شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عمارة

عمارة "سيوة"... جمال يستحق البقاء بعيداً عن يد "التطوير"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والبيئة

الأربعاء 5 أكتوبر 202203:01 م

بعيداً عن الزحام وعوادم السيارات والإزعاج المفرط، تقع واحة سيوة في صحراء مصر الغربية، إلى الجنوب الغربي من محافظة مطروح، وعلى بعد كيلومترات عن الحدود المصرية الليبية.

ابتعادها عن الصخب جعلها مقصداً للساعين إلى الهرب من ضجيج المدن وحياتها المنزوعة السلام.

تمتاز الواحة بالطبيعة الخلابة والغنية، بها أكثر من 3000 جبل وهضبة ومرتفع، وتحوي محاجر الملح الأنقى في العالم، بالإضافة إلى عدد من البحيرات وعيون المياه الاستشفائية، وأشجار الزيتون، ومائتي ألف نخلة، وآثار تمتد إلى عهد ما قبل الأسرات.

في سيوة شكل المباني رائع وساحر، إذ تجتمع فيها كل الأنماط المعمارية، المصري القديم والقبطي، والروماني واليوناني، والإسلامي التراثي والمعاصر الخرساني، ربما كل هذه الأنماط تشبه سيوة ما عدا النمط الأخير، إذا جمعت كل أنماط البناء تلك سمة الاعتماد على مواد البيئة المحلية، بينما يعتمد البناء الخرساني على مواد من خارج هذه البيئة.

"ما يتبقى في التربة من الصرف الزراعي من مياه وأملاح، تسبب في ظهور مادة الكرشيف، التي هي أحجار ملحية تتكون على حواف البحيرات، خامة طبيعية وهدية من الطبيعة، واستطاع السيوي القديم بناء قلعة شالي التي قاومت الزمن، وعاشت لمئات السنين من الكرشيف"

يعتمد البناء في سيوة على "الكرشيف"، وهو طين معالج بالرمل والملح اللذين تحفل بهما بيئة سيوة الواقعة في قلب الصحراء، وتحوي الأملاح النقية الباقية من محيط قديم كان يغمر الصحراء الغربية المصرية. تلك الوفرة في الرمال والملح تسهل من عملية إنتاج الكرشيف وتصنيعه. ويعد الكرشيف من مواد البناء الأساسية إلى جانب الخشب وجذوع الأشجار والنخيل المستخدمين في بناء الأسقف.

يقول المهندس رامز عزمي، استشاري العمارة البيئية، لرصيف22: "سيوة منخفض، مما يرفع فرص وجود مياه جوفية، تستخدم في الزراعة، وما يتبقى في التربة من الصرف الزراعي من مياه وأملاح، تسبب في ظهور مادة الكرشيف، التي هي أحجار ملحية تتكون على حواف البحيرات، خامة طبيعية وهدية من الطبيعة، واستطاع السيوي القديم بناء قلعة شالي التي قاومت الزمن، وعاشت لمئات السنين من الكرشيف".

بيت سيوي قديم مبني على نمط قلعة شالي - مهداة من جون بيير كونان

"ديورابيليتي"

المهندس المعماري عماد فريد ينشغل بالعمارة البيئية والحفاظ على التراث المعماري وأساليب بنائه المتوارثة، شارك في عدد من مشروعات ترميم وإعادة إحياء المدن والقرى التي تنتهج منهج العمارة البيئية.

يذكر فريد أن سيوة تنفرد بصناعة نوع من الطوب "الني" أي الطيني من الكرشيف، قادر على العيش نحو 2000 عام: "هنا في سيوة نوع من الطوب الني الموجود من 2200 سنة، في بلدة الروم وهو طوب صالح للبناء حتى اليوم. هذه الطوبة أقوى مما نصنعه اليوم، لأنها مرت بفترة جفاف أطول". منطقة الروم المشار إليها كانت منطقة تجمع الحامية الرومانية في الواحة التي شكلت السيطرة عليها هدفاً مهماً لكافة قوات الاحتلال الأجنبية التي غزت مصر منذ مقدم الأسكندر الأكبر ورحلته الشهيرة إليها، وصولاً إلى البريطانيين. يؤكد فريد: "دق الطوب نفسه من أيام الفراعنة يجري بنفس الطريقة".

حسب دراسة "ميزات العمارة الطينية وفرص تطبيقها" للباحثة ديالا عطيات، يحافظ البناء بالكرشيف على الهوية الثقافية والتراثية في المجتمع السيوي، بالإضافة إلى التكلفة المنخفضة، بسبب غياب مصاريف نقل المواد لمسافات طويلة. فكل المواد المستخدمة طبيعية وموجودة بوفرة في واحة سيوة، كتبت ديالا: "يبقى هذا النوع في البناء أكثر تناسباً مع طبيعة المناخ، إذ تصل درجة الحرارة إلى 45 درجة مئوية صيفاً، وتقترب من الصفر في الشتاء. ويساعد الكرشيف على خفض درجة الحرارة صيفاً، وتوفير قدر من الدفء في الشتاء".

المواد المستخدمة في البناء في مصر مثل الأسمنت، لا تتناسب مع المناخ القاري المصري عموماً، ومناخ واحة سيوة خصوصاً، إذ تعزل الهواء الساخن والبارد، مما يدفع السكان إلى البحث عن وسائل غير طبيعية (مستهلكة للطاقة وملوثة للبيئة) من أجل خفض درجة الحرارة صيفاً وتوفير الدفء شتاءً

أما المواد المستخدمة في البناء الحديث في مصر مثل الأسمنت، فهي لا تتناسب مع المناخ القاري المصري عموماً، ومناخ واحة سيوة خصوصاً، إذ تعزل الهواء الساخن والبارد، مما يدفع السكان ومستخدمو المباني إلى البحث عن وسائل غير طبيعية (مستهلكة للطاقة وملوثة للبيئة) من أجل خفض درجة الحرارة داخل المساحات المغلقة صيفاً وتوفير الدفء شتاءً. وهو ما يعد إسرافاً في استخدام الكهرباء غير المتوفرة بكثرة في هذه البيئة. 

متاجر مبنية بمادة الكرشيف التراثية السيوية أمام قلعة شالي الأثرية المبنية بالمادة نفسها -تصوير: جون بيير كونان

هنا شالي

حتى مطلع القرن العشرين، كان سكان سيوة كلها يعيشون داخل جدران مدينتهم المسماة "قلعة شالي". وهي حصن أثري قديم، بُني بالطوب اللبن المصنوع من الكرشيف في القرن الثاني عشر الميلادي. ومثل وسيلة الحماية لسكان سيوة ضد هجمات البدو القادمة من الغرب وهجمات المماليك الطامعين في الثروة من الشرق. ولكن في العام 1926، اضطر سكان القلعة إلى هجرها بعد هطول أمطار غزيرة، وقاموا بإعادة تدوير جدران القلعة وبناء مساكنهم خارج أسوارها، ونزلوا من الهضبة العالية التي تحتلها القلعة إلى الهضبة، ومع الوجود الخدمي الحكومي، جاء البناء الخرساني في سيوة.

كرشيف وجذوع نخيل وسيويون يتهيأون للبناء- جون بيير كونان

تغيّر اجتماعي

عبدالله، اسم متكرر في سيوة، كأنماط المباني والابتسامات الطيبة. يقول واحد من أبناء سيوة الحاملين لاسم عبدالله لرصيف22: "بنيت بيتي لكن راحتي في بيت جدي الذي لا يزال مبنياً من الكرشيف". ويوضح أن البناء باستخدام الأسمنت بات دليلاً على الرقي الاجتماعي، وهي أفكار لم تكن منتشرة بين سكان سيوة من قبل، "لكن تكلفة بناء الكرشيف أصبحت مرتفعة ولا تقل عن تكاليف البناء الخرساني".

حتى سبعينيات القرن الماضي، ظلت بيوت أهالي سيوة وفنادقهم وخدماتهم السياحية القليلة التي يديرونها تعتمد على البناء بالكرشيف، وظل استخدام الخرسانة مرتبطاً بالمباني الحكومية الشحيحة في الواحة، ولكن كما بدأت موجة الهجرة المؤقتة للخليج بين المهنيين والحرفيين في محافظات مصر المختلفة خلال فترة السبعينيات، بدأت موجة موازية من الرحيل للعمل في ليبيا بين شباب ورجال سيوة، ونتاج تلك الأموال الفائضة الناتجة عن العمل في الدولة القريبة من واحتهم، بدأت المباني الخرسانية تظهر بين بيوت الواحة، ملحقةً بها أجهزة التكييف، دلالة على "اقتدار" أصحابها العاملين في الخارج، خاصة إذا حالف أحدهم الحظ بـ"عقد عمل في الخليج". 

