شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
ابتهالات ومواكب و

ابتهالات ومواكب و"شربات بالموز" في احتفالات المصريّين بـ"مولد النبيّ"

حياة نحن والتنوّع

السبت 8 أكتوبر 202204:26 م

تحتل ذكرى مولد نبي الإسلام موقعاً خاصاً في الثقافة الشعبية المصرية التي تنتهز كل فرصة ممكنة للاحتفال. فمنذ حكم الفاطميين لمصر (969 – 1170 ميلادية) بدأت المواكب السنوية للاحتفال بذكرى ميلاد النبي محمد، واستمرت منذ ذلك الحين من دون انقطاع، عدا بعض السنوات التي اجتاحت فيها الأوبئة البلاد، أو خوف السلطات من القلاقل السياسية.

في هذا العام، وعلى الرغم من القرار الرسمي بإنهاء الإجراءات الاحترازية المتخذة ضد جائحة كورونا المستجد في يونيو/ حزيران الماضي، قررت السلطات المصرية منع الطرق الصوفية من موكبها السنوي للطواف بمساجد آل البيت، والذي ينتهي باحتفالية الذكر والإنشاد وإطعام الفقراء في الميدان المواجه لمسجد الإمام الحسين. ويأتي قرار السلطات متزامناً مع أزمة اقتصادية طاحنة، وتشدد أمني في شوارع العاصمة.

ولكن خارج العاصمة، تستمر الاحتفالات على النحو المعتاد، متخذة أشكالاً مختلفة بين الريف والحضر، عمادها التجمع والذكر وانتهاز كل فرصة ممكنة لانتزاع قبس من البهجة.

قررت السلطات المصرية منع الطرق الصوفية من موكبها السنوي للطواف بمساجد آل البيت، والذي ينتهي عادة باحتفالية كبرى في الميدان المواجه لمسجد الإمام الحسين، وذلك رغم إلغائها رسمياً لكافة الإجراءات الاحترازية ضد جائحة كورونا

مواكب "هيسا"  

كعادة كثير من القرى في مصر وخاصة في الصعيد، أطلق أهالي جزيرة هيسا النوبية دعوة للاحتفال بالمولد النبوي هذا العام، وظهرت الدعوة على فيسبوك، متضمنة أنشطة اليوم (السبت 8 أكتوبر/ تشرين الثاني 2022)، ومسيرة تبدأ بعد صلاة العصر يشارك فيها الأهالي والضيوف مرددين الأناشيد تصاحبها الزغاريد وتوزيع الهدايا على الأطفال، وتنتهي عند المغرب حين يتحلق الجميع حول وجبة العشاء المكونة من"الفتة النوبية" وحلوى "الأرز باللبن"، واعدين الحضور بالاستمتاع بأجواء روحية مبهجة.

موكب هيسا يتكرر على طول الصعيد، وبعض قرى الوجه البحري (دلتا مصر وساحل المتوسط)، وكان يتزامن عادة مع الموكب الأكبر للطرق الصوفية في القاهرة، المتوقف بقرارات تنفيذية منذ عدة سنوات. إلا أن المواكب التي ترتبط بالتصوف ليست المظهر الوحيد للاحتفال.

خارج العاصمة، تستمر الاحتفالات على النحو المعتاد، متخذة أشكالاً مختلفة بين الريف والحضر، عمادها التجمع والذكر وانتهاز كل فرصة ممكنة لانتزاع قبس من البهجة

شربات بالموز

قبل ثلاثين عاماً تقريباً، انتقل والدا داليا أحمد من إحدى القرى القريبة من محافظة الأسكنرية إلى الحاضرة التاريخية الواقعة على ساحل المتوسط. أخذت الأم معها عادات تربت عليها في قريتها الريفية للاحتفال بالمولد النبوي، ولكن في شوارع المدينة التي لا تنام، وجدت داليا عادات أخرى لا تقل "حلاوة" عن الكسكسي الذي اعتادت أمها أن تطعمها إياه في تلك المناسبة.

تحكي داليا لرصيف22: "المرحلة الثانوية كانت أول خطوة في رحلتي للخروج بعيداً عن محيط المنزل، لأكتشف عادة إسكندرية كنت أسمع عنها ولا أشاهدها. ففي واحد من الأسواق الشعبية التي مررت بها، تكرر مشهد استيقافي من قبل أصحاب المحال يوم مولد النبي، وتقديم كوب شربات الفراولة بالموز. ورغم اعتذاري عن قبوله، فإن المشهد جعلني سعيدة باستمرار".

في سوق "باكوس" بمحافظة الإسكندرية، يقف الشاب أحمد إسماعيل مع أقرانه من أبناء المنطقة لإعداد المشروب الرسمي للمولد النبوي، يفرغ زجاجات الشربات الأحمر في وعاء بلاستيك كبير، يُضيف إليه قطع الموز ويملأ زميله الأكواب البلاستيكية، ويحملها ثالث على صينية ليبدأ في توزيعها على المارة.

يقول سعيد لرصيف22 إنه تعلم الاحتفال بالمولد النبوي بهذه الطريقة منذ صغره، نقلها عن جده ووالده وكان يشاركهما في تجهيز المشروب وتوزيعه في طفولته، واستمر الأمر لينقل العادة للأطفال من أبناء المنطقة.

يؤكد أحمد إن هدفه من الالتزام بالطقس السنوي هو "إظهار التبسم، والتسامح، وغيرها من الأخلاقيات التي توضح الصورة الحقيقية للدين الإسلامي بعيداً عن الإرهاب".

و"كسكسي"

في الصباح الباكر من يوم المولد النبوي تستيقظ والدة داليا أحمد من الإسكندرية لإعداد وجبة "الكسكسي". على مدار سنوات صار الكسكسي الحلو من يد الأم هو أكلة مرتبطة بذكرى المولد النبوي في أذهان أبنائها. تقول داليا: "اعتدت على رؤية والدتي تستيقظ مبكراً في ذلك اليوم أياً كانت حالتها الصحية، فتخلط الدقيق بالخميرة والماء وتجلس محتضنة "الديارة" وبحركات دائرية تفرك كرات العجين بيدها ليتحول إلى حبات صغيرة وتُنهي تسويته أثناء تحضيرها لما يُصاحبه من أصناف الطعام سواء لحوم أو دواجن.

لم تتوقف الأم عن عادتها بعد زواج الأبناء، ووجدت نفسها - من دون قصد- تنقل العادة إلى الأحفاد، فيجتمعون يوم المولد ليتناولوا الوجبات ذاتها، بينما يُحضر الجد
وفي المنازل تهم النساء بطهو الكسكسي بكميات كبيرة لتوزيعها على الفقراء من أهل القرية وإطعام المشاركين في الموكب من المُنشدين والجمّالة، ويتبادلون الهدايا. ظل المشهد بتفاصيله يتكرر حتى 30 عاماً مضت - حسب حديث نورا لرصيف22

كما روت داليا عن عادة والداتها لطهو الكسكسي، حدثتنا نورا يحيى، وهي سيدة خمسينية من إحدى قرى الجيزة، متذكرة طقوس الاحتفال بالمولد النبوي في قريتها، تقول إنه كان ينطلق موكب كبير يضم عدة عربات "كارو" تُزين جميعها وتجوب أنحاء القرية حاملة المُنشدين يصحبها عدد من الجمال المُزينة وينضم إلى الموكب كل من يلتقيه من أهل القرية، ويُردد الجميع أناشيد مديح النبي (ص)، بينما يمر الموكب في وسط المنازل فيخرج أصحابها لمنح مبالغ مالية "نُقوط" للمُنشدين والجمّالة.


لم يبق من العادات بعدها سوى طهو الكسكسي الذي يطلقون عليه "المحمصة" فتجتمع نساء كل عائلة في بيت واحد لطهوه مع "البط أو الأوز" ثم توزع بعض الوجبات على الفقراء وتجتمع العائلة في نهاية اليوم على مائدة واحدة.

زفة المولد

في جنوب مصر فرضت النزعة الروحية نفسها على الاحتفال بالمولد النبوي، فرغم إقامة ولائم الطعام فإن هذه الولائم تأتي مُصاحبة للنشاط الأساسي للاحتفال الذي يختلف من محافظة لأخرى بين مواكب سيارة للمديح والإنشاد أو حلقات للذكر والابتهالات. أحمد جابر، 38 سنة، منظم برامج سياحية في أسوان، يقول لرصيف22 إن محافظته تشهد احتفاء خاصاً بالمولد النبوي فضمها لعدد كبير من الطُرق الصوفية أكسبها خصوصية شديدة في ذلك اليوم.

ما يقرب من ثلاثين طريقة صوفية تحتفل بالليلة الختامية للمولد النبوي الشريف في ساحاتهم المختلفة بمراكز المحافظة، "أسوان، دراو، كوم امبو، ادفو، نصر النوبة، وأبو سمبل" - حسب رواية جابر لرصيف22-. تبدأ الاحتفالية بالاستماع للقرآن الكريم، ثم الإنشاد والمديح لكبار المُنشدين أمثال الشيخ ياسين التُهامي وأولاده، والشيخ أمين الدشناوي، ويمتد الاحتفال حتى الصباح، موضحاً أن الموكب الكبير الذي يُطلق عليه "زفة المولد" يكون في مدينة أسوان.

 في البداية كانت تجتمع الطرق الصوفية المنتشرة في المدينة في ساحة أرض المعارض التي تقع بجوار مستشفى الحميات والمسلة الناقصة، وتنطلق في خط سير ثابت يتقدم موكبها العربات والأحصنة والأعلام الخاصة بكل طريقة بينما يردد المريدون المدح والورد الخاص حتى تصل  لمبنى المحافظة والعودة لساحة أرض المعارض مرة أخرى، وفي السنوات الأخيرة تغير المسار ليكون التجمع أمام مبنى المحافظة إلى ساحة أرض المعارض التي تخيم فيها الطرق الصوفية قبل الليلة الختامية بعدة أيام. يوضح جابر أن الاحتفالية تضم عشاء كبيراً يعتمد على "الفتة واللحم" ويوزع "أرز بلبن والعصائر وحلوى للأطفال".

اختلف الأمر قليلاً في محافظة الأقصر، ففي الأسواق الشعبية يتولى أحد الباعة تجميع مبلغ مالي على مدار العام يُخصص لنفقات الاحتفال بالمولد النبوي ما بين الفراشة، وأجر المُنشد، والطعام، وغيرها، يقول الدكتور معتز الصادق، 35 عام، من محافظة الأقصر إن الاحتفال يبدأ من غرة شهر ربيع الأول ويستمر 12 يوماً تُقام فيها احتفالات نهارية وأخرى ليلية. فبعد صلاة العصر تبدأ مباريات التحطيب، والمرماح وهي مسابقة خاصة بالخيول، وتشهد الفترة المسائية المديح.

بين مُقرئ للقرآن ومدّاح للنبي، صلى الله عليه وسلم، تختلف طريقة أهالي كل قرية عن جارتها، يوضح الصادق أن التحضير للفراشة يبدأ بعد صلاة العشاء ويُعد فيها منصة للمداح أو قارئ القرآن، وتُفرش الأرض بـ"السجاد" ويتحلق الحضور في حلقات يستمعون خلالها للمديح ويتفاعلون مع كلماته ويرددونها، وفي اليوم الأخير يُقام ما يُسمى بـ"الدورة" فيجتمع البعض بالخيول والجمال حاملين الدفوف ويرددون تكبيرات وهم يجوبون القرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image