في الوقت الذي يتعرض فيه الصحافيون والعاملون في المجتمع المدني للضرر النفسي والإجهاد المستمر، لتعرضهم الدائم للأخبار السلبية والمقلقة في غالبية الوقت، بجانب طبيعة عملهم الضاغطة وغير الآمنة على الدوام، لا يهتم أحد بتسليط الضوء على أوجاعهم ومشكلاتهم. لذلك، قررنا نحن فريق "سلامتك تهمنا"، وهي حملة أسستها مجموعة من الصحافيين/ ات والعاملين/ ات في المجتمع المدني في مصر، أن نجعل من اليوم العالمي للصحة النفسية هذا العام فرصةً للحديث عن هذه الفئة، التي لا يهتم بأوجاعها أو قضاياها أحد.
يلعب الصحافي دور الشاهد والناقل للأحداث، بينما يقوم الناشطون والعاملون في المجتمع المدني بإكمال المهمة من خلال المراقبة والتوثيق وتقديم الدّعم القانوني. أمام ذلك الدور، قد يتأثر اللاعب الأساسي ويفرّ من أرض المعركة لعدم قدرته على التحمل. إليك بعض قصصهم.
يلعب الصحافي دور الشاهد والناقل للأحداث، بينما يقوم ناشطون في بإكمال المهمة من خلال المراقبة والتوثيق وتقديم الدّعم القانوني. أمام ذلك الدور، قد يتأثر اللاعب الأساسي ويفرّ من أرض المعركة لعدم قدرته على التحمل
تغطية اشتباكات وعنف
هدى (35 عاماً)، صحافية مصرية عملت في الصحافة ما يقرب من سبع سنوات، قالت في حديث معها: "كانت الصحافة بالنسبة لي حلماً اخترتُه، وقررتُ العمل فيه منذ أن كنت طالبةً في الصف الثاني الثانوي. كنت أتابع جيفارا البديري والشهيدة شيرين أبو عاقلة وهما تغطيان أخبار فلسطين وسط الاشتباكات بكل شجاعة وثقة. أحسست بمدى قدرتهما وقوتهما. وضعت نصب عيني الصحافة والإعلام حلماً سعيت إليه بكل الطرق، فكانت كلية الإعلام جامعة القاهرة الاختيار رقم واحد في رغباتي بعد الثانوية العامة، بالرغم من أن مجموعي كان يمكِّنني من دخول كلية السياسة أو الاقتصاد، ولكن الإعلام كان اختياري الحر".
تكمل هدى، قائلةً: "تخرجت عام 2008. عانيت الكثير لكي أحصل على فرصة تدريب في جريدة مصرية. وبالفعل، بدأت بالعمل عام 2009، واخترت ملف الأحزاب السياسية والحركات الشبابية. كان الأمر عاديًاً إلى أن جاءت ثورة 25 يناير عام 2011، واختلفت الصحافة تماماً. تصورت للحظات أنه قد حان وقت أن أكون جيفارا البديري وشيرين أبو عاقلة. بالفعل تحوّل عملي من المكتب إلى الشارع. قمت بتغطية ثورة 25 يناير من دون أن أحصل على يوم إجازة واحد. انتقلت من التغطيات الهادئة لندوات أو نشاطات عادية جداً، إلى تغطية الاشتباكات والعنف المتبادل، من دون التدرب على ذلك في الجريدة التي أعمل فيها، فغالبية المؤسسات لا تقوم بتدريب الصحافيين على القيام بتلك النوعية من التغطيات".
"تصورت للحظات أنه قد حان وقت أن أكون جيفارا البديري وشيرين أبو عاقلة. بالفعل تحوّل عملي من المكتب إلى الشارع. قمت بتغطية ثورة 25 يناير من دون أن أحصل على يوم إجازة واحد"
العديد من الدراسات أكدت أن الصحافيين معرضون في أغلب الأوقات للاضطرابات النفسية بسبب طبيعة عملهم التي تنطوي على مشاهد عنف ودماء وانفجارات وقتل.
وقالت دراسة ميدانية أجرتها مجموعة من الطالبات في قسم علم النفس المجتمعي في الجامعة الأمريكية في القاهرة، بالتعاون مع الأمانة العامة للصحة النفسية: "إن سبب إصابة 61% من أفراد العيّنة بكرب ما بعد الصدمة، هو مشاهدتهم لأحداث العنف في نشرات الأخبار، في حين أصيب 47% نتيجة رؤيتهم لتلك الأحداث في الشوارع، بينما أصيب 27.8% منهم بسبب تدهور أوضاعهم المالية".
