"لا يمكن أن أنسى كيف فوجئنا بالنيران تلتهم الغابات في الجبل، وكيف انتشرت بسرعة كبيرة. كنا عاجزين عن فعل أي شيء في ظل عدم توفر المعدات اللازمة لدينا لنقوم بعملية الإطفاء، فضلاً عن كون الحادث جرى من دون سابق إنذار. أربعة أيام ونصف ونحن نتابع مشهد النيران وهي تحصد النسيج الأخضر الذي كان يسرّ القلب والعين معاً، ويتحول إلى رماد أسود يدمي القلب ويحزنه".
بهذه الكلمات التي غلبت عليها الحسرة والحزن، تحدث العم تيجاني، المشرف العام على حراس غابات جبل برقو في محافظة سليانة شمال غرب تونس، التي شهدت حريقاً هائلاً في آب/ أغسطس الفائت، أتى على قرابة 1،500 هكتار، ويضيف لرصيف22، أنه وبعد جهود كبيرة تمت السيطرة على الحريق بصعوبة وبمعاضدة إلهية مع نزول المطر، وكأن الرب استجاب لصرخات الأهالي ودعواتهم.
لا يمكن أن أنسى كيف فوجئنا بالنيران تلتهم الغابات في الجبل، وكيف انتشرت بسرعة كبيرة.
لكن الحصيلة ثقيلة كما يقول: "مئات الهكتارات من أشجار الصنوبر الحلبي وإكليل الجبل والعرعار البري والفلين والزان وغيرها، التهمتها النيران، ولن يكون من السهل استعادتها لأسباب عدة. فالصنوبر الحلبي يحتاج إلى نزول الأمطار بكميات كبيرة على مدار أربع سنوات على الأقل لينمو مجدداً ويشتدّ عوده، وهذا صعب في ظل تراجع نسبة هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة. زد على ذلك أن تكاثر هذه الأشجار وانتشارها السريع يتمان عادةً من خلال تساقط حبات الصنوبر على الأرض، وتوزعها عشوائياً لتتحول في ما بعد إلى شجيرات جديدة، وهذا لن يكون ممكناً بعد أن أكلت النيران عدداً كبيراً من الأشجار، وسيكون علينا انتظار سنوات طويلة حتى تنمو الأشجار الجديدة".
ويضيف العم تيجاني، حول الأخطار البيئية الأخرى التي سببتها الحرائق: "هناك أيضاً مياه العيون التي تنزل من الجبل، وكانت الأشجار تسحبها، وتساهم بقية النباتات والأعشاب في استقرارها في الغابة وتالياً تجعلها دائماً في حالة ارتواء، ولكن بعد الحريق تتدفق المياه مسرعةً من دون توقف، وتذهب بلا فائدة بعيداً. كما أن فرضية تلوث المياه قائمة بسبب مخلّفات الحرائق. أما الحيوانات، فبعضها سيعود ولو بعد حين كالذئاب، لأنها من النوع الذي يألف مكانه، ولكن حيوانات أخرى قد لا تعود، لأنها من جهة فقدت الفضاء الأخضر الجاذب لها، ومن جهة أخرى لم تعد تشعر بالأمان، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فقدان المكان خصوصيته".
"تبعث على القلق"
يؤكد تقرير صادر عن جمعية الأمم المتحدة للبيئة، ما ذهب إليه العم تيجاني، إذ يوضح أن حرائق الغابات تولّد غاز الكربون الأسود وعناصر أخرى يمكن أن تلوث مصادر المياه، وتعزز ذوبان الأنهار الجليدية، وتسبب الانهيارات الأرضية، وتحوّل مصارف الكربون مثل الغابات المطيرة إلى مصادر كربونية.
وشهدت تونس هذه السنة موجةً كبيرةً من الحرائق، تواترت خلال فصل الصيف، واتسعت رقعتها لتشمل مناطق عديدة من البلاد، متسببةً في إتلاف مساحات مهمة من النسيج الغابي والنباتي، وإلحاق أضرار بالحيوانات. وأثارت هذه الموجة مخاوف كبيرةً من آثارها السلبية على المنظومة البيئية والتنوع البيولوجي، لا سيما وأن معدلات الحرائق تزايدت في السنوات الأخيرة وباتت تبعث جدياً على القلق.
وسجلت تونس 255 حريقاً غابياً في مختلف محافظات البلاد، أتت على أكثر من 5،317 هكتار بارتفاع بنسبة 11 في المئة عن السنة الماضية. وبلغت حرائق المحاصيل الزراعية 352 حريقاً أتت على قرابة 620 هكتاراً، بمعدل ارتفاع بلغ 9 في المئة عن السنة الماضية، وذلك في الفترة الممتدة من بداية كانون الثاني/ يناير 2022 إلى منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، وذلك حسب تقديرات الناطق الرسمي باسم الحماية المدنية العميد معز تريعة، خلال حديثه إلى رصيف22.
مئات الهكتارات من الأشجار التهمتها النيران، ولن يكون من السهل استعادتها لأسباب عدة. فالصنوبر الحلبي يحتاج إلى نزول الأمطار بكميات كبيرة على مدار أربع سنوات على الأقل لينمو مجدداً ويشتدّ عوده، وهذا صعب في ظل تراجع نسبة هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة
وكان أخطر حرائق هذه السنة ذاك الذي نشب في السلسلة الجبلية الممتدة من جبل بوقرنين إلى جبل برج السدرية في محافظة بن عروس شمال شرق تونس، في تموز/ يوليو الماضي، مخلفاً مساحات محروقةً قُدّرت بـ533 هكتاراً من غابات العرعار والصنوبر الحلبي والغابة الشعراء، وحريق جبل برقو الذي استمر لخمسة أيام بدءاً من تموز/ يوليو الماضي، وأسفر عن خسائر هائلة على مستوى الأشجار الغابية والمثمرة والحيوانات من أرانب برية وزواحف وذئاب وخنازير ونحل وطيور.
وحسب المتحدث باسم الحماية المدنية في تونس، معز تريعة، فإن العامل البشري هو السبب الأكبر في اندلاع الحرائق سواء كانت بشكل متعمد أو حوادث عرضيةً غير مقصودة، إذ أكد في تصريح لرصيف22، أن 4 في المئة فقط من أسباب اندلاع الحرائق هي عوامل طبيعية متمثلة في ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية لم تُسجّل سابقاً بسبب تأثير التغييرات المناخية، و96 في المئة منها عوامل بشرية.
"كارثة حقيقية"
تتسبب الحرائق في تآكل المساحات الغابية في تونس، وتهدد البيئة والهواء بسبب الإفرازات السامة التي تنجم عنها، والتي تؤثر سلباً على صحة الإنسان، خاصةً أولئك القاطنين على مقربة من الغابات المحروقة، كما تهدد استمرارية الثروة الحيوانية والمتكونة بالأساس من الخنازير والأرانب والطيور.
هذا الخوف تستشعره نسرين البرقاوي، وهي فلاحة قريبة من جبل برقو، حُرق جزء من أرضها وزيتونها، ولا تستطيع استيعاب ما حدث مع الغابات الكثيرة التي التهمتها النيران على مقربة من منزلها.
حرائق الغابات تتسبب في خسارة للثروة الحيوانية، لأن بعض الحيوانات تفقد مساكنها فتغادر من غير عودة.
تقول لرصيف22: "كان الحريق أبشع مشهد مر بحياتي كلها. فجأةً يتحول الجبل الأخضر الممتد الذي كنت أرتمي بين أحضان أشجاره ونباتاته في الفرح والحزن مذ كنت طفلةً، إلى سواد قاتم. إنها كارثة حقيقية. لقد فقدنا مصدراً لا يعوّض للهواء النقي، وفي ليلة وضحاها وجدنا أنفسنا نستنشق الدخان وروائح رماد الأشجار المحروقة بعد أن كانت روائح الإكليل والعرعار والصنوبر تنعش أيامنا".
تضيف المتحدثة أن سكان تلك المناطق لا يعرفون اليوم كيف سيعوّضون ذلك الكنز، وأي أمراض ستلحق بهم جراء الدخان الأسود الذي استمر لأيام: "عندما ذهبنا لتفحّص الوضع بعد إخماد الحريق كانت رائحة الدخان والحريق تملأ المكان، وهذا أخافني كثيراً لإدراكي أن حرائق الغابات تتسبب في أمراض تظهر أعراضها بعد سنوات، وهو ما لا يدركه الأهالي ولا حتى السلطات".
وتشير بحزن إلى أنها وللمرة الأولى لا ترى الأرانب البرية تركض مسرعةً أمامها، ولا تسمع العصافير في أعالي الشجر وبين الحشائش. "حتى الزواحف والذئاب التي كانت تخيفني، وددت لو أنها كانت موجودةً في وكرها الأخضر الذي أمسى رماداً. إنه فضاء كامل التكوين اختفى فجأةً".
وتؤكد التقارير العلمية مخاوف نسرين، فالغابات حسب المفوضية الاوروبية تؤدي خدمات بيئيةً مهمةً، مثل حماية التنوع البيولوجي وتوفير الأوكسجين، ما يساهم في استمرار الخدمات الحيوية التي تحافظ على دعم الحياة على سطح الأرض. وفقدان الحشرات والطفيليات من شأنه أن يضعف السلسلة الغذائية، فالحشرات مهمة لأنها تمثل طعاماً للحيوانات الكبيرة مثل الطيور والخفافيش والزواحف، وهي تؤدي خدمات أخرى مثل التلقيح ومكافحة الآفات وإعادة تدوير المواد المغذية.
كما كشفت دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعة موناش الأسترالية، ونشرتها دورية "ذا لانسيت بلانتري هيلث"، أن الملوثات الدقيقة الناتجة عن حرائق الغابات تُعدّ من أسباب زيادة معدلات الوفيات، بالمساهمة في الإصابة بأمراض القلب والرئة.
سنوات طويلة للتجديد
أما الخبير البيئي عبد المجيد دبار، فيرى أن الحرائق في تونس تهدد جدّياً بتآكل الثروة الغابية، ويقول شارحاً لرصيف22: "علمياً نحتاج من 10 إلى 20 سنةً حتى نتمكن من تجديد الغابات المحترقة، حسب نوع الغابة، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعود إلى وضعها القديم. فبالرغم من مرور سنوات على حرائق طالت بعض الغابات في تونس، لا تزال على حالها من يوم احتراقها، والبعض الآخر بدأ ينمو ولكن في هيئة هشة قابلة للتلف السريع، في حين أن الأشجار القديمة ونظراً لامتدادها الزمني، عميقة وقوية".
ومرد ذلك وفق حديث دبار، إلى الظروف المناخية، فالأشجار التي احترقت بلغت تلك الصلابة والنمو المتوازن والكامل بسبب توافر الأمطار بغزارة، مقابل معدل هطول بين متوسط وضعيف في السنوات الأخيرة، يمكن أن تنمو على وقعه نباتات أخرى تلقائية لكن دون القيمة البيئية للأشجار التي احترقت. وستكون الدولة أمام مهمة صعبة، خاصةً أن غابات تونس تحمي التربة من الانجراف والتصحر وتوفر مزيداً من الأمطار، وسيكون فقدانها أو عدم عودتها مؤشراً خطيراً.
عندما ذهبنا لتفحّص الوضع بعد إخماد الحريق كانت رائحة الدخان والحريق تملأ المكان، وهذا أخافني كثيراً لإدراكي أن حرائق الغابات تتسبب في أمراض تظهر أعراضها بعد سنوات، وهو ما لا يدركه الأهالي ولا حتى السلطات
وفيما تبقى هناك فرص لعودة نمو الغابات ولو بعد سنوات، فإن حرائق الغابات كما يقول الخبير تتسبب في خسارة للثروة الحيوانية، لأن بعض الحيوانات تفقد مساكنها ومعها الإحساس بالأمان، فتغادر من غير عودة حتى عندما تستعيد الغابة عافيتها.
وشدد الخبير البيئي بدوره على أهمية عملية الرصد وتطبيق القانون على المخالفين وإرساء منظومة رقابة بالأقمار الصناعية، وكذلك تحسين وضعية جهاز إدارة الغابات والحراس، لأن وضعهم مزرٍ ويعملون بإمكانيات بسيطة.
خطوات لا بد منها
في ظل العدد الهائل للحرائق التي تجتاح غابات تونس، بات الوضع يتطلب جملةً من الحلول والخطوات.
أولاً، على السلطات التونسية الالتفات جدياً إلى أهمية توفير معدات متطورة قادرة على السيطرة على الحرائق في ظرف زمني وجيز، وتجاوز ضعف الإمكانات اللوجستية التي تتسبب في إطالة أمد الحرائق.
ثانياً، وفي ظل ذهاب كل المؤشرات إلى كون العامل البشري أحد أبرز أسباب اندلاع الحرائق، فإنه من الضروري زيادة عدد حراس الغابات، وتدريبهم على كيفية مجابهة الكوارث الغابية، خاصةً أن العدد الحالي لحراس الغابات يبلغ 7،455 عوناً فقط، بمعدل عون حراسة لكل 500 هكتار في حين أن المعدل المطلوب حارس لكل 200 هكتار.
كما أن السلطات في تونس مطالبة بالإسراع في إعادة تشجير المساحات الغابية المحروقة، لضمان عودة الحياة الطبيعية إلى هذه المساحات في أقرب الآجال وتجنّب تصحرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون