يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.
كنت قد على مشارف الولادة عندما اعترضتني جارتنا وسألتني عن جنس المولود الذي أحمله. قاطعت حماستي عندما عرفتْ أنه فتاة، وتمنّت لي حملاً قادماً بولد. ذهبت بحال سبيلها وعدتُ إلى منزلنا أتكهّن: كم قرناً نحتاج نحن العرب حتى ندرك الحضارة؟
كيف يحكمون عليها بجهنم منذ مجيئها إلى هذا الكون بأشهر لا تتعدى أصابع اليد الواحدة؟
أردنا لها من الأسماء ما لا يصنع بذهن المتلقي أحكاماً رجعية حول انتمائها أو أسلوب تفكير والديها. أردناه اسماً لا يوحي بالكثير. عن الاسم الذي اخترناه لابنتي أتحدّث، ويبدو أن هذا القرار لا يعود إلينا فحسب.
أظن أننا لم نفلح في الامتحان الأول للمجتمع لأن رحلة التعليقات ابتدأت حيث ظننا أننا أنهيناها. يقول أحدهم مستاءً: "مايا؟ اسم لاتيني ولا تدخل الجنة حاملته لأنه ليس بالاسم العربي".
ابنتي كانت صغيرة حينها لم تتعدّ بعد المرحلة البيولوجية الأولى، فكيف يحكمون عليها بجهنم منذ مجيئها إلى هذا الكون بأشهر لا تتعدى أصابع اليد الواحدة؟
أجيبُ في كل مرة بأننا أردناه اسماً يسهل نطقه يحمل دلالة ولا يتعدى الأربعة أحرف حتى لا ترهقها كتابته فتملّ. لا يقنعني جداً ما أقول. أجدني ربما أبرّر وأتساءل هل كنت مجبرة على ذلك؟ ماذا لو استبدلت تبريراتي تلك بـ "ما دخلك؟" مثلاً "أو هذا ليس من شأنك"؟ كثرة حواراتي الباطنية منهِكةٌ. ليس سهلاً أن تراوح بين قناعاتك وبين محيطك الاجتماعي. والأصعب من ذلك تكبدك مسؤولية كائن صغير ليس ملكاً لك ولا لمجتمعك.
أظن أننا لم نفلح في الامتحان الأول للمجتمع لأن رحلة التعليقات ابتدأت حيث ظننا أننا أنهيناها. يقول أحدهم مستاءً: "مايا؟ اسم لاتيني ولا تدخل الجنة حاملته لأنه ليس بالاسم العربي"
أدرّب ابنتي على التعبير عن آرائها اللطيفة وأدافع عن حقها في الاختلاف وعن حريتها في اتخاذ قراراتها الصغيرة. في نفس الوقت، لا أريد لها غربة دفينة أعيشها وتعصف بي عصفاً. فأنا جزء من مجتمع أحب بعضه وأكره بعضه الآخر. يحتويني بعضه ويلفظني بعضه في الآن ذاته. معادلة صعبة تضعني أمام امتحان وجودي. كيف أربي ابنتي في مجتمع شرقي سيراها بعد زمن قصير عورة أو ناقصة تحتاج شخصاً آخر حتى يكملها؟ كيف لمتحررة في مجتمعاتنا العربية أن تعيش بسلام؟
الاسم لم يكن سوى البداية لأن مشوار التدخلات في علاقتي بابنتي انطلق من هناك، من التسمية. يتدخل الجميع في طريقة تربيتك لصغيرك عامة. لكن، ماذا لو كان هذا الصغير فتاة؟ الأمر أشدّ تعقيداً مما تخيلت.
أرهقني التفكير في كيفية تربيتها. ووجدت نفسي أمام خيارين: إما الدفاع بشراسة عن قناعاتي وكل ما أتبناه من قيم كونية علمتني إياها الفلسفة، أو الانصياع للمجتمع الذي حدد لي مسبقاً جملة من الضوابط والمسلمات.
طبعاً لن أسمح لنفسي بالانسياق وراء ما يجمع عليه الآخرون وأعي أن ذلك سيكلفني خسارة البعض أو رفضهم لمنهج الحرية هذا. كنت مع ذلك أشكّ كثيراً في مدى صحّة قناعاتي، إذ لم يكن يقلقني البتة أن ترسم على الجدران أو أن تلطخ المكان من حولها بالألوان أو أن تستمتع شبه عارية بملابسها في المنزل. يقولون إننا مسؤولون عن بناتنا وسنحاسب يوم الحشر عن طريقة لباسهن وجلوسهن وحشمتهن. طريقة جلوس الفتاة محددة سلفاً طبعاً، عليها ألا تجلس فاتحة ساقيها خاصة أمام رجال العائلة حتى المقربين منا. وكنت أتلقى نظرات توبخني وتوجهني نحوها وكأن النظرة تنبهني بخطر داهم. أتجاهل وابتسم.
يقولون إننا مسؤولون عن بناتنا وسنحاسب يوم الحشر عن طريقة لباسهن وجلوسهن وحشمتهن. طريقة جلوس الفتاة محددة سلفاً طبعاً، عليها ألا تجلس فاتحة ساقيها خاصة أمام رجال العائلة حتى المقربين منا
تنصحني إحداهن بالضرب وتحدد مناطق بعينها، لا بأس بالضرب على ساقيها أو على مؤخرتها. تزجرني أخرى عندما تحاول ابنتي أكل شطيرة إضافية. يقولون إن الطفل الذي يتناول مثلاً قطعة حلوى على الملأ هو طفل غير مؤدب كان عليه أن ينتظر خروج الغرباء أو ربما سرقة قطعة الحلوى من المطبخ خلسة وبهذه الطريقة لن يقال عليه إنه ليس مؤدباً وستفخر به والدته التي عرفت جيداً كيف تربيه. لم أقتنع يوماً بكل هذا الضغط على الأطفال. نضع الحلوى أمامهم ونمنعهم عن تناولها ونسمح لهم في نفس الوقت باختلاسها؟ المهم هنا هو ما يقوله عنا الآخرون.
كنت مهووسة بتعليمها فنون المغايرة وساعدني في ذلك انتماؤنا أنا ووالدها لمنطقتين مختلفتين رغم التقارب الجغرافي. حب ابنتي للدمى عظيم. وفي الأثناء، حرصت على تنويعها حتى لا يرتسم الجمال بلا وعيها رهين بياض البشرة وزرقة العينين أو مرتبطاً بخصر نحيل وطول معين. دمى مايا مختلفة تجمع بين الشقراء، والسمراء، والصغيرة، والكبيرة. وأعتبر حالياً أنني نجحت نسبياً في فتح خيالها على ممكن جمالي رحب وهو ما ألاحظه دائماً. فهي تعي رغم صغر سنها بأن مقاييس الجمال لا تحدد سلفاً ولا تستغرب البتة الاختلاف.
ولا أحبذ الحديث عن النار والعقوبات الإلهية. أرفض حتى الزج بها في سجالات دينية مبكرة. ولا أقيّم سلوكياتها بثنائية حلال وحرام، بل بما هو فعل صائب أو خاطئ، والعقل هو الفيصل في هذا التقييم
ولا أحبذ الحديث عن النار والعقوبات الإلهية. أرفض حتى الزج بها في سجالات دينية مبكرة. ولا أقيّم سلوكياتها بثنائية حلال وحرام، بل بما هو فعل صائب أو خاطئ، والعقل هو الفيصل في هذا التقييم. وعلى عكس ما يظنه البعض أننا الدارسون للفلسفة لا نؤمن بالميتافيزيقيات، أحاول دائماً بعث الطمأنينة في قلبها الصغير وأخبرها أن الدعاء مريح وأن الرب جميل يحب الجمال فتدعو لي دائماً بالبقاء حذوها وتتمنى أن أعيش مئة عام وأكثر.
ابنتي واقعية جداً وهذا يدهشني أحياناً. تتشكل شخصية الإنسان في طفولة باكرة. الأطفال قادرون على مصافحة الحقيقة. فيض الدهشة بنظراتهم تلك طالما ألهمني وثبت رأيي بالمأسسة التي تطوّع الإنسان منذ صغره وتنتج منا ذوات متشابهة لولا المقاومة. كنت دائما أماً حريصة جداً على حماية تفرد مايا. ووجدتني في كل مرة في مأزق لأنها تتسلح بحجة الاختلاف ضدي أحياناً. كنت أحاججها جهراً وأضحك ملء الفضاء سراً.
نجحت حتى الآن في بلوغ ما أردته بغض النظر عما يريده الآخرون، ولكن الخوف من مجتمع يبيح رواده على مواقع التواصل الاجتماعي، ويدافع بعضه عن الاغتصاب بحجة اللباس، ويكفّر بعضُه بعضَه الآخر المختلف، مجتمع لا يقرأ. كل هذا يرعبني. ماذا ينتظر ابنتي وقد درّبتها على المطالعة والجرأة بالتفكير؟ لا أعلم هل أخطأت بحقها عندما خلّصتها من كل تلك المحظورات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين