لطالما شعرت بأني خرجت من السجن، ولكن السجن لم يخرج مني. لا زلت أتذكر التفاصيل كافةً، منذ إلقاء القبض عليّ، وحتى خروجي إلى أحضان أمي. لم أعتقد أنني سأظل متذكرةً ومتأثرةً بتجربة اعتقالي حتى بعد انتهائها، وكنت محظوظةً بأنها كانت قصيرة.
بعد أربع سنوات كاملة، تزوجت خلالها وسافرت وعدت وأنجبت ورأيت ابنتي تكبر يوماً بعد يوم أمامي، أجدني لا أزال أتذكّر التفاصيل. أتمنى لو أنسى. أتمنى لو أن هناك اختراعاً ما يمسح تلك الذكريات من عقلي! تساءلت كثيراً طوال السنوات الماضية: هل أنا وحدي التي لا زالت عالقةً في تجربة الاعتقال؟ ولكن الحديث مع أخريات مررن بتجربة مماثلة، أتاني بالجواب: لا.
كنت أعمل على تقرير صحافي عن "الترام"، كوسيلة نقل داخل الإسكندرية، يمتد عمرها لأكثر من 150 عاماً، أي أنها من أقدم وسائل المواصلات الجماعية، ففوجئت بالقبض عليّ أنا وزميلي، ثم حققوا معنا ووجهوا إلينا اتهامات بالانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة، ليتم حبسنا على ذمة التحقيقات لـ18 يوماً متصلةً، من 28 شباط/ فبراير إلى 15 آذار/ مارس 2018، بعد إسقاط التهم بفضل جهود المحامين والضغط الإعلامي من المتضامنين.
"ظللت تائهةً"
تعمل أسماء عبد الحميد (30 عاماً)، حالياً، منسقة حملات وورش تدريبية في مبادرة "بَرّة السور"، وهي مبادرة ذات توجهات نسوية كويرية، أُسست في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وتتكوّن من مجموعة من المدافعات والمنتميات إلى أقليات جنسية مختلفة، هدفها محاربة سلوكيات الكراهية والتمييز بأشكاله كافة.
تقول لرصيف22: "أنتمي إلى الطبقة المتوسطة، ومن أسرة ليست مسيّسةً. قُبض عليّ في 2018، على خلفية قضية تتعلق بفاعلية نظّمتها على خلفية ارتفاع أسعار تذاكر المترو، وسياسات الإفقار، وتأثيرها على النساء بشكل عام، خاصةً المستقلات منهن، وظللت في السجن شهرين متواصلين، وبعدهما سنتين تحت المراقبة الاحترازية".
"بعد خروجي من السجن ظللت تائهةً"، تروي، وتتابع: "بل إنني أحياناً كنت أشعر بأني لا أريد الخروج منه أصلاً. كانت تلك حالة من الاضطراب أُصبت بها بعد إخفائي قسراً، ففي أثناء رحلة اعتقالي واختفائي تلك تنقلت بين ستة أقسام للشرطة، وكنت أمكث في كل واحد منها أياماً، ثم استقرّيت في سجن القناطر".
"أتذكر جيداً أنني عندما كنت أُنقَل من قسم إلى آخر، كنت أبكي وأستجدي الضباط كي يتركوني مكاني، لمجرد خوفي من المجهول، ولا زال هذا الإحساس متملكاً مني حتى الآن. لا أريد أن أذهب إلى مكان جديد أبداً. يوم خروجي من السجن، ظللت مرعوبةً وأريد أن أظل مكاني في الزنزانة، لا أريد الخروج منها".
"بعد خروجي من السجن"، تتابع، "بدأتُ ألاحظ التغيرات التي طرأت على مَن حولي. أصدقائي المقربون صاروا مهتمين بي أكثر من قبل، وكأنه نوع من الشفقة، ويعاملونني بحنان. أما عائلتي فلم أرَ أحداً منها حتى الآن، سوى أمي واثنين من إخوتي. وأما بقية عائلتي فآثروا أن يبتعدوا عني وألا يتعاملوا معي، خوفاً مني، وخوفاً من أن يصيبهم نصيب من الملاحفة الأمنية، بل إنني تعرضت للعنف من أحد إخوتي حتى أترك المنزل رغماً عني، وهو ما حدث بالفعل، فبقيت في الشارع بلا مأوى ولا مال ولا حتى ملابسي ومقتنياتي. كنت أذهب خلال ساعات المراقبة إلى قسم الشرطة، ولا أعرف أين سأذهب بعدها. استدنت المال من أصدقائي، ونجحت في إيجاد بيت بسيط، وبدأت أفكر في الخطوات التالية لحياتي، وكان من بينها تأسيس مبادرة ‘برّة السور’".
عن حياتها في السجن، تعلّق: "مش عيب إنك مجرمة"، ففي النهاية، برأيها، كل مَن هم داخل السجن ارتكبوا جريمةً ما، و"كلنا متشابهون، فلا مجال للمزايدات الأخلاقية".
عن فترة سجنها وانتقالها من قسم إلى آخر، تحكي: "واجهت تمييزاً إيجابياً من السجينات، فكانوا يرون أنني أمثّلهم، وكانت علاقتي بهنّ جيدةً، وكوّنت علاقات صداقة بنساء لم أكن أتخيل أنني سأقابلهن من الأساس، مثل التي قتلت زوجها، أو التي قتلت أربعة أشخاص، أو تاجرة المخدرات. داخل السجن. كنا كلنا بشراً فحسب، ومذنبين، ولا أحد يستطيع أن يزايد أخلاقياً على الآخرين. كانت تلك هي القاعدة السائدة".
أما التمييز السلبي، تتابع، "فكنت أواجهه من أفراد الشرطة والأمن، إذ كان يتم توجيه أوامر ذكورية بحتة، من قبيل ‘البسي الطرحة’، ‘وشِّك في الأرض’، وغيرها من الإهانات الجنسية، على عكس الرجال، بل كان هناك تقبّل للمجرمين الرجال أكثر من النساء اللواتي يتم وصمهن، والتعامل معهن باحتقار شديد".
"بعد خروج أي شخص من السجن، وليس أنا وحدي، يكون محل لفت انتباه من المحيطين به"، تشرح. "في حالتي، كنت متصدرةً للتراند على السوشال ميديا، وصوري منتشرة ومعروفة، وأذكر أنني ذات مرة ركبت سيارةً عبر خدمة ‘أوبر’، وكنت متوجهةً إلى قسم الشرطة في أثناء فترة خضوعي للمراقبة الاحترازية، فقال لي السائق: ‘ملامحك ليست غريبةً، إنتِ بتظهري في التلفزيون’، فقلت له: ‘لا أنا البنت بتاعت المترو’. تذكّرني وقتها، وظل يقول لي: ‘إنت بطلة، وأنا فخور بيكي’، وفي نهاية الرحلة رفض أن يتلقى أجره. في هذه اللحظة، ذهب عني شعور الندم الذي شعرت به بعد تعرضي للسجن والإهانة، بل وقتها كنت سعيدةً بأنني رفعت تلك اللافتة المحتجة على زيادة أسعار تذاكر المترو، ما يؤثر بشكل مباشر على الوضع الاقتصادي للمواطنين بشكل عام، وعلى النساء المستقلات بشكل خاص، حتى وإن كان الثمن الذي دفعته كبيراً".
على صعيد الحياة العاطفية، تروي أن شريكها "خاف من زيارتي في القسم في أثناء حبسي، ولذلك فإن أول شيء فعلته عندما خرجت من السجن كان قطع علاقتي به، وبكل شخص خاف من أن يزورني. بعد خروجي، خرجت في عدد من اللقاءات لمحاولة الارتباط مرةً أخرى، وكلها فشلت. أذكر مثلاً شخصاً قال لي: ‘أنا آسف مقدرش أرتبط بواحدة الأمن ممكن ياخدها مني في أي وقت، ووجودها نفسه مش مضمون’. بعدها قابلت آخرين، لكنهم رفضوا وجودي في حياتهم، خوفاً على أنفسهم بالطبع".
"أتذكر جيداً أنني عندما كنت أُنقَل من قسم إلى آخر، كنت أبكي وأستجدي الضباط كي يتركوني مكاني، لمجرد خوفي من المجهول، ولا زال هذا الإحساس متملكاً منّي حتى الآن. لا أريد أن أذهب إلى مكان جديد أبداً"
تتابع أسماء: "في 2019، بعد خوضي رحلة العلاج النفسي، قررت أن أكمل دراستي الجامعية، ودراسة الماجستير في الصحة النفسية (في كلية خدمة اجتماعية في جامعة حلوان)، لكن الدكتورة المشرفة صوّرت منشورات عن حسابي في فيسبوك، وعرضتها عبر ‘بروجكتور’ في قاعة التدريس، وقالت نصاً: ‘أنا خائفة على بناتي’، وزملائي الطلاب في الماجستير كتبوا بياناً ومضوا عليه، أعربوا فيه عن شعورهم بعدم الأمان بوجودي، فطلبت بوليس النجدة لهم، وقرروا التراجع مقابل التنازل عن المحضر. وقتها ساندتني مؤسسة حرية الفكر والتعبير وعدد آخر من المحامين، ولكني لم أكن أملك الطاقة لاستكمال المعركة للعودة إلى الدراسة، فانسحبت وتركت الجامعة".
تُنهي أسماء وصفها لما تركته تجربة السجن في داخلها قائلةً: "الآن، بعد ثلاث سنوات من التعرض لتجربة السجن، لا يسعني سوى القول إنها علامة محفورة في روحي. لا زلت أصحى على موعد الاستيقاظ في السجن، أو ما يسمى بـ‘مِعاد التمام’، ولا زالت رائحة السجن في أنفي. أصبحت شخصاً وحيداً لا أصدقاء له ولا أحباء، بل إن حلم حياتي بأن أعود إلى الحياة مع أهلي، وآكل من يد أمي، وأكون منتميةً إلى أسرة، تبخّر. اشتقت إلى العلاقات العاطفية ووجود حبيب في حياتي. باختصار اشتقت إلى الحياة الطبيعية".
"فيتيش سجينات سياسيات"
تحكي شيماء سامي (30 عاماً)، وهي باحثة وصحافية متخرجة من كلية التجارة في جامعة الإسكندرية، لرصيف22، أنه أُلقي القبض عليها من بيت أهلها في أيار/ مايو 2020، قبل ساعة الإفطار في أحد أيام شهر رمضان، وتقول: "أُخفيت قسراً لمدة عشرة أيام، ثم ظهرت في النيابة في 30 أيار/ مايو".
ظلت شيماء محبوسةً حتى آب/ أغسطس 2021، أي نحو سنة وأربعة أشهر. تقول: "بعد خروجي اختلف تعامل محيطي معي كثيراً. كنت ساذجةً كفايةً لتصور أنه سيكون هناك تعاطف كبير واحتضان من الجميع، وأخص هنا أهلي وأصدقائي. لكن ما حدث كان على عكس توقعاتي".
تشير إلى أن أهلها "أصبحوا خائفين طوال الوقت، ولديهم هاجس وتوقّع بتكرار التجربة في أي وقت. أما الأصدقاء، فكان رد فعلهم يتراوح ما بين الخوف، وهو ما احترمتُه وتفهمته، وبين التعامل معي وكأني قنبلة موقوتة، أو مريضة نفسية، مستغلين أنني صارحتهم بأنني أحتاج إلى وقت للتعافي، لأن التجربة تركت أثرها البالغ على حالتي النفسية. كذلك هناك آخرون يظلون كلما قابلوني يتلفتون وراءهم، وحولنا، خيفة أن نكون مراقبين، وهؤلاء أشفق عليهم وقد قطعت علاقتي بهم".
تروي شيماء ضاحكةً وساخرةً: "أغرب ما حدث معي بعد خروجي من السجن، كانت رغبة بعض الشباب في خوض تجارب عاطفية معي، وكأن تجربة السجن أصبحت عامل جذب، من دون معرفة جيدة بأي شيء عني، وكأن الهدف هو العلاقة بذاتها، وليس أنا كشخص، حتى أنني أطلقت عليهم مزحةً مفادها: ‘دول عندهم فيتيش سجينات سياسيات’".
كانت تلك التصرفات التي تصفها بـ"الساذجة"، تضغطها في البداية، وتستفزها، "ثم تجاوزتُها مع الوقت".
وعلى السوشال ميديا، تلفت إلى أنها لم تتعرض لضغط كبير، "بسبب فقداني حسابي على موقع فيسبوك بعد سجني، إذ بلّغ الأصدقاء عنه حتى يُغلَق ولا يُستخدَم بأي شكل لإدانتي أمنياً، وهو ما أنقذني من جعلي محط أنظار المتابعين وانتباههم. عموماً، من ضمن الأمور التي تغيرت في حياتي بعد تجربة السجن، أنني قللت اهتمامي بالسوشال ميديا بشكل عام، فقد قررت استغلال وقتي أكثر في أمور أخرى، وقررت الاستفادة منه بشكل أكبر".
"خرجت في عدد من اللقاءات لمحاولة الارتباط مرةً أخرى، وكلها فشلت. أذكر مثلاً شخصاً قال لي: ‘أنا آسف مقدرش أرتبط بواحدة الأمن ممكن ياخدها منّي في أي وقت، ووجودها نفسه مش مضمون’"
تصف شيماء أثر السجن عليها بقولها: "لم يكن لتجربة السجن أثرها على حالتي النفسية فحسب، كما أشرت، وإنما أثّرت كذلك على علاقتي بكل من حولي. فعندما كنت في الحبس الانفرادي، كنت أقضي الوقت وأنا أتخيل أنني جالسة مع صديقة، والفضفضة التي ستستغرق منا ساعات، والراحة التي أمنّي نفسي بها، كذلك جلسة طويلة مع أهلي أو مع صديق مقرب، لكن ما حدث كان غير ذلك، فأهلي نفسهم احتاجوا وقتاً حتى يتجاوزوا ما حدث يوم إلقاء القبض عليّ، ولم يكونوا مستعدّين لدعمي أو حتى لسماع أي شيء مني. أما الأصدقاء، فظهر أن أغلبهم كانوا اختيارات خطأ، ما عدا شخصاً أو اثنين. أغلبهم كانوا مجرد مدّعين وغير حقيقيين وسجني كشف لي معدنهم الحقيقي".
"كيف تعايشوا مع كل هذا الألم؟"
تقيم الصحافية بسمة مصطفى (31 سنةً)، حالياً في ألمانيا. أُلقي القبض على ابنة القاهرة ثلاث مرات على خلفية عملها الصحافي، في قضايا مختلفة، كانت آخرها في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، في أثناء عملها على تحقيق ميداني في مدينة الأقصر عن مقتل أحد المواطنين.
"كل من حولي كانوا يتهمونني بالجنون لأني مسافرة إلى هناك (الأقصر)، وهناك من حاول منعي بكل طاقته، ولكنني كنت كالعمياء، ولم أرَ الواقع بشكل جيد. لم أكن مقتنعةً بأن مهنة الصحافة تفريباً ماتت، وأنه لم يعد بإمكاننا الكتابة بحرّية محاولين إحداث أي تغيير. كنت لا زلت حبيسة أجواء ما بعد 2011، ولكنني استفقت من كل هذا مع قسوة الطريقة التي أُلقي القبض عليّ بها"، تقول لرصيف22.
أُلقي القبض على بسمة بكمين في محطة الحافلات الذي استقلته متوجهةً إلى الأقصر، "بطريقة مؤلمة ومهينة. اقتادوني إلى الأمن الوطني، ومكثت هناك 24 ساعةً، تعرضت خلالها لأربع جلسات تحقيق كانت في غالبيتها عن عملي الصحافي واهتماماتي السياسية والأماكن التي عملت فيها، ثم رحّلوني إلى النيابة في اليوم التالي. كنت أبحث في الوجوه التي حولي عن أي أحد أعرفه ليبلغ زوجي وأصدقائي بأنني هنا، حتى وجدت محاميةً زميلةً لزوجي كريم، وللمحامي الخاص بي".