تتابع هدى: "في أثناء وجودي بالقرب من جامعة القاهرة، اندلع حريق ضخم في خيم الاعتصام. شاهدت أطفالاً يصرخون، ورجالاً يحترقون، وعنفاً في كل مكان. ظلت رائحة الدماء تطاردني أياماً، وصور القتلى وأصوات الانفجارات أصابتني بكوابيس مرهقة للغاية، وبدأ سلوكي يتغير تماماً؛ أصبحت عنيفةً وعصبيةً وغير قادرة على الاستماع إلى أحد. ظللت أياماً كثيرةً في غرفتي لا أبارحها، وأنهيت علاقةً عاطفيةً من دون أي أسباب سوى أنني لا أرغب في التواصل مع أحد. ظلّت أفكار الموت والانتحار تطاردني كثيراً إلى أن سيطرت عليّ الفكرة تماماً، وبالفعل حاولت الانتحار لكني فشلت".
"في أثناء وجودي بالقرب من جامعة القاهرة، اندلع حريق ضخم في خيم الاعتصام. شاهدت أطفالاً يصرخون، ورجالاً يحترقون، وعنفاً في كل مكان. ظلت رائحة الدماء تطاردني أياماً، وصور القتلى وأصوات الانفجارات أصابتني بكوابيس مرهقة للغاية"
تضيف هدى: "تحت ضغوط عائلتي، ذهبت إلى طبيب نفسي طلب مني أن أحصل على إجازة، وبالفعل حصلت عليها. شعرت بتحسن كبير، وتأكدت من أن عملي كان السبب في كل ما أعاني منه، وقررت وقتها فقط أن أترك الصحافة وأذهب لأجرب مهنةً أخرى يمكنني أن أشعر فيها بقدر من السعادة والاستقرار النفسي".
هكذا تحول العمل الصحافي من حلم لدى الكثيرين إلى كابوس أصبح يهدد سلامتهم واستقرارهم النفسيين، إذ يعاني عدد كبير من الصحافيين من نوبات الهلع والمعاناة من أعراض ما بعد الصدمة. وما يزيد من الأزمة غياب الدور المؤسسي في توفير التدريب على التعامل مع الأحداث العنيفة، أو حتى مساعدة العاملين في المؤسسات على تلقّي الدعم النفسي بصورة أو بأخرى.
هكذا تحول العمل الصحافي من حلم لدى الكثيرين إلى كابوس أصبح يهدد سلامتهم واستقرارهم النفسيين، إذ يعاني عدد كبير من الصحافيين من نوبات الهلع والمعاناة من أعراض ما بعد الصدمة
تدريبات غير كافية
تقول وئام (38 عاماً)، من القاهرة، وقد عملت في الصحافة مدة ست سنوات، عن الأزمة: "بدأت بالعمل الصحافي عام 2011، وتركته عام 2017. كان عملي في غالبيته ميدانيّاً، وكانت تلك الفترة مليئةً بأحداث كثيرة. اخترت العمل في مجال الصحافة الإنسانية، وكنت أعاني من مشكلة أعتقد أنها بعيدة عن المهنية، وهي أنني كنت أرتبط إنسانيّاً مع أبطال القصص التي أعمل عليها، وأشعر بهزائمهم وأفرح لانتصاراتهم، وتحولت مع الوقت من شخص مرح يحب الحياة إلى شخص كئيب أغلب الوقت".
تضيف وئام: "حاولت الحصول على تدريبات تساعدني على التعامل مع تلك النوعية من المشاعر التي تنتابني، والتي تتنافى حتى مع مهنتي التي تتطلب قدراً من المهنية والحيادية، إلا أن ضغوط العمل وغياب التدريب، واقتصار الأمر على تدريبات محدودة في نقابة الصحافيين، مثل التدريب على تقديم إسعافات أولية، غير كافية أبداً لتأهيل الصحافيين نفسياً وعقلياً للتعامل مع الأحداث التي فيها عنف".
تقول وئام: "تراكمات كثيرة أرهقتني نفسيًاً وجسديًاً، لكن هناك واقعتين كانتا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ كان هناك مركب هجرة غير شرعية غرق في رشيد بالقرب من الإسكندرية، وظللت مع الأهالي ثلاثة أيام، وشاهدت خروج الجثث من البحر. في المستشفى، كانت الرائحة تغرق المكان، رائحة الجثث والمستشفى. ظلت تلك الرائحة تطاردني شهوراً، بعدها بفترة قمت بتغطية حادث قتل سيدة على يد ضابط تنفيذ أحكام، وكانت حاملاً، ورأيت صراخ أبنائها الصغار. ظل الصوت يطاردني أياماً وشهوراً".
"تراكمات كثيرة أرهقتني نفسيًاً وجسديًاً، لكن هناك واقعتين كانتا بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ كان هناك مركب هجرة غير شرعية غرق في رشيد بالقرب من الإسكندرية، وظللت مع الأهالي ثلاثة أيام، وشاهدت خروج الجثث من البحر"
فئة معرضة للاضطرابات النفسية
من جانبها، تقول الدكتورة ألفت علّام، أستاذة علم النفس في جامعة القاهرة، لحملة "سلامتك تهمنا"، "إن الصحافيين والعاملين في المجتمع المدني من الفئات المعرضة للإصابة باضطرابات النفسية بسبب طبيعة عملهم، التي تتضمن مشاهد عنف وضحايا، وهو ما يتطلب وجود برامج رعاية نفسية متكاملة لهم، بالإضافة إلى تدريبات متنوعة على كيفية التعامل مع الأحداث الضاغطة".