حتى سبعينيات القرن الماضي، ظلت مباني أهالي سيوة تُبنى بالكرشيف، واقتصر استخدام الخرسانة على المباني الحكومية، ولكن بدأ شباب ورجال سيوة يتوجهون للعمل في ليبيا والخليج، ونتاج الأموال الفائضة؛  ظهرت المباني الخرسانية بين بيوت الواحة، ملحقةً بها أجهزة التكييف، دلالة على "اقتدار" أصحابها

الظروف البيئية للواحة والتي تزداد تطرفاً بفعل التغير المناخي، مضافةً إليها الظروف الاقتصادية الخانقة وغلاء المعيشة الذي يضرب مصر كلها خلال السنوات الأخيرة، ويضرب الواحة بشكل خاص، جعل العودة إلى الكرشيف حتمية لتوفير فواتير الكهرباء الباهظة، والاستعانة بدلاً عنها بخواص العزل الحراري الذي توفرة المواد البيئية. فصارت البيوت التي تُبنى بالخرسانة تضع طلاءً خارجياً من الكرشيف، مستفيدة كذلك من المظهر الجمالي، لأن بيوت الكرشيف أجمل بكثير. يقول عمر عبدالله، أحد سكان الواحة: "أعيش في بيت من الكرشيف، وأشعر براحة نفسية أكثر، وحتى في عز الصيف  مع مروحة بسيطة يغدو الجو جميلاً".

تجهيز بيت من الخرسانة وسط مباني من الكرشيف - جون بيير كونان 

أما عن تكلفة البناء باستخدام الكرشيف اليوم، فيتفق عمر مع "عبدالله"، ويؤكد أنها تعتبر نفس تكلفة بناء الخرسانة. "كان الشباب يساعدون بعضهم بعضاً في البناء، لكن اليوم أصبح لا بد من الاعتماد على الصنايعية وعلى من يجهزون مواد البناء، مما زاد التكلفة"، ثم يضيف"الأجانب عندما يأتون إلى هنا يفضلون الكرشيف أكثر، بسبب دوره في الشعور بالراحة النفسية".

يقول المهندس رامز عزمي المختص في العمارة البيئية لرصيف22: "كانت طرق بناء المصري القديم متنوعة جداً، أما الآن فنبني كل أنواع البناء بالأسمنت المسلح، على الرغم من توافر الكثير من مواد البناء الأخرى والأساليب المختلفة، ويجب علينا إعادة وإحياء ثقافة المصريين القدماء في البناء، وليس من التقدم أو التحضر أن أترك ثقافتي وأبني بأسلوب آخر".

تسقيف متجر من الكرشيف بجذوع النخل. وهي طريقة البناء السيوية التقليدية- جون بيير كونان

فندق بدون كهرباء وبنك من الطين

في الواقع أن ثقافة البناء في سيوة معقدة، ولا يمكننا أن نلجأ إلى السدرية المكررة المعتادة حول حكاية الثقافة التي تمضي في طريقها للزوال بسبب الوافدين من الخارج، أو أن هناك أهالي يقاومون من أجل الحفاظ على ثقافتهم... الأمر لا يحمل سمة الصراع الثقافي، كما أن ليس هناك تأثر في اتجاه واحد.

عندما انتقلت إلى سيوة فكرة البناء الخرساني، تلقاها ومارسها بعض الأهالي كنوع من الرقي والتميز، لكن نجد في الوقت نفسه مهندسي العمارة البيئية على درجة من الولع الشديد بالمعمار السيوي التراثي، ونفس هذا الولع موجود لدى الأجانب والسياح، فمثلما ارتدت بعض المباني السيوية رداء الحداثة، ارتدت بعض المباني الحداثية الرداء السيوي، وأصبحنا نجد في سيوة بناء كاملاً مبنياً من الكرشيف ومسقفاً بجذوع النخيل، "لم يكن أحد يتخيل بناء بنك في سيوة من الطين" حسبما أكد المهندس رامز عزمي.

الظروف البيئية التي تزداد تطرفاً في الواحة بفعل التغير المناخي، مضافةً إليها الظروف الاقتصادية الخانقة، جعل العودة إلى الكرشيف حتمية لتوفير فواتير الكهرباء الباهظة، والاستعانة بدلاً عنها بخواص العزل الحراري الذي توفرة المواد البيئية

ويضيف عزمي: "الفنادق البيئية جعلت السياح في سيوة لا يحبون الإقامة في مباني خرسانة هنا، أصبحوا يفضلون الإطلاع على طرق بناء وثقافة مختلفة، حتى ملك إنجلترا الحالي تشارلز الثالث زار سيوة عندما كان ولياً للعهد واختار "إيكولودج" مبنياً من الملح السيوي والكرشيف، لأن سيوة تعد قبلة للعمارة والسياحة البيئية".

الفندق المشار إليه هو "أدرير أميلال"، وهو أحد أهم الفنادق البيئية في العالم. الاسم يعني الجبل الأبيض باللغة الأمازيغية التي يتحدثها سكان سيوة، ويحمل الفندق هذا الاسم بسبب وقوعه على سفح تل أبيض (ملحي)، يطل على بحيرة سيوة.

من داخل "أدرير أميلال" - من الصور الدعائية للفندق  

اعتمد الفندق في بنائه على الطريقة التراثية، مما جعل العيش فيه من دون كهرباء، أمراً ممكناً وممتعاً لزواره، فالكرشيف المستخدم في البناء يحفظ الحرارة معتدلة داخل الفندق، من دون الحاجة لاستخدام تكييف، كما تم تصنيع الأبواب والنوافذ من خشب شجر الزيتون، والأسقف من جذوع النخيل، والمفروشات نفسها محلية سيوية، فالأثاث من جريد النخيل والمفروشات من القطن المصري والديكور من المصنوعات اليدوية. وبدلاً من الكهرباء تستخدم  المصابيح الملحية والشموع في الإضاءة، ويستخدم الفحم الطبيعي للتدفئة، كما يعتمد على التهوية الطبيعية. ويعد الفندق موفراً في استخدام الطاقة، كما أنه يعيد تدوير المخلفات الصلبة واستخدامها.

يجب توضيح أن ارتفاع تكلفة البناء بالكرشيف بالنسبة لأهالي سيوة، قد لا تعد كذلك بالنسبة لملاك ومنفذي المشاريع البيئية، بسبب قدرتهم على توفير العمالة، وإنتاج كميات كبيرة من الطوب اللبن المصنوع من الكرشيف مما يخفض تكلفة الإنتاج. ويرى المهندس رامز راشد أن مشاريع السياحة والتراث البيئي تفتح وظائف وفرص عمل أكثر للأهالي. ويؤكد أن عملية تقليم أشجار الزيتون واستخدام الفروع الناشفة في البناء، يحافظان على شجر الزيتون من التلف، وهنا تستفيد الطبيعة ويستفيد الإنسان. كما أن الخامات الصديقة للبيئة لها تأثير مباشر على صحة الإنسان، بينما تجد أن بعض المواد الحديثة في البناء مضرة جدا للصحة.

-----------------------------

الصور مهداة من المصور الفرنسي جون بيير كونان jean Pierre Connan لرصيف22


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما أحوجنا اليوم إلى الثقافة البيئية

نفخر بكوننا من المؤسّسات العربية القليلة الرائدة في ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺇﺫﻛﺎﺀ ﺍﻟﻮﻋﻲ البيئيّ. وبالرغم من البلادة التي قد تُشعرنا فيها القضايا المناخيّة، لكنّنا في رصيف22 مصرّون على التحدث عنها. فنحن ببساطةٍ نطمح إلى غدٍ أفضل. فلا مستقبل لنا ولمنطقتنا العربية إذا اجتاحها كابوس الأرض اليباب، وصارت جدباء لا ماء فيها ولا خضرة.

Website by WhiteBeard
Popup Image