"أغرب ما حدث معي بعد خروجي من السجن كانت رغبة بعض الشباب في خوض تجارب عاطفية معي، وكأن تجربة السجن أصبحت عامل جذب، حتى أنني أطلقت عليهم مزحةً مفادها: ‘دول عندهم فيتيش سجينات سياسيات’"
في النيابة، خضعت بسمة لجلسة تحقيق غير رسمية لمدة خمس ساعات متواصلة، "ثم بدأ التحقيق الرسمي، وبعدها حضر زوجي ووجهوا إليّ تهمتين: نشر أخبار كاذبة، والانتماء إلى جماعة إرهابية، على ذمة القضية 959 أمن دولة عليا، وانتهى التحقيق بعد تسع ساعات بقرار حبسي لمدة 15 يوماً".
بعدها، نُقلت الصحافية الشابة إلى سجن مكثت فيه ثلاثة أيام، وقبلها مكثت يوماً في الأمن الوطني. "كانت التجربة كلها عمرها أربعة أيام، ولكني وحتى الآن أشعر بأنني خرجت أمس فحسب من السجن، ولا يمكنني حتى القدرة على تخيّل زملائي الذي مكثوا داخل السجون سنةً أو اثنتين أو ثلاث سنوات. كيف تعايشوا مع كل هذا الألم؟".
على عكس أسماء وشيماء، وطّدت تجربة بسمة علاقتها مع أسرتها. "كانوا سعيدين بخروجي بالطبع، وكانوا فخورين بمحاولاتي لأداء مهمتي والتزامي بمبادئي على الرغم من المخاطر، ولم أواجه لوماً ولا عتاباً، بل كانوا حزينين فحسب على خوضي تلك التجربة.
في تلك الرحلة، كانت بسمة وزوجها منفصلَين. تروي أن "جيران زوجي نظروا إلي نظرات مليئةً بالريبة والتساؤلات، خاصةً أنني خرجت من السجن وعُدت إلى المنزل بصحبة قوة من القسم، ولكن لم يوجهوا إلي كلاماً مباشراً. أما جيراني في شقتي، وأصحاب المتاجر المجاورة، فتفاجأت بكمٍّ لم أكن أتوقعه من الدعم والمساندة والسؤال عن صحتي وحالتي. مالك العقار حادثني هاتفياً، وظل يسألني إن كنت أحتاج إلى شيء، وعرض عليّ تأجيل دفع الإيجار، وبارك لي خروجي بالسلامة. والحقيقة، فور رؤية رقم هاتفه على شاشة هاتفي، ظننت أنه سيطالبني بالرحيل عن الشقة، ولكن ما حدث كان العكس تماماً".
تشير بسمة إلى أن ما يتناولها على منصات التواصل الاجتماعي، "كان مصدر ضغط"، فـ"هناك من يدفعه حبه لي إلى أن يتوقع مني أن أتحسن سريعاً، أو أن أرمي وراء ظهري كل ما نتج عن تلك التجربة من تشوهات نفسية، وهو ما لا يحدث بسهولة أبداً. كلما حكيت عن مشاعر الضعف في داخلي، أجد من يحاول مصادرة وجعي بالقول: ‘الحمد لله إنتِ مع أهلك وبرّا السجن’".
على الرغم من أنها مكثت في السجن أربعة أيام فقط، "إلا أنها كانت دهراً بالنسبة إلي، بل إنني دوماً أشعر بأنني خرجت أمس فحسب. الصمت وعدم مشاركة مشاعري يزيدان من وطأة شعوري بالوحدة، خاصةً وأنني خارج مصر حالياً، وليس هناك كثيرون حولي ممن يمكنني أن أشاركهم مشاعري".
عندما أُلقي القبض على بسمة، لم تكن تعلم بأنها حامل. "علمتُ بذلك في السجن، وحين أجروا لي أشعةً تلفزيونيةً (سونار)، سمعت نبض الجنين للمرة الأولى داخل السجن. وقتها نقلوني إلى عنبر الحوامل والمرضعات، ورأيت حولي أطفالاً يزحفون. كانت مشاهد قاسية لا يمكن أن أنساها أبداً".
وتروي أنه على الرغم من ارتباطها "بشكل عجيب" بجنينها، "إذ كنت أراه مقاتلاً، وقد عاش معي تجربةً صعبةً"، و"لكن فور خروجي من السجن، قررت إجهاضه، وأجريت الإجهاض قبل سفري مباشرةً. انمحت تلك الذاكرة من عقلي، ولكنني تذكرتها وأنا في لبنان، وكان محطةً انتقاليةً بعد خروجي من مصر، وكانت عبارةً عن كابوس يطاردني. كان ذلك بعد خروجي من السجن بستة أشهر كاملة. ظلت تجربة السجن تشكل حائط صدّ بيني وبين تفكيري في الحمل والإنجاب مرةً أخرى، فأجهضت مرةً ثانيةً وأنا في لبنان، لأنني لم أعد أتخيل نفسي قادرةً على الإتيان بأطفال إلى هذا العالم الذي لا أستطيع حماية نفسي أو حمايتهم فيه".
"لم يكن أثر السجن مقتصراً على هذا فحسب"، تروي بسمة، "بل إنه حرمني من بلدي ومن ذكرياتي ومن شغفي، ومزّقني ومزّق عائلتي وكل الروابط التي تجمعني بهم وبمصر، فلم أستطع حتى وداع أهلي ولا أصحابي ولا الأماكن التي ربطتني بها ذكريات، لأنني كنت خائفةً من ألا أنجح في الهروب، وأن أعود إلى السجن مرةً أخرى. نعم، أنا خارج السجن حالياً، ولكن التجربة هي سجن موازٍ. المختلف فحسب أن الحراس تبدلوا وأصبحوا حدوداً ومطارات وتأشيرات".
أما علاقتها بزوجها، فقد ازدادت قوةً وصلابةً، "بل إن التجربة ساعدتنا على إعادة اكتشاف علاقتنا ومحبتنا لبعضنا، وإعادة التفكير في قرار الانفصال، وأضافت جانباً آخر رومانسياً على علاقتنا، على الرغم من الألم والمعاناة".
"حريتي منقوصة"
حين أُلقي القبض عليها في كانون الثاني/ يناير 2018، كانت الصحافية حنان عامر تبلغ من العمر 52 عاماً، وتدير موقعاً إلكترونياً خاصاً بها. تروي لرصيف22: "قضيت في السجن أربعة أشهر و12 يوماً، في حبس احتياطي على ذمة التحقيقات، بقضية تحمل التهم المعروفة نفسها، أي نشر أخبار كاذبة والتحريض ضد مؤسسات الدولة والانضمام إلى جماعة محظورة".
"كانت أسوأ تجربة حياتية مرّت عليّ"، تقول. وبالنسبة إلى رد فعل المحيطين بها، "تراوحت ردود أفعالهم بين التعاطف، إذ رأى بعضهم أنني بطلة خاصةً أنني لا أنتمي إلى حزب سياسي ولا أصنّف نفسي ذات توجه معيّن، فكان هذا عاملاً في التأثير عليهم، وكأن لسان حالهم يقول: ‘يا حرام دي حبسوها ليه؟ ولا هي إخوان ولا 6 نيسان/ أبريل’، بينما رأى آخرون أن ما حدث معي يجعلني عبرةً لمن يعتبر، وفق قاعدة: ‘أديكو شفتوا اللي بيكتب حاجة بيروح فين وبيحصل له إيه’".
"ظلت تجربة السجن تشكل حائط صدّ بيني وبين تفكيري في الحمل والإنجاب مرةً أخرى، فأجهضت مرةً ثانيةً، لأنني لم أعد أتخيل نفسي قادرةً على الإتيان بأطفال إلى هذا العالم الذي لا أستطيع حماية نفسي أو حمايتهم فيه"
لم تتوقف تجربتها مع خروجها من السجن، فقد اختبرت حنان المتابعة مع القسم كل شهر إلى أجَلٍ غير مسمى، و"هو ما زاد من تأثري نفسياً، حتى هاجرت بعد عام ونصف، ولا زالت قضيتي معلقةً، الأمر الذي زاد من شعوري بالوحدة والخوف. شعرت بأنني خرجت من سجن صغير إلى آخر كبير. التفات الأنظار إليّ على السوشال ميديا ضغطني وجعلني أشعر طوال الوقت بأن رأيي وصوتي وعقلي وتفكيري تحت الرقابة. لم أشعر بالحرية سوى عندما خرجت من مصر، ولكني لا زلت أشعر بأن حريتي منقوصة، وأشعر بالقيود والوحدة، نظراً لوجود أهلي وعائلتي داخل مصر".
تتابع عامر: "المسجون السياسي لا يعاني وحده، بل يعاني معه كل من يحبونه ويهتمون لأمره، لكن الجانب الإيجابي الوحيد في الأمر، هو أن الشدائد تعطي فرصةً لإعادة ترتيب علاقاتنا بالأصدقاء والعائلة وتقييمها، لوضع كل فرد منهم في مكانته الصحيحة. خاب ظني بالبعض من الأهل، ولكن عوّضني عنهم كثيرون من المعارف والاصدقاء، وصنعت صداقاتٍ جديدةً، بالإضافة إلى جانب أولادي الذين أثبتوا أنهم أقوى حتى من توقعاتي أنا نفسي".
حين أُلقي القبض عليها في منزلها فجراً، تروي أنها وجدت دعماً غير محدود من ابنتها التي تركت زوجها وطفلتها في الإمارات وحضرت إلى مصر، "لتلقي بنفسها في النار، بل ولم تكتفِ بدعمي أنا فحسب، وإنما كانت ترعى أخاها الأصغر ذا الـ17 عاماً، وكانت سنداً له، كما كانت لي. مهما وصفت الدور الذي قامت به، فلن أوفيه حقه بالكلمات".
وبعد خروجي من السجن، وجدت أيضاً دعماً من الجيران، "على الرغم من سطحية علاقتي بهم. كانوا دائمي الاطمئنان عليّ، ومنهم جارة احتضنتني وبكت وكانت مشاعرها جميلةً جداً لم أكن أتوقعها. وصديق ابني ووالدته ساعداه كثيراً نفسياً ودعماه، بل إن والد صديقه ذهب لاستقبال ابنتي في المطار، ثم قاموا بإيصالها إلى السجن، والحقيقة أن كل تلك المواقف والأفعال، لم يفعلها إخوتي أنفسهم".
وعن إخوتها، تقول: "إخوتي كنت أتوقع منهم دعماً كبيراً ودوراً أكبر، ولكن ما حدث أنهم خافوا من أن يتواصلوا مع ابنتي أصلاً. تسامحت معهم ولكن ظل في داخلي حزن بشكل ما. حتى بعد خروجي، كان هناك من أهلي مَن يخشى التواصل معي، ولكن بعد فترة عاد التواصل بشكل طبيعي، وأنا تجاوزت تقصيرهم".
تلخّص حنان تجربتها بالقول: "دعمني من لم أتوقع منه الدعم، وخذلني من لم أكن أنتظر منه الخذلان".
و"داخل السجن، تعرفت إلى صديقة صحافية كانت في عمر ابنتي تقريباً. بعد خروجها، أرشدت ابنتي للتواصل مع منظمات حقوقية ومحامين يبذلون جهوداً كبيرةً لدعم معتقلي الرأي، وقامت هي بنشر قصتي وأخذت على عاتقها دعمي من خلال السوشال ميديا، وبسبب هذا الدعم القانوني والنفسي، خرجت. من دونهم ربما كنت لا زلت منسيةً في السجن".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت