شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"والد عشيقي أدخلني السجن"... المثليون التونسيون أمام مواجهة المجتمع أو اللجوء إلى الخارج

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

عادةً ما يجنح البعض إلى تصوير المثلي في صورة وهميّة لرجل "ناعم" يتشبه بالنساء قلباً وقالباً، وفي هذا تجاهل واضح لكون هذا "التمثيل المجازي" ليس سوى أفكار نمطية تخفي وراءها جنسانيةَ وحياةَ فئة بأكملها موجودة فعلاً في مجتمعنا.

ليس بعيداً عن العاصمة تونس، تحدّث أحد الشبان (اختار لنفسه اسم مراد)، لرصيف22. الشاب الذي يبلغ من العمر 23 عاماً، اكتشف ميوله الجنسية، مع بداية وعيه لذاته، قائلاً إنه فهم أنه مثلي جنسي منذ ما يقارب العشر سنوات، وإنه يقضي وقته الخاص والحميم مع أحد أصدقائه سراً حتى لا يُفتضح أمرهما، خاصةً أمام والد رفيقه الذي يشغل منصباً مهماً في إحدى المؤسسات الأمنية. 

محنة مثليي الجنس في تونس

"لأن الأقدار لعبت دوراً في كشف المستور، فطن والد صديقي سابق الذكر لميول ابنه، لكنه قرّر تحميل "المسؤولية" كاملةً لي"، يحكي مراد الذي بات في نظره وصمة عار وسبباً في "انحراف ابنه عن الطريق السوي"، وفق تعبيره. يقول مراد: "منذ تلك اللحظة، أي سنة 2019، تحولت حياتي إلى جحيم وأضحى السجن في نظر والد صديقي عبارةً عن آلية للانتقام مني".

"مورست عليّ أقسى أنواع العنف المادي والجسدي، وتم إيقافي تحفظياً لفترة طويلة، ثم سُجنت ستة أشهر متتالية من دون أي تهمة، لا لشيء إلا لأني تعاملت مع ميولي الجنسية بعفوية، فوالد صديقي تعمد تحريض المساجين الذين تعاملوا معي كأنثى وحاولوا اغتصابي، زد على ذلك كمّ الضرب والتحقير الذي سلّطه الأعوان ضدّي وحلقهم لرأسي رغماً عني". بهذه العبارات -التي غلبت عليها نبرة الغضب- وصف مراد ضعفه منذ اكتُشف أنه من أفراد "مجتمع الميم"، الأمر الذي أجبره على البحث عن مخرج ينقذه من صعوبة تقبّل أبناء بيئته وأبويه لكونه شخصاً ذا ميول مخالفة لما يراه مجتمعه "طبيعياً".

أضاف عبر مكالمة هاتفية جمعته برصيف22: "لقد كان الحل الوحيد أمامي هو أن أجمع ما تيسّر من النقود وأبحث عن أحد منظمي الهجرة غير النظامية، وهو ما تم بالفعل فقد تمكّنت من ‘الحرقة’ عبر صفاقس إلى ألمانيا، وأُعدّ اليوم طالب لجوء ولدي جلسة في محكمة ألمانية قريباً. قبل أن يكتشف والدي ما أعيشه من تضييق وضغط نفسي، كانت والدتي هي الشخص الوحيد الذي كان على دراية بما عايشته، وظلت إلى حد اللحظة تخفي ما حدث أمام الأهل والجيران. وكانت هي المحامي والمتستر والسند الذي أبى أن يتخلى عني بالرغم من العقلية المحافظة الراسخة لديها وبالرغم من غياب أي إحاطة نفسية أو مساندة من أي جمعيات أو منظمات تزعم أنها تدافع عن حقوق المثليين".

"مورست عليّ أقسى أنواع العنف المادي والجسدي، وتم إيقافي تحفظياً لفترة طويلة، ثم سُجنت ستة أشهر متتالية من دون أي تهمة، لا لشيء إلا لأني تعاملت مع ميولي الجنسية بعفوية"

لعل هذه الشهادة مجرّد قطرة ماء وسط بحر من أفراد مجتمع الميم الذين يبحثون عن اعتراف مجتمعي بهم وبوضعهم كفئة هُضمت حقوقها أمام العادات والتقاليد والعقبات التي يواجهونها كتجريم سلوكهم الجنسي وهوياتهم الجندرية غير النمطية، ورفضهم أسرياً وعدّهم "وصمةً اجتماعيةً"، واعتقالهم تعسفياً وإساءة معاملتهم، بالإضافة إلى العنف والقيود المفروضة على حريتهم في التعبير في ظل قصور محاولات الدفاع عنهم من قبل المنظمات والجمعيات التي تُعنى بالدفاع عن الحقوق الجنسية والجسدية للأقليات المهمشة في تونس.

حقوق تحت تهديد التشريعات... أما بعد

يرى المحامي ومؤسس منظمة شمس للمثليين، منير بعطور، في تصريح لرصيف22، أن حقوق مجموعات "الميم عين+" تحت تهديد التشريعات، فبالرغم من أنّ دستور سنة 2014 يضمن الحقوق والحرّيات، إلّا أنّه غالباً ما تُناقضه بعض فصول القانون الجنائي مثلما هو الحال بالنسبة إلى الفصل 230 الذي يجرّم المثلية الجنسية.

سجلت جمعية شمس، حسب آخر تقرير لها لسنة 2022، حول التضييقات المسلّطة ضد فئة المثليين -والذي حصل رصيف22 على نسخة حصرية منه- عدداً كبيراً من الانتهاكات بناءً على التطبيق والتفسير الضيق للمادة 230 من قانون العقوبات التونسي وهي الحالات الأكثر شيوعاً التي يتم فيها الحكم على المثليين والمتحولين جنسياً بناءً على توجهاتهم المثلية وليس على علاقاتهم الجنسية.

يقول المحامي بعطور، إن سلطات الطب الشرعي في تونس مستمرة في فرض الفحوصات الطبية الشرجية للحالات بموجب أمر من المحكمة لإثبات فعل الاختراق الجنسي الشرجي على الرغم من مخالفة المادة 23 من الدستور التونسي الذي يكفل واجب الدولة في حماية كرامة الإنسان والحرمة الجسدية ومكافحة التعذيب المعنوي والمادي.

تبعاً لما سبق ذكره، تصنَّف الفحوص الشرجية القسرية كشكل من أشكال المعاملة القاسية والمهينة، التي تنتهك الجسد والخصوصية، وقد أكدت لجنة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب أنها "غير مبررة طبياً ولا يمكن الموافقة عليها بالكامل"، لخرقها اتفاقية مناهضة التعذيب، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.

كفالة بالدستور... وعقاب بالقانون!

يرى المحامي منير بعطور، أن المشرّع التونسي غيّب النصوص القانونية التي تضمن مجموع الحقوق والحريات التي تضمن أدنى سبل العيش الكريم لهذه الفئة.

إذ إن الدولة ترفض الاعتراف بهذا الحق، وهو ما ترتبت عنه عقبات عدة تؤثر في طبيعة معيشة المثليين والمتحولين جنسياً والعابرين للجنس وغيرهم كصعوبة الحصول على وثائقهم الرسمية بعلة مظهرهم المخالف للجنس المشار إليه في الوثائق الرسمية المعترف بها، وما يترتب عنها من انتهاكات حقوقية وعنف أمني لا سيما في أثناء حملات التحقق من الهوية في الأماكن العامة أو في أثناء الاعتقالات والتحقيقات في قضايا أخرى مختلفة.

سلطات الطب الشرعي في تونس مستمرة في فرض الفحوصات الطبية الشرجية للحالات بموجب أمر من المحكمة لإثبات فعل الاختراق الجنسي الشرجي على الرغم من مخالفة الدستور التونسي

مع أن التوقعات كانت تشير إلى إمكانية حصر أعداد المثلييين داخل التراب التونسي، إلاّ أن كلاً من جمعية شمس ومنظمة موجودين، نفتا وجود أي أرقام أو إحصائيات بهذا الخصوص نظراً إلى تخوف هذه الفئة من الظهور إلى العلن والتعرض للممارسات القمعية التي قد تؤثر سلباً على هويتهم المجتمعية.

بعد إقصائهم مجتمعياً... المسرح علاج مؤقت للمثليين

أمام ضغط المجتمع، أصبح العلاج النفسي عبر الإبداع محركاً للخروج من الصور النمطية للمجتمع، وخطوةً للمصالحة مع الذات. كانت مسرحية "فلاغرنتي" التي عُرضت خلال الأشهر الماضية للمخرجة التونسية الشابة آسيا الجعايبي، "علاجاً نفسياً" مؤقتاً لمجموعة من المثليين بالرغم مما خلّفته من جدل خلال عرضها الأول، لتكون أول تحدٍّ في مواجهة الصراع المرتبط بالهوية الجنسية يطال مختلف الأجيال والفئات.

فتحت المسرحية مجال التعبير لفئة يحكم عليها المجتمع التونسي بالإقصاء ويرفض التعايش معها، ويصمها بـ"العار" ليسود الصمت داخل المجتمع وحتى العائلات التي تضم هذه الفئة المجتمعية.

هذا الخروج إلى العلن تواكبه كراهية شديدة لمجتمع الميم عين، إذ يعتقد جانب من التونسيين أن القوانين العقابية ضد المثلية الجنسية ضرورية من أجل خفض عددهم أو حتى القضاء عليهم، فيما يرى آخرون أنهم مجرد أشخاص يعانون خللاً هرمونياً يجعلهم أكثر أنوثةً وينظرون إليهم على أنهم ليسوا إلا مدعاةً للضحك، وهذه الصورة المغلوطة ترسخها بعد الإنتاجات التلفزيونية. ولعل شخصية "ميدو" في سلسلة "شوفلي حل"، قد كرست هذه النظرة وقولبت صورة المثلي لهدف السخرية والإضحاك.

إلا أن هذا التصور قد نما في تونس بموازاة تصوّر آخر، أكثر تطرفاً، يذهب إلى القول بأن المثليين ليسوا إلا "شرذمةً من الملحدين المرضى عقلياً ونفسياً"، ولا يستحقون "إلا السب والنبذ"، وهذا يدخل في خانة التمييز على أساس الهوية الجنسية بحسب منظومة حقوق الإنسان الدولية.

توصيات "شمس"... هل تُجدي نفعاً؟

على ضوء ما سبق، طرحت جمعية شمس جملةً من التوصيات أهمها إصلاح النصوص القانونية وإعطاء صلاحيات مطلقة للشرطة القضائية في علاج الحالات المتعلقة بالمجتمعات الضعيفة، مثل المادة 125 من قانون العقوبات، من خلال المزيد من حماية الأشخاص الموقوفين أو المسجونين ضد أيّ نوع من أنواع التعسف، وتعزيز آليات مراقبة ضباط الشرطة باعتماد أجهزة مراقبة صوتية أو مرئية، وتمكين منظمات المجتمع المدني من ممارسة مهامها في متابعة ومعاينة ظروف الاعتقال والسجن للأشخاص الذين ينتمون إلى المجتمعات الضعيفة -على وجه الخصوص مجتمع "الميم عين"- من أجل إضفاء الشرعية على التقارير  والأوراق المعتمدة كبيانات في النيابة وتنفيذ العقوبات.

كما اقترحت الجمعية، في تقريرها السنوي، إنشاء مرافق استقبال خاصة بالأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية، من خلال وضع آليات للتواصل والاستقبال المباشر مع الطاقم الطبي وشبه الطبي العام والإدارات المختلفة للتأكد من معاملتهم معاملةً إنسانيةً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

الأفراد في مجتمعاتنا مختلفون/ ات، ومتنوعون/ ات، وكي نبني مجتمعات كريمةً وعادلةً، لا يسعنا سوى تقبّل هذا الاختلاف والبناء عليه، واحترام قيمة الإنسان في الدرجة الأولى. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، فهي جديرة بأن تُروى. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard