الفرق المستقلّة في مصر، أو الملقبة بـ"الأندر جراوند"، تستخدم لغتها الموسيقية والغنائية الخاصة، متمرّدة على الاتجاه العام للأداء.
فريق "محمد بشير" أحد تلك الفرق، وما يميزه عن الآخرين اهتمامه باللون الجنوبي الصعيدي، وولعه أكثر بغناء النساء، نساء أسوان.
استمع لأغانيهن في الأفراح والمناسبات، وشكلت والدته وقريباته بدايات ولعه بهذا اللون.
وقد بدأ بشير الغناء من مسرح "جامعة القاهرة" مكان دراسته ، ثمَّ مسرح "الأوبرا"، ثم مشاركته كفريق مستقل بعيد الموسيقى الفرنسي، وأصدر أغاني منفردة، منها أغنية فيلم "أنت عمري" الشهيرة "بتميل" ، إلى أن أصبحت فرقته من أبرز الفرق التى تشارك بمهرجانات "الجاز" الإقريقية والعالمية فى أوربا للفرق المستقلة.
"غناء سري" لا يعرفه الرجال
معظم من استخدم الفلكلور في مصر مؤخراً اكتفى بغناء مقاطع لاتزال تتردّد في الأرياف وقرى الصعيد، مثل:"نعناع الجنينة"، و"دنيا يا دنيا "، و "بتناديني تاني ليه"، "وأنا كل ما أقول التوبة".
ما يميز تجربة بشير هو تعمّقه في "غناء سري" كانت النساء تغنيه بمعزل عن الرجال في أسوان، التي ينتمي إليها جغرافياً واجتماعياً، قبل أن يكون فنياً.
في حوار خاص لرصيف22 يتحدث محمد بشير عن تجربته مع غناء البنات السري.
"أمي بداية التجربة"
يقول بشير: "بدأت من أمي ثم جدتي وعماتي وخالاتي وبناتهن، مجتمع السيدات في "نجع الرمادي" بأسوان، ويمكن أن أختزل هذه العلاقة في مشهد "حوش" أو ساحة منزل عمتي، حينما نجتمع ونبدأ في الحكي والغناء".
يشدّد بشير على أن أمثال تلك الحالة التي خلقتها نساء أسوان، أخرجت موسيقيين لكنهم ظلوا في الجنوب، مثل عبد المقصود ابن عمته، عازف عود شهير في أسوان، وأحمد زوج عمته.
"نجتمع أنا وأمي وحدتي وعماتي وخالاتي وبناتهن في "حوش" منزل عمتي بنجع حمادي، جنوب مصر، ونبدأ في الحكي والغناء"
"اكتشفنا أن جزءاً كبيراً قد ضاع مع من رحل من السيدات الكبار، بسبب عدم التسجيل، وكذلك طقوس ضاعت مع الزمن، يمكن وصفها بالغناء السري للنساء"
يشرح بشير شكل الغناء الذي يتبناه: "هي أغان كانت النساء تغنيها بمعزل عن الرجال، لذلك هناك كم كبير مخفي من هذه الأغاني، وربما رحل هذا المخفي مع من رحلوا من السيدات، و ربما ضاعت تسجيلاتهم أيضاً، لقد حاولت كثيراً بمساعدة أصدقاء باحثين، مثل مها سمكة، العمل على مشروع أطلقنا عليه "كنز الستات" عن الأغاني في جنوب مصر، وعن أسوان بالتحديد، التي تجمع أطيافاً من القبائل العربية، مثل الجعافرة، والعبابدة والأنصار والعقيلات، فاكتشفنا أن جزءاً كبيراً قد ضاع مع من رحل من السيدات الكبار، بسبب عدم التسجيل، وكذلك طقوس ضاعت مع الزمن، يمكن وصفها بالغناء السري للنساء".
"كنز الستات" في الجنوب
يحكي بشير عن تجربة توثيق وتسجيل لهذا النوع من الغناء، يقول: "أتذكر أنه في عام 1995 عندما حاولت التسجيل في زفاف ابن عمي، قلت لوالدة العريس: أنت تدعين إحدى السيدات من الحفظة الكبار لأسجّل معها، فقالت لي: إنها تقول الكثير من الكلام الفارغ ، فأصررت على طلبي، لأني كنت أريد أن أعرف كيف يغنون وكيف يفكرون؟ فسجّلت معي فعلاً. تضمن التسجيل غناء موضوعات عن أولادها، عن العلاقة مع زوجها، حبيبها، أخوتها، وأبناء عمومتها، لكن كان هناك جزء كبير غائب، الغناء الذي لا نعلمه، لم تستطع غناءه".
لم يتوان بشير في البحث عن "كنز الستات"، رغم صعوبته، يقول: "أنفقت مجهوداً، لكن الجزء الأكبر كان في ذاكرتي، في وجداني، في الذاكرة السمعية. يوجد مخزون بداخلي مما عشته وأنا صغير، وهناك فترات كنت أذهب فيها لأسوان أسجل أو أجد غنوة في تسجيل قديم بالصدفة".
"المجهود الكبير في هذا يعود لصديقي إبراهيم عباس من "نجع هلال" في مدينة "إدفو"، بذل مشقة كبيرة لجمع هذا الموروث، وهو مشروع بدأناه سوياً منذ عام ألفين، وهو المشروع القادم قريباً، باستخدام خامات تصوير وتسجيل معينة، مجهود عشرين عاماً سيظهر قريباً للنور، وهو مشروع ولد بداخلي منذ زمن أيضاً".
وعن عمله في هذا الاتجاه الخاص بموتيفات النساء قديماً، يقول بشير: "على سبيل المثال أغنية "جنب بيت العمده"، أخذنا هذه الموتيفة الشعبية، عُدّلت من جديد ولحنت عليها أيضاً، عملت عليها بالكامل، عند مرحلة التسجيل في الاستوديو غيرنا في الكلام، وأصبحت غنوة "طير يا اللي طاير"، هذه في الأصل كانت أغنية للنساء تقول:
جنب بيت العمده ضربوا البنادق
جنب بيت العمدة ربطوا الركايب
وهناك غنوة أخرى عملت عليها أيضاً مع الشاعر خالد أمين والملحن أحمد الصاوي، في بداية مشواري، اسمها "خير يا اللي بخيري مساك به"، كانت تغنيها مطربة جميلة عندنا في أسوان، رحمها الله، كان اسمها "برسيه"، وكنت سجّلت لها في زفاف لأحد أبناء عمومتي تقول:
خير ياللي بخيري مَسّيتي مَسّاك به
خير يا عود القرنفل مَسّاك به
بحرين و التالت علشانك عديته ..بحرين
بدلة و قميصي راحة أبات في البرد ..راح أوهب لك
روحى وجدتها وكل العمر اللي راح راح أوهب لك".
"نحتاج وقت ليأخذ هذا النوع وضعه"
وعن ردود أفعال الجمهور على هذا النوع من الغناء، يقول بشير: "المجتمع يريد الأنواع المعروفة والسائدة من الفن، وهو ما يجعله يستغرق وقتاً طويلاً ليقبلنا، لذلك عملنا على تطوير هذه الموسيقى بمساعدة من حولنا من الأصدقاء المؤمنين بنا وبتجربتنا وفكرتنا، في البداية كنا نشعر ذلك من خلال تفاعل الأجانب المقيمين في مصر الذين يستمعون إلينا، لأنه فن مصري جداً، ويمثلنا قبل كل شيء، وشعرت بذلك حينما سافرنا شهر أبريل الماضي لمهرجان في جمهورية الرأس الأخضر الإفريقية، تفاعل الجمهور هناك لدرجة أنهم غنوا معنا أغنية "رنة حجيلو"، وهى أغنية أيضاً من تراث النساء، واكتشفنا أننا نقدم فناً حلواً ومهماً، والناس في الخارج تقدره، وأعتقد أن سبب ذلك لأننا جئنا من ثقافة تخصنا جداً.
أيضا في مهرجان""أتلانتيك ميوزك" الشهير، والذي تشارك فيه 33 دولة بحضور جميع مديري المهرجانات العالمية، لاقينا قبولاً جيداً، وكتبت على صفحتي يومها: عندما يمنحك الغرباء إعادة ثقتك من جديد".
وفي النهاية، ينفي بشير صفة "الاستشراق" على هذا اللون من الغناء، فالمصريون الذين لازالوا يبحثون عن أصالتهم، والغناء الخارج من قلب أهلهم وتاريخ أجدادهم، يستمعون إليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...