في نهاية شهر آب/ أغسطس الماضي، اهتز الشارع التونسي على نبأ وفاة أستاذة في العقد الثالث برفقة ابنها البالغ من العمر 4 سنوات غرقاًّ، وذلك في أثناء مشاركتهما في عملية هجرة غير نظامية انطلقت من شاطئ البغدادي في محافظة المهدية، نحو جريرة لامبيدوزا الإيطالية.
هذه الحادثة أعادت الجدل بخصوص ارتفاع ظاهرة الحرقة (الهجرة غير النظامية)، بشكل ملحوظ، إذ سُجّلت أرقام قياسية في السنوات الأخيرة لهذه المغامرة غير محسوبة العواقب، بينما يُرجع مراقبون ذلك إلى الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها تونس.
لطالما اقتصرت الهجرة غير النظامية في تونس على فئة الشباب، لكنها أصبحت اليوم محل أنظار فئات جديدة من المجتمع لم تكن من قبل تضطر إلى الهجرة مثل النساء والفتيات والأطفال غير المصحوبين بذويهم والموظفين وحتى كبار السن، إلى جانب تسجيل هجرة عائلات بأكملها في كثير من الأحيان.
بحثاً عن حياة أفضل
قبل ستة أشهر، نجا محمد (16 عاماً)، بأعجوبة من حادثة غرق مركب للهجرة غير النظامية قبالة سواحل اللوزة في محافظة صفاقس، لكنه يؤكد لرصيف22، إنه سيعيد الكَرّة، قائلاً: "أستعدّ لخوض التجربة مجدداً برفقة عدد من أصدقائي غير آبه بالمخاطر التي تهدد حياتي".
يقول محمد (اسم مستعار)، وهو متحدّر من محافظة سيدي بوزيد، إنه بدأ فعلياً بجمع مبلغ مالي من خلال عمله في البناء كي يتمكن من المشاركة مجدداً في عملية هجرة غير نظامية يشرف على تنظيمها مهرّبون من تونس وليبيا.
يدرك الطفل محمد، أن رحلته عبر البحر الأبيض المتوسط ستكون محفوفةً بالمخاطر، وأن حلمه بحياة وردية في أوروبا قد يُدفن في عرض البحر، لكنه يقول: "أفضّل الموت في عرض البحر وأنا أقاوم للحصول على حياة كريمة عوض الموت جوعاً في بلدي. خسرت دراستي وليس لديّ ما أخسره بعدها"، وفق تعبيره.
انقطع محمد عن الدراسة في الرابعة عشر من عمره، وبدأ بالعمل برفقة والده وعمّه في ورشات البناء، قبل أن يسيطر حلم الهجرة على تفكيره متأثراً بأقاربه وجيرانه الذين هاجروا نحو أوروبا ونجح البعض منهم في تحسين وضعه الاجتماعي.
يؤكد في حديثه إلى رصيف22، قائلاً: "والدي على علم بنيتي الهجرة ويتفق معي أنها أصبحت حبل نجاة وجب التمسك به للخروج من الفقر والخصاصة".
"أفضّل الموت في عرض البحر وأنا أقاوم للحصول على حياة كريمة عوض الموت جوعاً في بلدي. خسرت دراستي وليس لديّ ما أخسره بعدها"
محمد واحد من مئات الأطفال الذين اختاروا ركوب قوارب الموت والهجرة بطريقة غير نظامية نحو سواحل إيطاليا، في وقت تعيش فيه تونس على وقع أزمة اقتصادية نتج عنها تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وغلاء أسعار المواد الغذائية وفقدان مواد أخرى من الأسواق.
وتقرّ منظمات المجتمع المدني في تونس، بأن ظاهرة الهجرة غير النظامية لم تعد حكراً على فئات الشباب المعطلين أو الذين يمارسون أعمالاً هشّةً، وتؤكد أن قوارب الهجرة نحو أوروبا أصبحت أيضاً ملاذاً للنساء والأطفال والمتعلمين وميسوري الحال من الطبقة المتوسطة.
إتجار بالبشر
يشير عماد السلطاني، رئيس جمعية الأرض للجميع، إلى أن الهجرة غير النظامية في تونس أخذت أشكالاً خطيرةً في السنوات الأخيرة، منها استغلال الأطفال والنساء والإتجار بهم واستعمالهم "كدروع" للحصول على اللجوء الإنساني في الدول الأوروبية.
يضيف السلطاني، في حديثه إلى رصيف22، أنه لاحظ في السنتين الأخيرتين خصوصاً، إقبال الأطفال دون سن الثامنة عشر على المشاركة في عمليات الهجرة غير النظامية أحياناً من دون علم عائلاتهم، وأحياناً أخرى بعلمها وبتمويل منها.
يؤكد الناشط أنه "من غير المقبول اليوم أن تسمح العائلة لابنها القاصر بركوب قوارب الموت في رحلة تهريب محفوفة بالمخاطر والتجاوزات"، مشيراً إلى "غرق عشرات القوارب في البحر المتوسط بشكل شبه يومي وانتشال عشرات الجثث لأطفال ونساء أغلبهن حوامل".
"في السنة الماضية كان ابني إياد (15 عاماً)، يستعدّ للالتحاق بمدرسته لكنه اليوم مفقود ولا نعرف إن كان حياً أو ميتاً. لا أتمنى سوى عودته سالماً إلى عائلته ووطنه"
يتابع حديثه قائلاً: "للأسف اليوم عشرات الأطفال مفقودون وآخرون غرقوا في عرض البحر بينما وصل العشرات منهم إلى الدول الأوروبية مثل إيطاليا ويعيشون ظروفاً قاسيةً وحياتهم معرضة للخطر خصوصاً أن أغلبهم غير مصحوبين بذويهم".
في السياق ذاته، يرى السلطاني أن "توجه فئات مثل الأطفال والنساء نحو الهجرة بطريقة غير نظامية إلى إيطاليا، جاء خصوصاً بعد أن سنّت إيطاليا تشريعاً شاملاً لحماية حقوق الأطفال غير المصحوبين بذويهم إلى جانب التزامها باحترام القوانين الدولية التي تلزمها بحماية النساء وتوفير الحماية لهن.
في آذار/ مارس 2017، اعتمد البرلمان الإيطالي "قانون زامبا" الذي يهدف إلى تعزيز الدعم والحماية للأطفال الأجانب غير المصحوبين بذويهم أو المنفصلين عنهم، لتصبح بذلك إيطاليا الدولة الأوروبية الأولى التي شرّعت إطار عمل شامل لحماية الأطفال المهاجرين بطريقة غير نظامية، لكنها في المقابل تتّبع سياسة التهجير القسريّ مع الفئات الأخرى في إطار اتفاقية موقّعة مع الدولة التونسية.
"الفقر هو الذي دفع طفلي إلى الهروب من تونس، وهو لا يزال قاصراً. أصبح الجميع يفكرون في الهجرة بحثاً عن حياة كريمة وهرباً من الفقر والجوع"
هنا يقرّ عماد السلطاني، بأن معرفة التونسيين بالقوانين الدولية والإيطالية دفع عدداً كبيراً من البالغين إلى الهجرة برفقة أطفالهم وزوجاتهم للنجاة من الترحيل القسري، مشيراً أيضاً إلى لجوء عدد من الشباب إلى إغراء بعض الأطفال الذين لا تربطهم بهم قرابة لاصطحابهم معهم في قوارب الموت مقابل دفع ثمن الرحلة.
يصف السلطاني ما يحدث بـ"التحايل على القانون من خلال اختطاف أطفال في كثير من الأحيان، والإتجار بهم وتعريض حيواتهم للخطر"، كما يتهم السلطات التونسية "بالفشل في حماية الأطفال والنساء وإيجاد حلول جذرية لهذه الظاهرة"، وفق تعبيره.
أحلم بعودة ابني
منذ شهر تموز/ يوليو الماضي، يخوض سالم، المتحدّر من محافظة سليانة، رحلةً شاقةً بين وزارة الخارجية التونسية والجمعيات المهتمة بشؤون المهاجرين لمعرفة مصير ابنه المفقود الذي شارك في عملية هجرة غير نظامية انطلقت من سواحل محافظة المنستير.
يقول سالم في حديثه إلى رصيف22: "في السنة الماضية كان ابني إياد (15 عاماً)، يستعدّ للالتحاق بمدرسته لكنه اليوم مفقود ولا نعرف إن كان حياً أو ميتاً. لا أتمنى سوى عودته سالماً إلى عائلته ووطنه".
شارك إياد في عملية هجرة غير نظامية برفقة عدد من أبناء حيّه أغلبهم لا تتجاوز أعمارهم العشرين عاماً، وتمكنوا من الوصول إلى السواحل الإيطالية يوم 18 تموز/ يوليو الماضي، بأمان، لكن والده يقول: "تواصل معي عبر الهاتف فور وصوله وأبلغني أنه بخير ومنذ تلك اللحظة أصبح هاتفه خارج الخدمة".
يواصل والد إياد حديثه بصوت حزين، ليقول: "الفقر هو الذي دفع طفلي إلى الهروب من تونس، وهو لا يزال قاصراً. أصبح الجميع يفكرون في الهجرة بحثاً عن حياة كريمة وهرباً من الفقر والجوع".
أطفال في خطر
يؤكد الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، أن 2،424 طفلاً هاجروا إلى إيطاليا بطريقة غير نظامية خلال الأشهر الثمانية الأولى من سنة 2022، منهم 1،687 طفلاً غير مصحوبين بذويهم و737 وصلوا برفقة عائلاتهم.
أضاف بن عمر في حديث إلى رصيف22: "المنتدى لاحظ ارتفاع عدد الأطفال المهاجرين بطريقة غير نظامية في السنوات الأخيرة، إذ هاجر في 2021، نحو 2،731 طفلاً منهم 2،076 طفلاً غير مصحوبين بذويهم، و655 مع عائلاتهم، بينما هاجر 1،826 طفلاً سنة 2020.
أشار رمضان بن عمر إلى أن أغلب الأطفال الذين ركبوا قوارب الموت، غادروا مقاعد الدراسة في سن مبكرة، مشيراً إلى أن نحو 100 ألف طفل تونسي ينقطعون عن الدراسة سنوياً بسبب عجز الدولة عن القيام بدورها تجاههم.
ورأى أن نظرة التونسيين إلى النجاح تغيرت فهي لم تعد مرتبطةً بالتعلم، ووجدوا طرقاً أخرى لتحقيق الربح السريع مثل الهجرة التي قد تنقذهم من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها بلادهم.
كما تحدّث الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، عن عمل بعض العائلات على توفير المال الكافي لأبنائها ومساعدتهم على الهجرة بطريقة غير نظامية لإنقاذهم من شبحي البطالة والانحراف.
يتابع قائلاً: "هناك عائلات ترى أن مساعدة ابنها على الهجرة قد تمكنه من بناء مستقبل جيد عوض البقاء في تونس من دون عمل. تخلت العائلات عن دورها في مقاومة الهجرة وانخرطت في التمويل والبحث عن شبكات تهريب توفر رحلات آمنةً لأبنائها".
يضيف: "في ظل ارتفاع الأسعار في تونس، وتراجع القدرة الشرائية، أصبح الجميع يؤمنون بأن الهجرة هي وسيلة تغيير بينما اقتنعت العائلات بأن خطر البحر أفضل من المخاطر الأخرى التي تهدد أطفالهم في تونس"، حسب قوله.
كما أكد أن المنتدى لاحظ أيضاً إقبال النساء، خصوصاً الحوامل والفتيات منهن، على الهجرة بطريقة غير نظامية غير مهتمات بالمخاطر التي قد تهدد حيواتهم مثل الاغتصاب والاختطاف والقتل عادّاً "أن المهاجر بطريقة غير نظامية أصبح يستعد بشكل جيد من خلال الاطّلاع على القوانين والمواثيق الدولية وكأنه لا يريد خسارة مشروع العمر"، وفق تعبيره.
بحسب بن عمر، "فإن تكلفة الحرقة تختلف حسب نوعية الوسيلة المستعملة ومكان الانطلاق والوسطاء لتبدأ من 3 آلاف دينار (900 دولار)، وقد تصل إلى 10 آلاف دينار (3 آلاف دولار)".
للإشارة، أكد "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، أيضاً، وصول أكثر من 7،500 مهاجر غير نظامي إلى السواحل الايطالية انطلاقاً من تونس منذ بداية سنة 2022، كما تمكنت السلطات التونسية من إحباط أكثر من 920 عملية اجتياز ومنع نحو 11،500 مهاجر غير نظامي من المغادرة نحو السواحل الايطالية، 60 في المئة منهم يحملون الجنسية التونسية و40 في المئة من جنسيات أخرى.
كما تؤكد إحصائيات وزارة الداخلية الإيطالية حول توافد المهاجرين غير النظاميين إلى سواحلها، أن التونسيين يحتلون المرتبة الأولى منذ بداية العام حتى حدود تاريخ 29 تموز/ يوليو الماضي، يليهم متحدرون من مصر ثم بنغلاديش وأفغانستان وسوريا والكوت ديفوار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...