في تشرين الثاني/ نوفمبرعام 2014، أدرجت منظمة اليونيسكو الشعائر الاحتفالية لمهرجان السبيبه (Sabeiba) ضمن التراث اللامادي للإنسانية. هذا التصنيف الذي جاء بجهود حثيثة من وزارة الثقافة الجزائرية منذ عام 2008 بالتعاون مع مسؤولي منطقة جانت في ولاية "إيليزي".
تعرف السبيبه بعيد السلام والتسامح. وهي من أهم الاحتفالات الكرنفالية العريقة التي تعرف زخماً سياحياً كبيراً من داخل الجزائر وخارجها، لحضور فعالياتها. هذا التقليد التراثي السنوي في منطقة "جانت"، إحدى الواحات الواقعة في عمق الصحراء الجزائرية شرقاً على الحدود مع ليبيا، وتبعد الواحة نحو 2300 كم عن العاصمة الجزائر.
من عمق التاريخ
يمارس سكان المنطقة من طوارق الطاسيلي ناجر ممن يتكلمون اللغة الأمازيغية الطارقية. هذه التظاهرة التاريخية الغنية بالإيقاعات الراقصة التي يتداخل فيها التراث الشعري والموسيقي والكوريغرافي (الراقص)، مع الأزياء ذات الألوان الزاهية المتوارثة من جيل لآخر، والتي تقام سنوياً بين الأول من محرم حتى العاشر منه حسب التقويم القمري الإسلامي (عاشوراء). فينهض المكان المشهور بآثاره التاريخية ومناظره الصحراوية الخلابة كمسرح مفتوح، ويتزين بأقنعة الرجال الراقصين، والنساء المتشحات بالملابس الملونة المعطرة بمساحيق الزعفران.
تفيد الروايات الشفوية عن طوارق الطاسيلي ناجر، أن هذا الاحتفال أقامه الطوارق منذ عام 1230 قبل الميلاد. بينما يورد آخرون أن عمر هذا التقليد يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد حين وقعت حرب ضروس بين قبيلتي "أورارم" و"تارأورفيت". ويقام الاحتفال في ذكرى الصلح بين القبيلتين
تفيد الروايات الشفوية المتوفرة عن طوارق الطاسيلي ناجر، أن هذا الاحتفال تمت إقامته لدى الطوارق منذ عام 1230 قبل الميلاد. بينما يورد آخرون أن عمر هذا التقليد يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد حين وقعت حرب ضروس بين قبيلتي "أورارم" و"تارأورفيت". وكلتاهما من القبائل المعمرة في تلك المنطقة منذ آلاف السنين. تلك الحرب التي انتهت بعقد صلح تاريخي توصل إليه حكماء القبيلتين.
يعزو البعض انتهاء تلك الحرب إلى وصول خبر انتصار النبي موسى على فرعون وموت الأخير. فعم الفرح والسرور أفراد القبيلتين المتناحرتين، واكتشفوا أن ما يجمع بينهما أعمق وأبعد من الخلاف الحاصل بينهما. وتقرر على أثر ذلك، عقد الصلح وتكريس أيام مشتركة تمتد على عشرة أيام تنحر فيها الذبائح وتقام الولائم لاستعادة مبدأ السلام بعد الحرب، ونقل هذه المشاعر من جيل إلى آخر من أبناء الطوارق.
بالنسبة للبعض الآخر، فإن دلالات الطقس المحتفى فيه خلال السبيبه، متعددة ومتباعدة عن حدث انتصار موسى. ومرتبطة لديهم بالمذهبية الإسلامية، لأن التصادف الواقع بين السبيبه كمهرجان احتفالي مع أيام عاشوراء يرمز إلى نهاية سنة وبداية أخرى في التقويم الإسلامي ويجسد نجاة وانتصار النبي محمد على قريش الوثنية. ونقل رسالته إلى يثرب التي استقبله أهلها بالطبول والغناء عند أهل السُنة.
يقام المهرجان سنوياً بين الأول من محرم حتى العاشر منه (عاشوراء). فينهض المكان المشهور بآثاره التاريخية ومناظره الصحراوية الخلابة كمسرح مفتوح، ويتزين بأقنعة الرجال الراقصين، والنساء المتشحات بالملابس الملونة المعطرة بمساحيق الزعفران
وقد يحمل دلالة شيعية ضعيفة شأنها شأن الدلالة السُنية، لا سيما طقس "تنفار" الذي تقوم خلاله النساء بتلطيخ وجوههن بالدماء، في استعادة إلى ما حدث في كربلاء ومقتل الحسين بن علي فيها. وفي ذلك تقول مريم أبو زيد في مقال عن الطقس في جريدة السفير العربي: "السبيبه تشكل (تمنجوط) أي أن طقس بلوغ الذكور والإناث هو لبها، وتعطي دلالات عميقة لتاريخ الواحة المحلي وما حدث من أحداث جسام فيها".
وتنفي ما تسميه "الظاهرة العاشورائية" المرتبطة بطقوس الندب والبكاء المتصلة بها عند الشيعة لاندثار الظاهرة من البلاد المغاربية. وتقول أبو زيد بارتباط السبيبه بطقوس زراعية ما قبل إسلامية. فهي في واقع الحال، تحمل رمزيتها الخاصة التي تمثل حالة الانتقال من الحرب والفوضى إلى السلم والعيش الودي بين أبناء الطوارق، مؤديةً وظائف اجتماعية وثقافية بعيدة عن الإطار الرمزي الإسلامي السابق.
أيام الـ"تيمولاوين"
في بداية محرم من كل عام يبدأ أبناء قصري زلواز والميهان (القصر: هي التسمية المرادفة للحي) في منطقة جانت، بالاستعداد على مدار تسعة أيام تعرف بـ"تيمولاوين"، لليوم الكبير في الاحتفالية الكرنفالية "السبيبه". وتتمثل بالتدرب على طرق آلة الدف المسمى "غانغا"، وهي عبارة عن أسطوانة ذات جلدين ممتدين حول إطار خشبي، تمسكها النسوة بيد واحدة وتضربها باليد الأخرى بعصا خشبية. والغناء بالنسبة للنساء. والرقص بالسيوف والأسلحة المختلفة بالنسبة للرجال.
يقود هذه التدريبات رجل يدعى "أمغر" يرتدي سترة زرقاء، وتدور المنافسة لانتقاء أفضلهم/ن خلال تلك الأمسيات التسع في أماكن محددة، هي (دغ الزاوية)، بأهل الميهان، و(خايلة) بالنسبة لأهل زلواز. المشرف على تحضيرات الفريقين يُعنى بفحص الملابس، وتنظيم الحركات الراقصة دافعاً أعضاء فريقه المنتخب للإجادة والإبداع في سبيل الفوز باختيار لجنة لحام تعرف بالأمازيغية بـ" أمغارين".
وتتضمن تلك التحضيرات أيضاً، تشكيل دائرة ومحاكاة معارك السيوف المتناغمة مع الأغاني المأخوذة من التراث الشفوي المتعاقب للطوارق، والمترافقة مع إيقاع الطبول والدف والتي تؤديها النساء من غير المتزوجات. سواء أكن من الفتيات الصغيرات أو من الأرامل والعجائز.
وتقوم المنافسة الفنية بين شطري المدينة على أجمل الأزياء وحلي الزينة، والحركات الراقصة والمبارزات الودية في تجسيد ممتع للحرب التي ستفضي مع غروب اليوم الأخير "السبيبه" إلى تجديد السلام بينهما، والذي يشهد خليطاً غنياً من الألوان والأهازيج الشعرية والحركات الراقصة في لوحة تتجدد مع كل عام.
يوم "السبيبه" الكرنفال الكبير
في اليوم المنشود الذي يقع في العاشر من محرم المصادف لذكرى عاشوراء، يجتمع سكان المنطقة من الطوارق والبلدان المجاورة لإحياء كرنفالية رقصة السبيبه. ومشاهدة العرض الختامي بين الفريقين المنتخبين من زلواز والميهان، في موضع محدد وسطي بين القريتين خلف السوق في جانت، على هيئة ملعب يدعى "لوغيا".
تشهد الفقرة الصباحية التي تسمى "التكامسين" استعراض الرقصات بالأزياء التقليدية والمنافسة على أجملها وأكثرها رقياً. ترتدي النسوة لباساً تقليدياً يدعى "بايختاين" كثوب رئيسي، و"تابركامت" وهو قطعة قماش تلف كل باقي الجسد باللونين النيلي والبني أو الأبيض، ويتزينّ بالفضة بمختلف أشكالها.
فيختار الحكام بين أجمل السترات ذات اللون النيلي، والمجوهرات الفضية الثقيلة وأبرزها "التاكاردي" الفضي الضخم المكوّن من مثلثات. والسيوف المنحنية التي ترافق أهازيج النسوة المصحوبة بالضرب على الـ"غانغا"، وترداد الأغاني التي تروي قصص الماضي الغابر، وحكايات الحرب والحب والخصوبة.
وبعد استراحة الصلاة، تستأنف المبارزة بين الرجال الذين يصاحب حماستهم ونشوتهم الإيقاع والأصوات الأنثوية، فيبدأون بخلع سترهم والتكاتف فيما بينهم، مشكلين سلسلة رائعة متلاحمين لدحر الخصوم ومبرزين جمال ما يرتدونه من أقنعة مميزة. ثم تدخل الاحتفالية مرحلة تسمى "الأريلي" حيث يحمل كل راقص سيفاً في يد، ووشاحاً في اليد الأخرى، يرمز إلى السلم. ويقترن إيقاع الحركات بمجموعات الموسيقيين أثناء غناء الشعر المسمى بـ" تيسواي" فترقص فرق زلواز والميهان على أنغام الغانغا مشكلين ما يشبه الصليب، تعبيراً عن الفصول الأربعة وتجدد دورة الحياة السنوية.
تشكل مجموعات الرقص والموسيقى والغناء فسيفساء رائعة من الألوان والأناشيد والحركات البارعة المنسجمة مع لوحة السبيبه. كل هذا مصحوب بتشجيع الحاضرين في انتظار إعلان هيئة المحكمين اسم الفائز بشرف ارتداء اللباس التقليدي المقدس وهو "قناع التاكنبوت". ثم يتفرق الجميع بعد الغروب في انتظار احتفال العام المقبل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...