يعيد التاريخ نفسه مرتين: مرةً على شكل مأساة ومرةً على شكل مهزلة؛ هذا هو حال مدينة جرادة (شرق) المنجمية. داخل المدينة تتكرر المآسي سنوياً، لتعيد تسليط الضوء على عمّال المناجم الذين يبحثون في عتمتها عن بعض الفحم ليبيعوه ويحصلوا بفضله على قوت يومهم.
صباح الثلاثاء 16 آب/ أغسطس الماضي، لاقى ثلاثة عمال مناجم حتفهم اختناقاً داخل آبار الفحم الحجري، وباءت كل المحاولات الرامية إلى إنقاذهم بالفشل، ليُضاف الثلاثة إلى قائمة شهداء الرغيف الأسود وشهداء "الساندريات" (آبار الفحم العشوائية).
قالت السلطات المغربية في بلاغ لها، إن البئر التي توفي داخلها الثلاثة، تستغلها تعاونية محلية قانونيّة، مشيرةً إلى أنه فور إشعارها بالحادث، انتقلت إلى المكان، فيما تم فتح تحقيق بخصوص الحادث من طرف السلطات المعنية تحت إشراف النيابة العامة المختصة، إلا أن هذه الحادثة ليست الأولى وإذا ظلّ الحال كما هو عليه الآن لن تكون الأخيرة.
عاصمة الفحم المنسية
يعيش سكان جرادة على مورد واحد تقريباً، هو مناجم الفحم الحجري، فهذه المدينة كانت قبل عقود عاصمة الفحم الوطنية، خاصةً في الحقبة الاستعمارية، إذ بدأ إشعاع المدينة سنة 1936، حين أصبحت مركزاً وعاصمةً للفحم الحجري وقِبلةً للباحثين عن العمل من الريف وغيره من المناطق المجاورة بعد الاكتشافين اللذين أكّدا على أنها تزخر بثروات باطنية من الفحم سنة 1908، وقام بهما الجيولوجي الفرنسي لويس جونتيل.
لاقى عمال مناجم الثلاثة حتفهم اختناقاً داخل آبار الفحم الحجري، وباءت كل المحاولات الرامية إلى إنقاذهم بالفشل، ليُضاف الثلاثة إلى قائمة شهداء الرغيف الأسود وشهداء "الساندريات"
ولأن لكل مدينة مجدها وأفولها، ستبدأ عاصمة الفحم بالانهيار شيئاً فشيئاً، ففي سنة 1998، أغلقت شركة "مفاحم المغرب" أبوابها، وتم التراجع بعدها عن استخراج الفحم وإعلان إغلاق الشركة بموجب اتفاق بين النقابات والحكومة نصَّ على حفظ حقوق العمال وتعويضهم وخلق فرص عمل بديلة للسكان. إلا أن عدم الوفاء بالوعود بعد الانسحاب الأخير للشركة سنة 2001، دفع العمّال إلى استغلال المناجم بطرق بدائية عبر حفر عشوائي للآبار، وهو ما سيفتح صفحة الجراح التي تُنكأ كل عام في عاصمة الفحم المنسية.
مدينة الرغيف الأسود
انتقلنا من وجدة، وهي مركز المنطقة الحضري، إلى مدينة جرادة. كانت الطريق مليئةً بالأسئلة: كيف يُوفر أهل المدينة قوت يومهم من مناجم الفحم التي تدرّ القليل من المال الذي لا يسدُّ الرمق؟ وكيف حال المدينة بعد خمس سنوات على حراك جرادة الذي انطلقت شرارته على خلفية مصرع عاملَيْن في آبار للفحم، ما خلَّف احتجاجات واسعةً وصل صداها إلى كل المدن المغربية؟
الفيلم الوثائقي القصير "جرادة... شذرات حياة" للمغربي مهدي مريوش
حين وصلنا، كانت ملامح كثيرين من الناس وأحاديث الشباب والحنين إلى حراك جرادة، جواباً تلقّاه رصيف22، عن واقع كثيرين في المدينة، بعد فواجع الرغيف الأسود المتوالية.
يحكي حسن (اسم مستعار)، وهو عامل في آبار الفحم غير القانونية، لرصيف22، عن محنه اليومية. ولعلّ أولها يبدأ كل صباح مع السؤال المعتاد: "هل سأعود في المساء إلى بيتي أم محمولاً على نعش كما حدث مع آخرين؟"؛ يسأل الشاب الثلاثيني الذي يعمل في آبار الفحم إلى جانب بعض أقاربه بنبرة حزينة، ويضيف: "نعمل في آبار تحت الأرض تنعدم فيها شروط السلامة ونضحي بأرواحنا مقابل ‘زوج ريالات’ لا تصلح لا لسداد الفواتير ولا للحاجات اليومية للأسرة".
"هل سأعود في المساء إلى بيتي أم محمولاً على نعش كما حدث مع آخرين؟"
يتجه حسن برفقة مجموعته لتبدأ مغامرة النزول إلى بئر بعمق يصل إلى سبعين متراً وبوسائل بسيطة وتقليدية، وهذا من دون الحديث عن وسائل النجاة. داخل الآبار لا صوت يعلو على صوت "الصلاة على النبي"، والدعاء والرجاء بأن تشملهم رحمة الله للخروج من البئر سالمين. يقول: "بعد تعب وشقاء نربحُ حيناً ونخسرُ مرات عديدةً إذ تُقدَّر الأرباح أحياناً بمئة وخمسين درهماً (نحو 15 دولاراً)، وأحياناً أقل أو أكثر. إننا لا نعمل مقابل كسب المال أو الربح، بل فقط لمحاولة إبقاء أهالينا على قيد الحياة".
آبار الفحم: موت بطيء
غير بعيد عن الشاب، صادف رصيف22، رجلاً اشتعل رأسه شيباً وقضى أزيد من عِشرين سنةً في آبار الفحم. القاسم المشترك بينه وبين الشاب، عبارات اليأس وتجاعيد على الوجه وواقع سيئ. يقول: "أستيقظ في الصباح الباكر. تُعدّ زوجتي الفطور وأضع بعضاً منه في محفظتي؛ الشاي أو القهوة في زجاجة أو قارورة بلاستيكية، ورغيفاً وزيتاً وزيتوناً. هذا هو قوت يومي ويوم من على شاكلتي من الباحثين عن الحياة داخل آبار الفحم. يسترسل المتحدث بحزن شديد قائلاً: "داخل آبار الموت يمكن أن ينهار الصخر في أي لحظة، أو يختنق أحد العمال، أو تحدُث كارثة لنا جميعاً، وقبل أن ننزل يُطرح أمامنا سؤال واحد: هل سنعود؟".
حين يخرج حسن من البيت تنتظر أمه صوت المفتاح في القفل، الذي يعني عودته إلى البيت حياً، كما يقول، ويردف: "هكذا حال كل الأمهات والزوجات، وكأن لسان حالهن يقول ‘أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً’"، يستعير حسن من قصيدة الشاعر اللبناني حسن العبد الله، لأنه متعلّم حصّل الدراسات العليا، وتخرج من جامعة محمد الأول في وجدة، لكن أبواب الوظيفة أُغلقت في وجهه، وفُتحت بدلاً منها أبواب "آبار الموت".
وفق ما يرويه لنا الشاب، سواء كنتَ حاملاً لشهادة أو لدرجة علمية أو كنت غير متمدرس أو بين المنزلتين، فإن مكانك داخل الآبار، في المدينة التي لا تملك منشآت صناعيةً ولا فرص عمل، وحتى إن "كنت طفلاً اشتد عوده للتوّ، فإنك ترى نفسك داخل بئر الفحم الحجري من دون شك، في مدينة غابت عنها الشمس باكراً، وغاب عنها البديل الاقتصادي، فشعار توفير العمل الذي رفعه السكان في الحراك، وقُدّمت لهم وعود عديدة بتحقيقه من قبل السلطة، تبخّر كما تبخرت أحلامنا داخل المدينة. لا بديل اقتصادياً ولا بديل اجتماعياً، والشيء الثابت هنا في جرادة أننا إن لم نمت في ‘الساندريات’، سنموت جوعاً وقهراً".
تخرج حسن من جامعة محمد الأول في وجدة، لكن أبواب الوظيفة أُغلقت في وجهه، وفُتحت بدلاً منها أبواب "آبار الموت"
في المقاهي الشعبية، وبالقرب من المنازل، وفي بعض الساحات، تقاسيم وجوه الجالسين والمارة تحكي واقع المدينة التي خرجت عن بكرة أبيها في حراك شعبي انطلق في كانون الثاني/ يناير عام 2018، عقب انهيار آبار الفحم غير القانونية، التي أصبحت البديل الوحيد للسكان للحصول على مورد رزق، ودام شهوراً، مطالبين ببديل اقتصادي يعيد إلى المدينة الحياة بعد موتها، ويُوفّر الحد الأدنى لعيش بسيط، وكما قال حسن: "الناس في جرادة لا يطالبون بأشياء كبيرة. حتى العيش الكريم لا نطالب به هنا. ما نبحث عنه هو حياة أقل سوداويةً مما نحن عليه. نطالب بأبسط الحقوق، أما العيش الكريم فليس سوى أحلام لن تتحقق في جرادة".
تبخّر مطالب الحراك
نددت الجبهة الاجتماعية (تكتل حقوقي يضمّ هيئات حقوقيةً وسياسيةً غير حكومية)، في بلاغ لها، بالمآسي التي تطال مدينة جرادة، وبإزهاق أرواح شباب في عمر الزهور، وبوفاة الشبان الثلاثة، وهم آخر ضحايا آبار الفحم، مشيرةً إلى أن هذا ما كان ليحدث لو استجابت الحكومة لمطالب حراك جرادة، خاصةً ما يتعلق منها بالبديل الاقتصادي، ومحاسبة المتورطين في جرائم النهب والفساد.
أشارت الجبهة إلى أن السلطات المغربية "واجهت هذا الحراك الشعبي بالحديد والنار، ونكّلت بناشطيه، واعتقلت طلائعه، وروّعت السكان وأرهبتهم وأغمضت أعينها التي لا تنام، عن المافيا التي تقتات من عرق الشباب الذي يدفعه الفقر إلى المغامرة بحياته".
يُجمع الحقوقيون وأبناء المدينة الذين انخرطوا في نضالات الحركة الطلابية في جامعة محمد الأول في وجدة، وبقية الإطارات السياسية منذ اندلاع الشرارة الأولى لحراك جرادة، على أن المدينة أنهكتها "السياسات الإقصائية"، إذ تستفيد فئة الأعيان من ثروات المناجم، لتبقى فئة العمال الأكثر ضعفاً وهشاشةً، تتعرّض للموت في أي لحظة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...