يُكابد الطفل رمزي (اسم مستعار)، الأمرّيْن في أزقة المدينة العربي (حي في العاصمة)، وهو يَجُرّ عربةً مليئة بالثياب لنقلها إلى صاحب عمله، الذي يكتري محلاً لبيع الملابس في أسواق المدينة العتيقة.
تي تلت الثورة لوضع حدٍّ لها.
يزيد التسرب المدرسي من تفاقم هذه الظاهرة، إذ كشف وزير التربية فتحي السلاوتي، في الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري، عن انقطاع 69 ألف تلميذ عن الدراسة في العام 2021، لافتاً في تصريحات لإذاعة "إي أف أم" المحلية، إلى أن "هذا العدد كبير جداً إذ يعادل مغادرة ثلاثمئة تلميذ يومياً للمدرسة، منهم 100 يكونون عرضةً لكل المخاطر".
مهنٌ كلّها متاعب
يُعدّ العمل في المدينة العتيقة مهمةً شاقةً في تونس، إذ تزدحم بالمارة والمتسوقين يومياً خاصةً في فصل الصيف الذي شهد هذا العام تسجيل درجات حرارة قياسية فاقت الأربعين درجةً، ما يضاعف التحدي أمام رمزي الذي يتحدث بالكاد وهو يتصبب عرقاً.
يقول: "آتي يومياً من أحواز (أطراف) ولاية (محافظة) أريانة، وأستقلّ الميترو حتى أصل إلى محطة الجمهورية وسط البلاد ثم أُكمل المسافة المتبقية سيراً لبدء رحلة شاقة أخرى من العمل بحيث أنقل الملابس من محل يشبه "المغازة" (مخزن) يقوم فيها مؤجّري بوضع سلعه وننقلها إلى هنا لعرضها للبيع وأتولّى البيع معه في بقية الأوقات".
"غادرتُ المدرسة بسبب ظروف عائلية في سن 14. من وقتها بدأت رحلة البحث عن عمل بأي مقابل، المهم هو أنه عمل أنفق بفضله على عائلتي وعلى نفسي"
اللافت أن تشغيل القصّر في تونس لا يقتصر على العاصمة تونس أو المدن القريبة منها فقط، بل يشمل كذلك الأرياف وقطاعات مختلفة على غرار الفلاحة، وحتى التسول.
في ولاية الكاف الواقعة شمال غرب البلاد، وفي أحد أريافها، يتولى أحمد (17 عاماً)، يومياً، رعاية مواشي أحد أثرياء المنطقة الذي يتحفظ على ذكر اسمه.
يقول أحمد لرصيف22: "منذ الصغر اعتدت على رعاية مواشي والدي في العطل، إلى أن تعثّرتُ في مسيرتي الدراسية ما سرّع في مغادرتي مقاعد الدراسة والبحث عن عمل".
تابع أن "البطالة في البلاد في تفاقم حتى لمن يحملون شهادات جامعيةً من البالغين، فما بالك بطفل مثلي لم يتجاوز المرحلة الابتدائية من التعليم؟ لذلك لجأت إلى البحث عن عمل آخر لا يستوجب مستوى دراسياً عالياً وهو ما وجدته في مهن مثل البناء الذي ليست عندي مؤهلات جسدية حتى أتولاه، فانتهى بي المطاف في رعاية المواشي لدى أحد جيراننا الذي يملك ثروةً حيوانيةً مهمةً".
"منذ الصغر اعتدت على رعاية مواشي والدي في العطل، إلى أن تعثّرتُ في مسيرتي الدراسية ما سرّع في مغادرتي مقاعد الدراسة والبحث عن عمل"
كانت وزارة المرأة قد ذكرت في تقرير لها صادر في الثاني عشر من حزيران/ يونيو الماضي، أن مظاهر استغلال الأطفال تتمثل في عمالتهم في سن مبكرة، واستغلالهم في الاتجار بالبشر واستغلالهم جنسياً وغيرها من الممارسات التي دعت إلى محاصرتها.
كشفت الوزارة في التقرير أنها تلقت في العام 2021، 392 إشعاراً بتعريض الأطفال للاستغلال والتسوّل وهو رقم مفزع، لكنه قد لا يكون متطابقاً مع واقع الظاهرة، كون هذا العدد يشمل الإشعارات (الشكاوى) التي قدّمها المواطنون فقط.
يُشدد المندوب العام لحماية الطفولة في وزارة المرأة والأسرة والطفولة، مهيار حمادي، في حديث إلى رصيف22، على أن "هذه الأرقام تبقى محدودةً للغاية بالنظر إلى واقع الأشياء ويبقى في الواقع أن الطفل عندما يُستغل في العطل وغيرها فهو أمر طبيعي لدى بعض الأسر".
تسرّب مدرسي
لا يمكن فصل معضلة تشغيل القصّر في تونس عن تدهور مستوى التعليم في البلاد، وتنامي عدد المنقطعين عن الدراسة وهو ما يشكل تحدياً آخر للسلطة السياسية القائمة.
يُرجع الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، تنامي ظاهرة تشغيل القصّر إلى تزايد أعداد الأطفال المنقطعين عن التعليم بتراجع دور مؤسسات الدولة في تأطير الناشئة.
يُوضح بن نصير لرصيف22، أنه "زيادةً على ذلك، فإن من بين الأسباب ضعف المستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسر التونسية تبعاً لضعف القدرة الشرائية والعجز عن مجابهة النفقات المتزايدة، ما دفع العديد منها إلى تشغيل أطفالها. علينا الإقرار بأن انتشار الفقر والأمّية بين الأهالي في بعض المجتمعات، ووجود حاجة إلى عمل الطفل للحصول على دخل يُؤمِّن احتياجات الأسرة، والظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة الصعبة لدى الأسر، هي من بين الأسباب المباشرة لتنامي الظاهرة".
يتفق مسؤولون ومحللون على أن هناك غياباً للوعي لدى العائلات التونسية بالتداعيات الخطيرة على الأطفال الذين هم عرضة للتشغيل في سن مبكرة وللاستغلال بمختلف أنواعه.
وقال بن نصير، إن "هناك عدم وعي لدى الأهالي بالآثار السلبية والضارّة الناتجة عن عمل الأطفال في سن مبكّرة، زد عليه الافتقار إلى المهارات الاجتماعية الأساسية، وارتفاع نسبة البطالة بين البالغين من الأهالي".
يؤكد المتحدث أن "انتشار بعض القيم الثقافية التي تشجّع على عمل الأطفال في بعض المجتمعات، قد يعمل على ارتفاع الظاهرة، وكذلك المشكلات الماليّة والديون المتراكمة التي تعاني منها بعض الأُسر، ما قد يدفع الأطفال إلى العمل لسدادها. هنالك معطى مهم أيضاً، وهو ازدياد الهجرة من الأرياف نحو المدن التي كانت سبباً في تبلور مفهوم تشغيل القصّر".
عجز قانوني...
عندما أطلقت وزارة المرأة والأسرة والطفولة التونسية، أرقامها الأخيرة، ثار جدل قديم متجدد حول السبل والآليات الكفيلة بوضع حد لمثل هذه الظواهر: هل تكمن في وضع قوانين جديدة؟
تبدو هذه الأسئلة بديهيةً، فتونس سنّت تشريعات وقوانين عدة ترمي إلى التصدي لهذه الظاهرة، واستيعاب الأطفال والشباب لكن هناك فجوةً واسعةً بين القوانين والواقع.
يقول مهيار حمادي، إن تونس وضعت نصوصاً كافيةً للتصدي للظاهرة سواء بمصادقتها على النصوص الدولية أو بتشريعات وطنية من الدستور وقوانين داخلية.
لا الأرقام الخضراء ولا الإدارات الجهوية لحماية الطفولة في تونس قادت إلى الحد من عمالة القُصّر ومنع استغلال الأطفال. هذا في وقت تفقد فيه المدرسة العمومية بريقها
وأبرز حمادي أن "التشريعات التونسية تنص على منع تشغيل الأطفال قبل سن الثامنة عشر، وحددت المهن الخطرة التي لا ينبغي وجود الطفل فيها، وأيضاً الأماكن الخطرة التي لا يجب إقحام الطفل فيها، مثل أشغال الصرف الصحي والعمل في المنازل وغيرهما".
وأوضح حمادي أن بين النصوص والتشريعات والواقع الذي تشهده تونس في مناطق عدة بشأن ظاهرة تشغيل القصر، فرقاً واسعاً، مؤكداً أن "حالات الاستغلال الاقتصادي ورؤية الأطفال في محطات الاستخلاص يبيعون سلعاً مهربة، وفي أوقات متأخرة من الليل، أصبحت من الأشياء اليومية في حياة التونسيين".
صادق البرلمان التونسي على قوانين عدة تهتم بالمسألة على غرار قانون الاتجار بالبشر الذي تم سنّه في 3 آب/ أغسطس 2016، والذي نص على أنه "يُمنع الاستغلال الاقتصادي أو الجنسي للأطفال بمناسبة تشغيلهم"، من دون توضحيات، ما يترك الباب مفتوحاً أمام التأويلات القانونية.
كما نص قانون القضاء على العنف ضد المرأة، الذي أقرّه البرلمان في 11 آب/ أغسطس 2017، على أنه "يعاقَب بالسجن من 3 أشهر إلى 6 أشهر وبخطية (غرامة) من ألفي دينار إلى خمسة آلاف دينار، كل من يتعمد تشغيل الأطفال كعمال منازل بصفة مباشرة أو غير مباشرة. يسلَّط العقاب نفسه المذكور في الفقرة المتقدمة على كل من يتوسّط لتشغيل الأطفال كعمال منازل".
مع ذلك، لا تزال هذه الظاهرة تشهد تنامياً، وهو ما يضع السلطة تحت ضغط إضافي. فلا الأرقام الخضراء التي وضعتها ولا الإدارات الجهوية لحماية الطفولة قادت إلى الحد من الظاهرة ومنع استغلال الأطفال. هذا في وقت تفقد فيه المدرسة العمومية بريقها، ما يجعل أرقام الأطفال، المعرضين للاستغلال الاقتصادي، مرشحةً للارتفاع في المرحلة المقبلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...