استيقظ العالم العربي صبيحة يوم الأربعاء 11 مايو/ أيار الماضي، على خبر استشهاد الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، أثناء تغطيتها اجتياح جيش الاحتلال مخيم جنين.
في القاهرة، جلست كغيري من الصحافيين المصريين أتابع المشهد القاسي، لتستدعي ذاكرتي مشهد اغتيال صحافية مصرية بطلقة رصاص وجهت إليها عمداً في العام 2014، أثناء قيامها بتغطية أحداث العنف بين قوات الامن ومتظاهرين منسوبين لجماعة الإخوان المسلمين، الذين اتهموا بقتلها ضمن أربعة قتلوا ذلك اليوم، جميعهم من المدنيين.
تشبه الزميلة الراحلة ميادة مئات العاملين في الصحافة في مصر، فتاة أتت من إحدى المحافظات – المنوفية تحديداً- ولديها أحلام عريضة بالنجاح في المهنة الصعبة وسط ظروف عمل معروف مدى سوئها، وأتى اغتيالها في لحظة بداية إغلاق المجال العام وتراجع الحريات الإعلامية، وكلها عوامل جعلت من اغتيالها واحدة من اللحظات الفارقة المبكرة في أثرها على العاملين بالصحافة في مصر.
تشبه الزميلة الراحلة ميادة أشرف مئات العاملين في الصحافة المصرية، فتاة أتت من إحدى المحافظات، ولديها أحلام عريضة بالنجاح وسط ظروف عمل معروف مدى سوئها، وأتى اغتيالها في لحظة بداية إغلاق المجال العام. كلها عوامل جعلت من اغتيالها لحظة فارقة في أثرها على العاملين بالصحافة في مصر
البعد عن السياسة
يوم اغتيال ميادة أشرف كان أول يوم لي في العمل صحافية تقارير ميدانية، وآخر يوم كذلك، إذ قدمت طلباً إلى مجلس تحرير الصحيفة المصرية التي أعمل بها للانتقال إلى القسم الثقافي، والابتعاد عن التغطيات السياسية.
لم أكن الصحافية الوحيدة التي ابتعدت عن قسم السياسة وأقسام التحقيقات والمتابعات الميدانية في الأشهر التالية، ليس فقط بفعل الخوف من مصير ميادة وإنما لتقليص قوة العمل في تلك الأقسام في الصحف والمواقع المصرية، بما يتناسب مع تقلص المشهد السياسي في البلاد، وانتشار "مناخ التخوين" الذي انعكس على توجس الناس في الشارع من الصحافيين، إضافة إلى تزايد وقائع الاعتداء على الصحافيين وتعرضهم للحبس أو السجن بتهم تتصل بممارسة عملهم الصحافي.
مصر جحيم الصحافيين
يعد "المناخ غير الآمن للعمل الصحافي" أحد الأسباب الرئيسة لما يسمى "الإجهاد المهني" للصحافيين كما ترصده دراسة الباحث الليبي عبدالله أطبيقة المعنونة "الضغوط المؤثرة على الممارسة المهنية الإعلامية"، وهي دراسة ميدانية أجراها الباحث على صحافيي مدينة بني وليد اللليبية، لكن ما جاء فيها لا يختلف كثيراً عن ظروف العمل المحيطة بالصحافة في مصر.
في دراسته الصادرة عن كلية الآداب في جامعة سرت، يخلص الباحث إلى أن الصحافيين يعانون من الإجهاد المهني، الذي تتمثل أسبابه في الدعم غير الكافي من الإدارة، والمناخ غير الآمن للعمل الصحافي، والضغط الزائد للوقت "الديد لاين"، بالإضافة إلى ساعات العمل الطويلة، بجانب تعرض الزملاء الصحافيين لبعض التهديدات بالقتل.
في تقريرها الصادر للعام 2022، اعتبرت منظمة مراسلون بلا حدود مصر "من أكبر سجون العالم بالنسبة للصحافيين"، واحتلت مصر المركز 168 في حرية الصحافة من أصل 180 دولة، وصنفت حالة حرية الصحافة في مصر بأنها حالة شديدة الخطورة، "وذلك بالنظر إلى حصيلة كمية الانتهاكات المرتكبة ضد الفاعلين الإعلاميين أثناء ممارسة عملهم، وكذلك ضد وسائل الإعلام".
وبحسب موقع مراسلون بلا حدود فإن الصحافيين يعانون على مستوى العالم، فقد وصل عدد الصحافيين الذين قتلوا أثناء عملهم منذ بداية العام الجاري إلى 34، بينهم اثنان من المتعاونين مع وسائل الإعلام، فيما وصل عدد المسجونين إلى 505.
تقول ليلى محمد، محررة ديسك في إحدى الصحف المصرية لرصيف22 إن الموقف الذي أثر في اتخاذها قرار الانتقال من الصحافة الميدانية إلى قسم الديسك، كان القبض على زميليها الصحافية مي الصباغ والمصور الصحافي أحمد مصطفى أثناء عملهما على تقرير تقليدي عن ترام الأسكندرية، "الأمر الذي كان له أكبر الأثر في انتقالي للعمل إلى قسم المراجعة (الديسك)، وبسبب تلك الواقعة لم أنشر أي مواد صحتفية معمقة لها علاقة بالملف السياسي طيلة عامين، خوفاً من الملاحقات الأمنية".
