خلال العقدين الأخيرين، تقلصت فرص زيارة الأطفال للأماكن الطبيعية، وأصبحت فسحاتهم تقتصر على الذهاب إلى المطاعم والمقاهي برفقة أسرهم، ممسكين بهواتفهم الذكية التي لا تفارقهم، أو إلى أماكن الترفيه المغلقة أو ما يطلَق عليه اسم "Kids Area"، الأمر الذي دفع بعض الأسر لإيجاد متنفس آخر لأبنائهم والعودة بهم إلى أحضان الطبيعة.
وفي كانون الثاني/ يناير الماضي، دقّ مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري، ناقوس الخطر من الآثار السلبية التي قد تترتب على استخدام الأطفال المفرط للهواتف الذكية، إذ ذكر أن "78% منهم يعانون من آثار نفسية بعد مشاهدة الرسوم المتحركة، في وقت يمتلك 62% من أطفال مصر هواتف ذكيةً أو أجهزةً لوحيةً خاصةً بهم".
أمنية سليمان، وهي أم لأربعة أبناء، تقول إنها اعتادت منح أطفالها الهواتف الذكية بهدف المرح والتسلية، إلا أن الأمر تحول إلى إدمان لهم ولها، بعدما كان بمثابة متنفس لها عندما تتثاقل عليها الضغوط اليومية.
خلال العقدين الأخيرين، تقلصت فرص زيارة الأطفال للأماكن الطبيعية.
تضيف السيدة التي تقطن في محافظة الإسكندرية، لرصيف22: "بدأت ألاحظ تغيّرات سلوكيةً سلبيةً تلاحق أبنائي جرّاء مشاهدة مقاطع الرسوم المتحركة، والتي تراوحت مدتها يومياً ما بين 2 إلى 6 ساعات، ومن تلك التغيّرات ازدياد نوبات الغضب التي باتت لا تتوقف، بالإضافة إلى التأخر اللغوي لطفلي الأصغر الذي يبلغ من العمر 4 سنوات".
الإشباع الكاذب
تقول رقية عمارة، وهي استشارية نفسية وتربوية، إن الأهالي يقعون تحت ضغط شكوى الأطفال الدائمة من الملل، مما يضطرهم إلى تركهم معظم ساعات اليوم يحملقون أمام الشاشات، لكن ذلك يصيبهم بمشاعر سلبية، بسبب شعورهم بانعدام القيمة، الذي يظهر في شكل نوبات غضب.
تضيف عمارة، خلال تصريحات لرصيف22: "الهواتف تُحدث ما يُسمّى بالإشباع الكاذب، الذي يرتبط بحاجة العقل إلى تغيير النشاط، عن طريق خداعه بالتنقل ما بين الألعاب الإلكترونية وأفلام الكرتون، لكن ذلك يؤدي إلى مضاعفة الشعور بالملل". وتتابع: "يرى الأطفال المعتادون على حمل الهواتف أنها الطريقة الوحيدة لكسر الملل، بينما نجد أن الأطفال الذين لم يتعلقوا بالهواتف، شعورهم بالملل أقلّ؛ لأن عقلهم حرّ يفكر في وسائل حقيقية وطرق مبدعة لإشباع حاجته".
وضمن السياق نفسه، تقول هاجر فتحي، وهي أم لطفلة: "لا يوفر لنا المحيط العام أماكن تجذب انتباه الطفل. حتى في أماكن الترفيه الملحقة بالمقاهي والحضانات، نجد الألعاب مكررةً والأطفال يمسكون بالهواتف، ويدخلون في نوبات غضب عند رفضنا إعطاءهم إيّاها".
التعرف على الطبيعة
في منطقة أبيس، إحدى مناطق الظهير الريفي لمدينة الإسكندرية شمال مصر، نجد مساحةً مقطوعةً عن عالم الهواتف الذكية، يُحاط الأطفال فيها بأشجار الموز، وتجاورهم نباتات الريحان برائحتها الفواحة، وعلى غير العادة نجدهم غير جالسين، فهم يتسابقون لإطعام الحيوانات الأليفة، بعد عودتهم من رحلة عربة "الكارو" وزيارة إحدى الأراضي الزراعية المجاورة.
أنشطة مختلفة أصبح الأطفال يتمكّنون من ممارستها، بعدما أطلقت إيمان نبيل، وهي أخصائية نفسية، مشروع "مساحة خضرا"، منتصف عام 2020، ليكون فرصةً حقيقيةً لأطفالها وللأطفال الآخرين لتنمية مهاراتهم، من خلال التعرف بأنفسهم على الطبيعة بعيداً عن الهواتف الذكية.
تحكي إيمان، وهي أم لطفلين، ومتخصصة في مجال العلاج الوقائي من خلال ورش الحكي، لرصيف22، أن المشروع بدأ بمغازلة خيالها منذ الصغر، حين كانت تحرص والدتها في كل عطلة أسبوعية على اصطحابها برفقة أخواتها لاكتشاف الطبيعة، والتعرف على الأماكن الريفية. حتى في أوقات السفر إلى خارج مصر، كانت تحرص أيضاً على زيارة الأماكن الطبيعية، وعندما أرادت تكرار تلك التجربة مع أولادها، واجهتها مشكلة عدم وجود أماكن مناسبة، بجانب تعلّق أطفالها بالهواتف الذكية بالرغم من تقنينها للأمر على حد قولها.
تلك الأسباب دفعت السيدة إلى البحث في مواقع التواصل الاجتماعي عن "غيط زراعي"، يسمح لها بقضاء يوم ريفي، لتعريف أولادها على المزروعات والحيوانات بشكل قريب، وتتابع: "وجدت مكاناً فيه حيوانات مثل الأبقار والجواميس والحمير. أطفالي تفاعلوا معهم وفرحوا في ذلك اليوم، بعدها عرضت عليّ صاحب المكان استئجاره، وبدأت بالمشروع".
لا يوفر لنا المحيط العام أماكن تجذب انتباه الطفل. حتى في أماكن الترفيه الملحقة بالمقاهي والحضانات، نجد الألعاب مكررةً والأطفال يمسكون بالهواتف، ويدخلون في نوبات غضب عند رفضنا إعطاءهم إيّاها
أركان وأنشطة
قسّمت صاحبة المشروع قطعة الأرض التي تبلغ مساحتها ما يقارب 250 متراً مربعاً، إلى أركان، منها ركن مخصص لإطعام الحيوانات الأليفة، وركن للّعب بالرمل والطين، وثالث مخصص للكتب. وفكرت في أنشطة مثل خروج الأطفال برفقة الأهالي للاستمتاع برحلة عربة "الكارو" الخشبية، وزيارة غيطان البرسيم، وتعلّم مبادئ الزراعة، وإطعام الخراف والماعز.
تقول إيمان، إنها تتبعت احتياجها الشخصي إلى توفير مكان آمن يساعد الأهل أيضاً للجلوس بأريحية، من دون وضعهم تحت أي ضغط، كما أن المكان يمنع تناول الأطعمة المغلّفة غير الصحية، ويحظر التدخين.
وتستعين إيمان بجيرانها في المنطقة الريفية للحصول على الاستشارات الزراعية، وقد لاحظت استعدادهم الكبير لتقديمها إليها: "خلال فترة تجهيز المكان، كانت هناك سيدة لا أعرفها تمر من وراء سور الخوص، وتعطيني النصائح المجانية بمجرد ملاحظاتها شيئاً على غير ما يرام، فمثلاً كانت تجدني أسقي الأرض، فتقول لي ‘كفاية ريّ، سيبي الشمس تقوم بدورها’".
توضح صاحبة "مساحة خضرا"، أن جمال الطبيعة يجبر الأطفال على التفاعل معها، متناسين الهواتف الذكية، لأنه دائماً يوجد ما يثير اهتمامهم، الشيء الذي لاحظته بشدة في شخصية أطفالها، مردفةً: "أطفالي أصبحوا لا يجلسون على الأريكة مع الهاتف المحمول، بل أصبحت لديهم أنشطة حقيقية، طول الوقت يجرون وراء الفراخ، ويلعبون بالرمل، ويعومون في الطين، ويطعمون البقرة والجاموسة والحصان".
وتتابع: "يساعد المكان الأخضر على الاسترخاء، وأصبحت زيارته احتياجاً حقيقياً لدى الأسر. تزورنا أمهات كي ينمن بعمق فقط، وهن يشاهدن أطفالهن أمامهن يتفاعلون مع الطبيعة سعداء، فامتزاج أصوات الحيوانات مع الطبيعة يشجعهم على النوم والأكل".
واختتمت حديثها قائلةً: "أكون سعيدةً جداً وأنا أرى الأطفال يكبرون، ولديهم تجارب تُثري مداركهم وحواسهم".
منة الله المشيرفي، إحدى زائرات مساحة خضرا، تشير إلى أن المكان يساعد الأطفال في الاتصال بالطبيعة من قرب، خاصةً أنهم أصبحوا يقضون معظم أوقاتهم أمام الهواتف، وتابعت: "صاروا يعرفون أهمية الأرض، ويستنشقون هواءً نظيفاً، ويشاركون في قطف الفواكه والخضروات، وهذه الأمور كلها تخلق في دواخلهم حباً واهتماماً بالبيئة".
وتضيف السيدة، التي تعمل في المعهد القومي لعلوم البحار: "عندما نأتي لا نرغب في أن ينتهي اليوم. نركب العربة ونأخذ جولةً في المكان. نقطف الطماطم والخيار والفلفل، ونرى مزارع الأرز، ومع الهواء النقي أشعر بأن رئتيّ تتفتحان".
ومؤخراً، تناولت العديد من الدراسات أهمية ممارسة الأطفال أنشطةً في المناطق الطبيعية، مع التأكيد على أن الأمر يعزز جهاز المناعة بشكل كبير لديهم، مقارنةً بالأطفال الذين يمارسون اللعب في المنزل أو في أماكن مغلقة.
قوة اللعب مع الطبيعة
جنوب الإسكندرية، وتحديداً في مدينة الشروق شرق القاهرة، أسست نهى إبراهيم، وهي ميسّرة تعليم حر، مساحة "الفنار" قبل ثلاث سنوات، "لإيجاد مجتمع لأبنائها يتمكنون فيه من اللعب مع الطبيعة بشكل منتظم بعيداً عن الشاشات الإلكترونية، وتوفير بيئة تساعد على نمو الشغف بالعلم القائم على الطبيعة واللعب"، وفق ما تقول.
وتعتمد العملية التعليمية داخل مجتمع الفنار على منح الأطفال ابتداءً من عمر 3 سنوات، مساحةً آمنةً نفسيةً وجسديةً لاستكشاف حواسهم مع الطبيعة، مثل مشاهدة حشرات الأرض، والزراعة واللعب مع الحيوانات وصناعة الفخار، وتُنفَّذ جميع الأنشطة بمساعدة مُيسّرين/ ات، لدعم اختيارات الطفل في التعلم، بعيداً عن المحتوى التعليمي الواحد والاختبارات الموحدة، أو اللجوء إلى العادات الضارّة مثل الجلوس خلف شاشات الهواتف.
أطفالي أصبحوا لا يجلسون على الأريكة مع الهاتف المحمول، بل أصبحت لديهم أنشطة حقيقية، طول الوقت يجرون وراء الفراخ، ويلعبون بالرمل، ويعومون في الطين، ويطعمون البقرة والجاموسة والحصان
وتضيف مؤسسة الفنار، في تصريحها لرصيف22: "يزورنا أطفال لديهم نقص في التعامل مع الطبيعة، وليست لديهم مهارات إدراكية لحدود جسمهم وحدود المكان، لكن المشكلات السلوكية تقلّ أو تختفي بمجرد انطلاق الطفل ولعبه بالرمل والطين والمياه".
وتوضح أن هناك مهارات مهمةً يجب أن يحصل الأطفال عليها قبل سنّ السابعة، من خلال تعاملهم المباشر مع البيئة، منها مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي، ومهارات إدارة الذات والمشاعر، بالإضافة إلى المهارات الحركية وغيرها.
واختتمت حديثها قائلةً: "في نهاية كل يوم، أكون ممتنةً لوجود تلك الأماكن لأطفالي والأطفال الآخرين، إذ أصبح لهم مجتمع للّعب مع الطبيعة. نقوم بعمل دائرة للحديث عما أحبّه الأطفال، ودائماً ما يبدون إعجابهم بالزراعة والحيوانات كثيراً، وقد يقضون اليوم كاملاً في اللعب مع الحصان".
وتوجه نصيحةً إلى الأهل بأهمية زيارة الأطفال الدورية للحدائق العامة وتركهم للّعب مع الطبيعة، أو حتى تجريب هذا النوع من الأنشطة في المنزل، مشيرةً إلى أن تغيّر اتجاه الأطفال نحو اللعب مع الطبيعة وترك الألعاب الإلكترونية لا يقتصر على الجهود الشخصية للأسرة، بل يحتاج إلى تغيير ثقافة المجتمع لدعم تلك الجهود؛ لأن الطفل في نهاية الأمر فرد من أفراد المجتمع ويتأثر به.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...