وأشارت علّام إلى أن أغلب الصحافيين لا يدركون أن الأعراض التي يعانون منها، كالتوتر الزائد، والاكتئاب، والنسيان، وفقدان الذاكرة المؤقت وغيرها من الأعراض، تكون بسبب الضغوط النفسية التي يعانون منها، ومن ثم فإن هناك ضرورةً لأن تكون هناك برامج رعاية متكاملة يمكنها التعامل مع هذه الفئات بصورة دورية، حتى لو لم تظهر أعراض محددة.
أشارت الدكتورة ألفت علّام إلى أن أغلب الصحافيين لا يدركون أن الأعراض التي يعانون منها، كالتوتر الزائد، والاكتئاب، والنسيان، وفقدان الذاكرة المؤقت وغيرها من الأعراض، تكون بسبب الضغوط النفسية التي يعانون منها
قصص التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال
"تخيّل أنك لا تفعل شيئاً في حياتك سوى الاستماع إلى حوادث التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال، فكيف يمكنك الذهاب ليلاً وقضاء وقت ممتع مع شريكة حياتك؟"؛ بهذا السؤال بدأ مينا حديثه إلى حملة "سلامتك تهمنا". يعمل مينا (اسم مستعار)، موثقاً في إحدى منظمات المجتمع المدني المهتمة بالحقوق المدنية والسياسية منذ عشر سنوات، ولكنه ترك العمل في المجتمع المدني نتيجة تخوفات أمنية، وشعوره باللا جدوى أمام حالات عانت من التعذيب والاختفاء القسري لشهور وفي بعض الحالات لسنوات.
يقول مينا: "أصابني القلق والتوتر، وأحياناً كثيرةً تحول ذلك إلى شعور بالعجز وصل إلى مرحلة العجز الجنسي، وعدم الرغبة في الحياة".
"تخيّل أنك لا تفعل شيئاً في حياتك سوى الاستماع إلى حوادث التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال، فكيف يمكنك الذهاب ليلاً وقضاء وقت ممتع مع شريكة حياتك؟"
ويضيف مينا: "حاولت كثيراً الذهاب إلى طبيب نفسي، لكن الأزمة أن أغلب من ذهبت إليهم لم يفهموا معنى أن أوثِّق حالات اختفاء وتعذيب. البعض خلط بين عملي والصحافة، والبعض طلب أن أتناول مهدئات أو أن أقضي وقتاً سعيداً مع أسرتي، أو أن أسافر خارج القاهرة لفترة وجيزة. لم يدرك أي منهم أن ما أقوم به ينعكس على كل شيء في حياتي، حتى عندما حاولت السفر كانت صور من عانوا من التعذيب والاختفاء تلاحقني في كل مكان. صاحبني القلق والتوتر. لم يكن أمامي من حل سوى أن أترك العمل في المجتمع المدني، وأن أقوم بنشاط تجاري بحت يصاحبه مجهود بدني، فقررت الابتعاد عن أي مجهود ذهني علّني أجد القليل من الراحة النفسية والجسدية".
وأثبتت دراسة أُعدّت بواسطة مركز الدراسات للبحوث، أن تغطية الصحافيين لأحداث العنف والإرهاب وحوادث الطرق والقطارات والطائرات والجرائم المختلفة، تركت أثرها النفسي عليهم، وطاردتهم الكوابيس المزعجة، وأصيبوا باضطرابات في النوم، وقد يصل بهم الحال إلى الاكتئاب، والشعور بآلام جسدية مفاجئة، كالزيادة في معدل ضربات القلب أو الصعوبة في التنفس، وكلها تندرج تحت ما يُسمى باضطراب ما بعد الصدمة.
تنوعت معاناة الصحافيين والعاملين في المجتمع المدني، واختلفت حسب طبيعة عمل كلّ منهم، لكن الجميع اتفقوا على غياب الدعم النفسي والتدريب اللازم من قبل المؤسسات الصحافية والمجتمع المدني، وهو ما يتطلب ضرورة تغيير نظرة تلك المؤسسات وإدراج التدريب والدعم النفسي للعاملين فيها على أجندة أولوياتها، حمايةً للعاملين وحفاظاً على كوادر المؤسسات.
إذا شعرت بالضغط النفسي بسبب عملك، أو بأنك غير قادر/ ة على الإنتاج أو الاستمرار في العمل، يمكنك طلب الدعم من الجهات التالية:
منظمة روري بك.
لن أبقى صامتة من أريج.
فرونت لاين ديفيندر.
مركز النديم لضحايا العنف والتعذيب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...