لم أكن الصحافية الوحيدة التي ابتعدت عن أقسام السياسة والتحقيقات والمتابعات الميدانية، ليس فقط بفعل الخوف من مصير ميادة وإنما لتقليص قوة العمل في تلك الأقسام في الصحف والمواقع، بما يتناسب مع تقلص المشهد السياسي في البلاد
أما شيماء محمود فقد تركت الكتابة الصحافية كلياً، وانتقلت للعمل في مجال التسويق الإعلامي في إحدى المؤسسات التنموية وفي وزارة الدولة للشباب والرياضة، تقول محمود: "تعرضت لحالة حزن شديدة اقتربت من الاكتئاب بعد حادثة استشهاد ميادة أشرف عام 2014. كانت مشاعري مختلطة لم أفهم ما أمر به".
وتابعت: "عام 2015 كان عام الفصل في علاقتي بالصحافة إثر وفاة صديقتي أمينة بعد تعرضها لحادث سير أثناء تأديتها لعملها الصحافي". وأكدت شيماء أن المؤسسة الصحافية التي عملت فيها مع صديقتها أمينة تنصلت من كل حقوق الراحلة، ووصل الأمر إلى عدم تقديم واجب العزاء لأسرتها، بجانب إنكار رئيس التحرير معرفته بأن الزميلة كانت في مهمة عمل خاصة بالمؤسسة.
وأضافت: "منذ تلك اللحظة قررت ترك العمل الصحفي"، نظراً لإصابتها بنوبة اكتئاب وحالة من الخوف من العمل الصحفي استمرت لعام كامل، "وزاد من حالة الخوف عدم وجود أي وسائل لحماية الصحفيين من ضغوط العمل، وعدم وجود أمان وظيفي أو نفسي للعاملين بمهنة الصحافة". لم تستطع شيماء رغم ذلك ان تبتعد كلياً عن الصحافة، فاقتربت منها على حذر من خلال العمل كمنسق إعلامي لمؤسسة مجتمع مدني معنية بالصحافيات والعاملات في الحقل الإعلامي.
ليس الحبس فقط
الصحافية مي الصباغ نفسها التي تعرضت للحبس ووجهت إليها اتهامات بنشر الأخبار الكاذبة ومعاونة جماعة إرهابية، وغيرها من قائمة الاتهامات المكرر توجيهها للنشطاء والصحافيين، قالت لرصيف22 إن واقعة حبسها لم تكن وحدها التي أثرت في اتجاهاتها نحو العمل الصحافي، بل بدأ تعرضها لنوبات اكتئاب بسبب ضغوط العمل الصحافي، بعد قراءتها عن واقعة الاغتصاب والانتهاك الجنسي الجماعي الذي تعرضت له الصحافية الامريكية لارا لوجان على يد محتفلين في ميدان التحرير يوم إعلان الرئيس الاسبق حسني مبارك تنحيه عن الحكم في 11 فبراير/ شباط 2011.
مؤكدة أن الحادثة أثرت عليها "على المستويين النفسي والمهني"، واتخذت صحافية التقارير الميدانية قراراُ بالبعد التام عن العمل في الشارع والأماكن المفتوحة، وباتت تغطياتها تقتصر على الأماكن المغلقة كالمؤتمرات والندوات.
وتشير الصباغ إلى أن حادثة استشهاد مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة أصابتها بحزن شديد، خاصة بعد ظهور ردود الأفعال حول ديانتها وإمكانية الترحم عليها أم لا، رغم ما قدمته للقضية الفلسطينية على مدار 25 عاماً، موضحة أنها دخلت في نوبة بكاء مستمر استمرت أربعة ساعات بعد سماعها الخبر.
وعلى صعيد آخر توضح منيرة الجمل صانعة محتوى، تعرضها شخصياً لانتهاك من قبل الإدارة الصحافية، مشيرة إلى فترة عملها في إحدى المواقع المصرية أربعة سنوات في قسم الترجمة، وفي إحدى المرات طلب منها رئيس القسم ترجمة إحدى القطع الصحفية التي تعرف أنها ستثير غضب الدولة، "لكني لم أملك الرفض، وبعد نشر الترجمة رفع أحد الضباط قضية علي بصفتي المترجمة لتلك المادة".
وتتابع لرصيف22: "تم التحقيق معي، واعتبرتني النيابة شاهدة لاستغلال الموقع لي خاصة أنني لم أكن عينت في تلك الفترة، وبعد تلك الواقعة رشح الموقع عدداً من الزملاء للتعيين ولم أكن منهم رغم أحقيتي بذلك، فتم اختيار المرشحين عن طريق الأهواء الشخصية، وليس عن طريق الكفاءات".
وتقول منيرة إن رئيس التحرير بعد تلك الواقعة "اضطهدها" لأنها أصرت على الذهاب إلى التحقيقات، رغم قراره بعدم ذهابها، موضحة أنها بعد انتهاء التحقيقات وعدم تعيينها، قررت ترك الصحافة نهائياً، واتجهت للعمل في مجال صناعة المحتوى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين