداول، فكان الرّد في أغلبه ضمنياً أو معلناً: "اختاروا لها اسماً دينياً، هذا أفضل لكما ويكفي من 'التفلسف'

منحني هذا الدعم قوّةً، خاصةً حين رفض الاسم، والتدخل فيه تجاوز العائلة ليشمل ضابط الحالة المدنية. وبالرغم من أنه لا مانع قانونياً أو أخلاقياً في الاسم، إلا أنّه رفض الاسم وكانت تعلّته الأسوء على الإطلاق، وهي أنّه اسم يطبّع مع إسرائيل فهو مستنسخ من الكيان الصهيوني. جنّ جنون والدها من هذه التهمة، وحين أخبرني انهرت بالبكاء حتى فُتحت جروح القيصريّة كيف يمكن لبنت عمرها يومان أن تحمل كلّ هذه الادعاءات؟

أتذكر أن الأمر أصبح تحدياً شخصياً لوالدها وحالةً عاطفيّةً متناقضةً بالنسبة لي؛ "الإصرار والخوف". حينها، قلت لوالدها وأنا منهارة:" لا تدعهم يحرمونني من أمومتي".

وبالرغم من أنّها سُميت بالاسم الذي أردته لها، إلّا أنني لم أنسَ حالة الذعر التي عشتها، فكيف كنت سأنظر في عيني طفلتي لو سمحت للآخرين بأن يسمّوها؟

بالرغم من أنّها سُميت بالاسم الذي أردته لها، إلّا أنني لم أنسَ حالة الذعر التي عشتها، فكيف كنت سأنظر في عيني طفلتي لو سمحت للآخرين بأن يسمّوها؟

حين عاد والدها بشهادة ميلاد مكتوب فيها اسم كيان كما أردت، ازداد يقيني بأنّ أمومتي ستكون معركةً كبيرةً، وحين هدأت قليلاً فكرت في كلام ضابط الحالة المدنية، فالطفلة سيلاحقها تأويل اسمها لمن يقف فوق سطح الأشياء. والحشود عادةً ما تقف عند القشور، لذلك بدأت بالاستعداد لهذه المرحلة مبكراً، إذ شرحت للبنت معنى اسمها وخدمتني في ذلك رغبتها في عدم مشاركة الآخرين اسمها، وأبدت استغرابها مبكراً من تكرار الاسم نفسه، فقد فاجأتني بالسؤال في سنتها الأولى في المدرسة: هل الجميع اسمهم مريم أو يوسف؟ بقى سؤالها يدور في ذهني حين أجد في كل مرة عشرة أشخاص لهم الاسم نفسه، أو حين يحدثني تلاميذي عن رفضهم لأسمائهم التي لا تمثّلهم متمنّين أن يسامح الله آباءهم الذين قيّدوهم بهذا الأسماء. فهل قيّدت ابنتي باسمها حين أردت أن أحررها؟

لم تكن هذه الحادثة هي الوحيدة التي جعلتني دائمة الخوف في الأمومة، فإن نجحت في الأشهر الأولى في فرض قواعد أمومتي التي أعيشها للمرة الأولى من دون أحكام مسبقة أو توصيات أو إسقاطات لتجارب الأخريات، وكأنني أول الأمهات وآخرهن، فقد قررت منذ البداية أن أكون أماً وحدي، وأن أحوّل تلك السخرية التي تقول "لست أوّل امرأة تنجب ولا الأخيرة"، إلى قاعدة.

