شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أن تكوني أماً لفتاة في مصر

أن تكوني أماً لفتاة في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 1 نوفمبر 202207:54 ص

يأتي هذا النص كجزء من سلسلة نصوص ومقالات بعنوان "أن تكوني أماً لفتاة في البلاد العربية"، تكتبها كاتبات وصحافيات يعشن في بلاد عربيّة متنوعة، ويشاركن تجاربهن كأمهّات لفتيات في هذه البلاد.


أجلس بزاوية قائمة على سريري وأضع صغيرتي أمامي، تجلس بزاوية قائمة هي الأخرى بينما تتساقط حبات الماء من شعرها المبتل على قدمي فأشعر ببعض الضيق إثر متلازمة لا أعرف وصفها، بكراهية لمس الماء لبعض أجزاء جسدي.

أضع فوطة قطنية لتحميني من الماء المتساقط بينما أناقش معها الطريقة التي تود أن أقوم بتمشيط شعرها بها.

نستقر بالنهاية على تحديد تسريحة "كعكة".

أبدأ بتمشيط الشعر البني الداكن لصغيرتي بينما أغني لها:

"لما قالوا دي بنية 

قلت يا ليلة هنية

ده أنا هسميها ماريا

هتبقى نور عينيا

وهتملى الدنيا عليا"

تحريف بسيط - ليس بسيطاً في الواقع - لإحدى أشهر الأغاني الفلكلورية المصرية. حالفني الحظ أن يكون اسم ابنتي ملائماً لوضعه عبر سطورها، فأخرجتها بشكلها الجديد الذي لا أتردد في غناه لابنتي بالرغم من نشاز صوتي.

كل ما علي فعله هو تقديم الحب غير المشروط لابنتي وزعمها في مواجهة ثقافة المجتمع.

أعود بذاكرتي إلى ما قبل زواجي وأجد حلم الأمومة، حلم أن أكون أماً لفتاة، تحديداً لثلاث فتيات. لا أعرف السبب لأحلم بأن أكون أماً لثلاثة تحديداً، لكني أعرف سبب تفضيلي للبنات.

لظروف أسرية وعائلية، كان السبب في أكثر ما طالني من أذى هم ذكور، على اختلاف درجة قربهم مني وعلى اختلاف درجة الأذى المتسببين لي به.

البعض كان أذاه لا يتعدى كلمات جارحة وعتاباً وقحاً بحجة كبر السن. بالطبع، لا يمكنك سوى ابتلاع سم كلامهم فتبتلع الإهانة والمذلة ليظل أذاها يطولك لسنوات طويلة، بينما وصل أذى البعض الآخر حد الضرب والتطاول الجسدي والتعدي بألفاظ بذيئة لأنني فتاة يجب أن تجد من يقوّمها. كان يحدث الضرب والتعدي بمباركة أو لنقل بعتاب خفيف يتضمن الموافقة الضمنية على وجوب تقييم الفتاة.

حينها، كنت أرى أن سبب كل شر في الحياة لا بد أن يصدر عن ذكر. لم أرد أن أضيف للعالم أشراراً بحمل أحدهم داخل رحمي.

قبل ثلاثة أعوام، عرفت بخبر حملي بعد شهر واحد من زواجي. لا يمكنني أن أصف شعوري حينها بالسعادة. لم أحزن بالطبع، ولكنها كانت الدهشة ربما.

بعدها، بدأت التنبؤات والانتظار لتحديد جنس الجنين. أخبرني كل من حولي بأنني أحمل بذكر، بينما وحدي كنت أعرف أنني أضم فتاة. مرت خمسة أشهر حتى تمكنت الطبيبة من معرفة أنني أضم إحدى حاملات البهجة والأنس في العالم. "بنوتة" هكذا أخبرتني الطبيبة بينما تحرك أحد الأجهزة على بطني بانتفاخه الصغير، لتطل على قلبي فرحة تجاوزت فرحة معرفة خبر الحمل نفسه.