لكنّ ذلك لم يكن متاحاً لامرأة مثلي منذورة للشقاء، فقد اضطررت إلى ترك ابنتي والعودة إلى العمل. وحيث أن عملي في مدينة وبيتي في مدينة أخرى، فقد كان لزاماً أن أترك البنت طوال اليوم عند عمتها أو عند خالتها أو عند زوجة خالي أو جارتي. أخرج عند الفجر وأعود عند المغرب مطمئنةً أحياناً وخائفةً دائماً. لقد كان الابتعاد عنها كابوساً وأخذها معي مستحيلاً. لم أترك باباً إلا طرقته من أجل تقريبي من ابنتي التي أمضت سنواتها الأولى متشردةً معي من مدينة إلى مدينة وحُرمت من والدها ومن خصوصية البيت ولولا وجودنا مع عائلتي التي أحدثت توازناً عاطفياً في حياتها، لما كانت ابنتي كما هي اليوم. لم يسمعني أيّ مسؤول وأنا أضع التقارير الطبية لي ولابنتي، وحين ألحّ في الاحتجاج تكون الإجابة: "من قال لك أن تنجبي أطفالاً أو من قال لك أن تعملي؟".

بقى سؤالها يدور في ذهني حين أجد في كل مرة عشرة أشخاص لهم الاسم نفسه، أو حين يحدثني تلاميذي عن رفضهم لأسمائهم التي لا تمثّلهم متمنّين أن يسامح الله آباءهم الذين قيّدوهم بهذا الأسماء. فهل قيّدت ابنتي باسمها حين أردت أن أحررها؟

وضعتني أمومتي في أسوأ اختيار، وسمعت كلاماً قاسياً عن الأمهات العاملات المتذمرات من الوضع اللّواتي يردن كلّ شيء. استطعت أن أصمد جيداً في وجه هذه الأحكام والتهم وفي كل مرة كانت توضع عقبة أمام أمومتي أو في العمل أو في الدراسة أو حتى حين أسمع التعليقات بأني زوجة فاشلة، كنتُ أصرّ أكثر على النجاح. قوة داخلية كانت تدفعني إلى أن أثبت العكس، واستطعت أن أحقق نتائج جيّدةً مع طلابي وأن أتحصل على رسالة الماجسيتر بملاحظة "حسن جداً"، وأن أهتم بصحة كيان التي كانت تسجل تقدماً جيداً يذهل طبيبها في كل مرة نزوره فيها. نجحت بشكل كبير في أن أصبح أماً ناجحةً ولكنني اتخذت قراراً نهائياً بألا أنجب طفلاً آخر، فقد صارت أمومتي في هذا السيّاق تأشيرة عبور لتصير حياتي وخياراتي مشاعاً للآخرين الذين يعتقدون على الدوام أنّهم أوصياء على أمومتي.

حين تجاوزت كل هذا، انتبهت إلى أن كيان قد كبرت، وبدأت مرحلة التربية، أهم مراحل الأمومة وأصعبها. فهنا فعلاً كنت مخيّرةً بين أن أربيها كما تربيت أنا، أو أربيّها كما يجب أن تكون التربية السليمة لطفلة تكتشف ذاتها والعالم والأشياء من خلالي، أنا التي تمرّدت باكراً على القواعد والضوابط الاجتماعية وقد زادتني الفلسفة جموحاً فما يبدو لي ضرورياً وطبيعياً يبدو للآخرين عيباً أو حراماً أو بدعةً وبعبارتهم الدائمة "تفلسف"؛ العبارة التي يلصقها الآخر بكل فعل أو قول مغاير للمألوف.

وضعتني أمومتي في أسوأ اختيار، وسمعت كلاماً قاسياً عن الأمهات العاملات المتذمرات من الوضع اللّواتي يردن كلّ شيء

ببساطة، كنتُ خائفةً أن أصبح شبيهة أمي في الأمومة. أمي التي ربّتنا كما لو كنّا عساكر في ثكنة. وكي لا أصبح أماً صارمةً وحريصةً حدّ التسلّط، أصبحت أماً متاحةً طوال الوقت وجاهزةً لفعل كل شيء نيابةً عن البنت. لكن البنت كانت الاستثناء، فبمجرد أن بدأت تكبر كبرت رغبتها في التعلم والاستقلالية، حتى أنها سألتني ببراءة ذات يوم: "لماذا لا تتركيني أقوم ببعض الأشياء وحدي فأنا لدي يد مثلك؟ فمثلاً سأغسل أسناني وحدي، دعيني أختار ملابس الروضة كل صباح وشكل التسريحة فهذا جسدي أنا". لقد كان سؤالها مثل الصفعة التي جعلتني أنتبه إلى أن لي بنتاً لها كيانها وشخصيتها.

وبدأنا رحلة التعلّم معاً: كيف أكون أماً وكيف تكون هي ذاتاً مستقلةً تتعلم بمفردها ووفقاً لما يسمح به الفضاء الذي نتحرك داخله؟ صارت صاحبة القرار في كلّ أمر يخصها، وهذا ما جعلها مميزةً في محيطها المدرسيّ والعائليّ. طفلة واثقة بنفسها وتفكر بصوت مرتفع وتطرح الأسئلة وهذا يعني أن ابنتي تتمتع بشغف المعرفة وسيكون هذا سلاحها في مواجهة الآخر الفضولي الذي يحشر أنفه في كل شيء. كلما كبرت البنت أكثر ازداد تدخل المحيط، فبدأت تظهر التعليقات على تصرفات البنت أو كلماتها وهي كلمات لا تدور في عائلتنا الصغيرة، مثل عيب وحرام والله سيعاقبك إن قلت كذا أو فعلت كذا، وإن كنت أستطيع أن أمنعها في المحيط الضيّق فلم أستطع ذلك في محيط البنت الخارجي الذي كانت تعود إلي منه في كل مرة بكلمات جديدة وأسئلة كثيرة ربما أسوأها على الإطلاق حين سألتني مرةً قبل النوم: "هل يحرقنا الله بالنار فعلاً إذا كذبنا؟". لقد تعلمت مع كيان أن أكون مستعدةً للمرواغة في الإجابات، إذا كانت أسئلتها عميقةً، فسألتها بدوري هل كذبت أنت؟ أنزلت عيونها وقالت بخجل: لقد قلت للقطة إنه ليس لدينا طعام والحقيقة أنني كنت جائعةً ولم أرغب في اقتسام طعامي معها؟ وانفجرت بالبكاء مرددةً: أنا خائفة يا أمي. حضنتها طويلاً واقترحت عليها أن تعتذر غداً من القطة، ولن يكون الأمر سيئاً فالله يحب الأطفال، ويحب الصادقين أكثر.

ببساطة، كنتُ خائفةً أن أصبح شبيهة أمي في الأمومة. أمي التي ربّتنا كما لو كنّا عساكر في ثكنة.

وبعد تلك الحادثة وغيرها، أصبحنا نناقش ما يحدث طوال اليوم، ونتفق على ما نحتفظ به كأشياء مفيدة وما سننساه لأنه لا يفيد عقولنا وقلوبنا. منحتني هذه المساحة اليوميّة إمكانية خلق معادلات كثيرة في حياتي كأم وككاتبة وأن أربّي كيان كطفلة مستقلة لها رأيها في كل شيء يخصّها وأن أفرض عليها قواعد معيّنةً تتماشي مع أحكام المجموعة. ولأن هذا كان صعباً في البداية، إلا أنّ البنت صارت تميّز تدريجياً الفضاء الخاص (بيتنا) حيث تكون حريتنا مطلقةً عن الفضاء العام حيث تبدأ القواعد.

تأتي كيان إلى حضني هامسةً: "أين يقع القلب يا ماما؟". أقول هنا، فتضع رأسها على ذراعي الأيسر وتربت على قلبي بحنوٍ قائلةً: "كن بخير يا قلب ماما... لا أريدك أن تكون حزيناً، فأنا موجودة هنا من أجلك". لعل هذا هو ما يجعل الأمومة لطفلة بالنسبة لي حالة حب استثنائيةً وإن كانت محفوفةً بالخوف والتمرّد والقلق.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image