في بداية الحمل، كنت من النساء القلائل - في الواقع كنت المرأة الوحيدة التي أعرفها - اللاتي كن يضقن بسبب عدم زيادة أوزانهن. أتذكر أنني كنت أدعو الله: "يا رب بطني تكبر وتظهر عليا آثار الحمل". وعندما استجاب الله لي بعد نحو سبعة أشهر وبدأ وزني يزيد بطريقة غير متوقعة، إذ ثقلت حركتي وصعب النوم لدرجة الاستحالة، كنت أفرح وأتخيل نفسي وأنا أحكي لابنتي يوماً عما حدث معي في حملها.

أتخيل ابنتي في نهاية المراهقة بجدائل شعرها المعقودة تسألني عن أحد الأمور الخاصة بالحمل والولادة، وأجيبها باستفاضة وبطريقة عملية بينما تداعب قلبي الفرحة بأن ابنتي كبرت.

لم أستطع يوماً أن أسأل أمّي عما يدور بخاطري من أسئلة محرجة، كما أنني لم أر بعينها يوماً أني جميلة. اتخذت قراراً بأن أتجنب كل تلك الأمور مع ابنتي لتنشأ سوية نفسياً على قدر استطاعتي

صرت لا أتخيل الفرحة بينما أشعر بها فعلياً، أتخيلها مثل الزغزغة التي أصابت قلبي عندما عادت ابنتي ذات الثلاثة أعوام من الحضانة قبل أسبوعين لتخبرني: "ماما أنا عاوزة ألبس الفستان الأبيض بكرا، عشان محمد بيحبه". أخبرتني بعدها بأن محمد هو أحد أصدقائها الذي أخبرها بأنها تبدو جميلة عندما ترتدي ذلك الفستان. أقول لها بأنها جميلة في كل وقت، بينما أحكي لأبيها عما حدث ليخبرني بأننا "هنشوف أيام زي الفل".

كانت أمي امرأة حازمة للغاية. لم أستطع يوماً أن أسألها عما يدور بخاطري من أسئلة محرجة، كما أنني لم أر بعينها يوماً أني جميلة. اتخذت قراراً بأن أتجنب كل تلك الأمور مع ابنتي لتنشأ سوية نفسياً على قدر استطاعتي.

ولكنها الأقدار التي لا تجعلك تطال كل ما تتمناه. فبينما أسعى لمذاكرة دروس في التربية، ومطالعة كل الكتب الحديثة والقديمة في سبل التربية، وأقف على تفسير كل موقف لابنتي حتى لا يتسبب لها في أي أثر نفسي ضار، تأتي كل الحوادث المجتمعية التي تزلل قلوب الأمهات، وكل الظروف المحيطة التي تجعل الكلمة العليا للخوف.

الخوف والقلق حليفان في الأمومة، تقلق الأم دائماً على أطفالها مهما اتخذت من إجراءات وإن لم تبين ذلك القلق.

فكيف هو حال أن تكوني أماً لفتاة في مصر؟

لا يحتاج الأمر إلى البحث عن مصادر وإحصائيات معتمدة سواء من جهات حكومية أو غيرها لتعرفي مدى رداءة الوضع الذي تعيشه النساء في مصر.

لا يحتاج الأمر إلى البحث عن مصادر وإحصائيات معتمدة سواء من جهات حكومية أو غيرها لتعرفي مدى رداءة الوضع الذي تعيشه النساء في مصر.


منذ ما يقارب الشهر، وصلتني رسالة عبر الإيميل الشخصي من أحد المواقع التي أعمل بها بعنوان رسالة "هام وعاجل". أفتح الرسالة لأجد طلباً بكتابة مقال عن تفصيل حادثة بشعة مقتل فتاة أمام بوابة جامعة المنصورة على يد زميل لها. السبب المعروف أنه أحبها فرفضته ثم قتلها. أقرأ أخبار الجريمة لأردد: "يا قلب أمك يا بنتي".

تصيبني تلك الجريمة بحزن شخصي، حزن قريب للغاية. ربما لأنني أسكن في بلدة قريبة من جامعة المنصورة، أو لأن بلدتي نفسها تقع بالقرب من الواقعة، حيث يقيم القاتل والمغدورة، أو لأنني تخرجت من جامعة المنصورة نفسها وترددت لسنوات طويلة على تلك البوابة، ووطأت قدماي ذلك المكان، أو لأنني أم لفتاة تتمنى ذات يوم أن تخبرها ابنتها عندما تداعب شرارة الحب قلبها أو تخبرها عن الولد الذي أبدى إعجابه بها بينما هما في أحد الدروس الخصوصية.

منذ وقت ليس بالقصير، عرفت أنني أعاني من متلازمة نفسية تسمى بالإنكار، وهي إحدى الوسائل الدفاعية النفسية التي يلجأ إليها المرء بصورة غير واعية لحماية نفسه من الصدمات المحيطة به، فيشعر بأن كل المصائب تحدث في عالم موازٍ وليس في عالمنا الحقيقي. لكن، تلك القصة المذكورة بالأعلى كانت قريبة لدرجة أنني لا يمكنني أن أنكرها.

قريبة لدرجة أن قلبي يشعر بخوف حقيقي وآلام لا يمكن إنكارها. لا يمكن لأي أم في مصر ألا تخاف على ابنتها، لأننا مجتمع لا يحب النساء. تلك حقيقة مجردة وغير قابلة للنقاش.

مجتمعنا غير آمن على الجميع لكن هناك ثقافة مجتمعية مفادها أن النساء أضعف وأقل قدرة على حماية أنفسهن ولا بد لأي أنثى من وجود ذكر في حياتها يحكمها، مما يجعلها أكثر عرضة للتعرض للعنف والاستبداد وبمباركة مجتمعية.

أن تكوني أماً لفتاة في مصر يفرض ذلك عليك تحديات لا تنتهي، بداية من أن تتعلمي طريقة صحيحة لتتمكني من الحزم في بعض الأوقات. ومع ذلك، عدم خلق باب سد بينك وبين ابنتك ليمكنها أن تبوح لك بكل ما في نفسها، حتى أن تدعمي ابنتك في بعض القرارات التي تعلمين مقدماً أنها لن تجلب لها سوى المتاعب.

أن تكوني أماً لفتاة في مصر يفرض ذلك عليك تحديات لا تنتهي، بداية من أن تتعلمي طريقة صحيحة لتتمكني من الحزم في بعض الأوقات. ومع ذلك، عدم خلق باب سد بينك وبين ابنتك ليمكنها أن تبوح لك بكل ما في نفسها

عندما فكرت في كتابة تلك الكلمات، كان القلق يعتصر قلبي - وما زال في الواقع - لكنني الآن أعرف أنه لا يمكنني التفكير سوى بما يمكنني فعله. لا يمكنني أن أغير المجتمع بين عشية وضحاها لكن ما أقدر عليه هو أن أغير بعضاً من علاقة الأم بابنتها.

كل ما علي فعله هو تقديم الحب غير المشروط لابنتي وزعمها في مواجهة ثقافة المجتمع. أن أعلمها بأن جسدها حق لها لا يجوز لأحد النظر إليه بطريقة تؤذيها فضلاً عن لمسه. أن أتحمل معها بعض الآراء وأحاول ممارسة فعل الإنكار في كل ما يحدث للفتيات في مصر، أو أطلب من الله - ولا يكثر عليه - أن يتم سن قوانين تحمي ابنتي في المستقبل.

في النهاية، تفرض علينا الحياة الوجود. وإلى أن يحين وقت الفناء سأبقى أماً محبة داعمة تدعو لابنتها بالسعادة في كل حين بينما يدعو قلبها المغلف بالقلق "ربنا يكفيكي شر المستخبي يا بنتي".


*السلسة هي بوحي من هذا النص للكاتبة المصريّة، دينا خالد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فعلاً، ماذا تريد النساء في بلادٍ تموج بالنزاعات؟

"هل هذا وقت الحقوق، والأمّة العربية مشتعلة؟"

نحن في رصيف22، نُدرك أنّ حقوق المرأة، في عالمنا العربي تحديداً، لا تزال منقوصةً. وعليه، نسعى بكلّ ما أوتينا من عزمٍ وإيمان، إلى تكريس هذه الحقوق التي لا تتجزّأ، تحت أيّ ظرفٍ كان.

ونقوم بذلك يداً بيدٍ مع مختلف منظمات المجتمع المدني، لإعلاء الصوت النسوي من خلال حناجر وأقلام كاتباتنا الحريصات على إرساء العدالة التي تعلو ولا يُعلى عليها.

Website by WhiteBeard
Popup Image