تضع أم مريم، ذات الأربعة والستين عاماً، يدها على خدها وتنظر إلى زوجها من الخلف، حيث ظهره لوجهها ويده على "الريموت كونترول" يقلب قنوات أفلام السينما القديمة. تنظر إليه ويصل هواء تنهيدتها إلى يدها التي على خدها، بعد سماعها للأمر الذي يقوله كل يوم في ذات الساعة زوجها المتكئ على الكنبة: "قومي سويلي عشا".
غالباً، عندما تسمع أم مريم هذه العبارة، تقوم من مقعدها بطريقة أشبه بالقفز وتصل إلى المطبخ قبل انتهاء الأمر من زوجها، لكنها هذه المرة كسرت تلك العادة وسحبت معها هاتفها الخلوي باتجاهها إلى المطبخ، وبعد أن جهزت "حواضر" العشاء، من لبنة، زيتون، بيض مسلوق "وقلاية بندورة" كما يحب زوجها، تعمدت أن تجعل من إعداد الشاي الفقرة الأخيرة، حيث وضعت إبريق الماء على الغاز، واستغلت الدقائق القليلة لغليان الماء لتتصفح حساب أول حب في حياتها على موقع فيسبوك، واستمرت بالتصفح إلى أن رنّ جرس إبريق المياه.
تلك الصورة، سردتها أم مريم لرصيف22، مفضلة الحديث باسم مستعار، وهي تستعرض مشاهد كثيرة باتت تمر بها مؤخراً في علاقتها مع زوجها، وقد وصفتها بالقول: "هي علاقة ميتة منذ بداية زواجنا، لكني اعترفت بوفاتها بعد أن أصبحت جدة وتجاوزت عمر الستين. أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، فهذا الاعتراف أزاح حملاً كبيراً عن قلبي".
لماذا تلك التنهيدة التي أخبرتنا عنها؟ سألت أم مريم وأجابت: "أصبحت التنهيدة تلازمني أغلب الوقت مؤخراً، تحديداً عندما أصبح لدي حساب على فيسبوك. أتعلمين ما هو أول شيء فعلته حينها؟ بحثت عن حبي الأول وطلبت صداقته. ربما تعتقدين أن عودتي لمعرفة أخبار حبي القديم هي سبب تنهيدتي، هو احتمال وارد، لكن السبب الحقيقي هو أن فيسبوك هز في داخلي سؤالاً تلحقه تنهيدة الحسرة: ماذا لو انفصلنا أنا وزوجي؟ أين سأكون الآن ومع من؟".
أيام جيلي، كان مجرد التفكير بيني وبين نفسي بخيار الطلاق يعتبر جريمة تعاقب عليها عاداتنا وتقاليدنا. تربينا منذ طفولتنا أن البنت ضيفة لدى بيت عائلتها حتى يأتي نصيبها، فمكانها حتى تفارق الحياة هو بيت زوجها
هذا السؤال كما تقول السيدة ليس سببه تواصلها مع حبها القديم بشكل رئيسي، وأوضحت: "صحيح أنني عندما رأيت صوره مع زوجته وأحفاده ولمست حياتهم السعيدة شعرت بما يشبه قرصة في أمعائي، لكن صوره تلك هي التي جعلتني أتذكر شريط حياتي الزوجية المليئة بصور بشعة، سواء في إهانتي وحرماني من استكمال تعليمي، وطبعاً ضربي من قبل زوجي الذي أضعت أغلب عمري معه".
لماذا لم تنفصل عنه؟ تقول: "أيام جيلي، كان مجرد التفكير بيني وبين نفسي بخيار الطلاق يعتبر جريمة تعاقب عليها عاداتنا وتقاليدنا. لست أنا فقط من حرمت من حقها من الانفصال عن زوج لا يستحق أن يكون شريك حياتها. تربينا منذ طفولتنا أن البنت ضيفة لدى بيت عائلتها حتى يأتي نصيبها، فمكانها حتى تفارق الحياة هو بيت زوجها".
وتختم أم مريم حديثها بمشهد آخر يحفز سؤالها عن الانفصال: "عندما أصحو من النوم وأنظر إلى زوجي بجانبي، تعود بي ذات الأمنية التي كنت أرددها في مخيلتي منذ بداية زواجنا: يا رب يكون حلم مش حقيقة".
أشعر بالغيرة من جرأة غيري
"عندما أسمع أن امرأة تطلقت من زوجها بسبب ضربه لها، أشعر بالغيرة"، تقول أم رائد، 62 عاماً، لرصيف22، موضحة أن مواقع التواصل الاجتماعي وتحديداً مجموعات فيسبوك قلبت حياتها رأساً على عقب.
تضيف السيدة التي فضلت استخدام اسم مستعار في حديثها معنا، حرصاً على خصوصية عائلتها: "أصبحت أسمع عن هذه الأخبار وأنا أتصفح المجموعات النسائية التي أنشط فيها على فيسبوك، وبالفعل كل ما أسمع هكذا خبر أجد مزاجي تعكر طوال اليوم وأصاب بالأرق، بسبب السؤال الذي يبقى يرن في رأسي: اشمعنا هي قدرت وأنا ما قدرت؟".
وتابعت بعد شهقة، عندما سألتها عن سبب عدم تجرؤها على هذه الخطوة: "بدك أهلي يقتلوني؟ بالمناسبة كل أفراد عائلتي كانوا على علم أن زوجي كان يضربني باستمرار، حتى أمام أبنائي الثلاثة وفي أكثر من مرة أمام والدتي. ذات ليلة كان الضرب حامياً جداً، وكنت وقتها في مقتبل العشرينيات. أخذت طفلي وذهبت لمنزل أهلي الذين أبقوني على باب البيت، وبدلاً من استقبالي خرج أخي الذي يصغرني وأعادني إلى بيت زوجي بسيارة أبي".
ما كان ممنوعاً أصبح مسموحاً اليوم. هكذا تنظر أم رائد إلى فكرة الطلاق في الأردن بين الماضي والحاضر. وفي ختام حديثنا سألتها كيف أن فيسبوك أثر على نظرتها للطلاق، وأجابت: "ليس فقط من القصص التي أتصفحها، بل بمناقشاتي مع عضوات المجموعات التي أنا فيها. هذه المناقشات قوّت شخصيتي وجعلتني أستعيد ثقتي بنفسي التي حطمها زوجي طوال 42 عاماً من زواجنا".
ماذا لو انفصلنا أنا وزوجي؟ أين سأكون الآن ومع من؟
ويسجل الأردن آلاف حالات الطلاق سنوياً، وقد تصدّر وفق دراسة أمريكية صادرة عام 2018 الدول العربية في نسبة الطلاق، وجاء في المرتبة 14 عالمياً بهذا الخصوص.
إن كنتِ غير سعيدة، تطلقي
ميسون، وهي سيدة عمرها 64 عاماً، شاركتنا أيضاً حكايتها عن حياة زوجية غير سعيدة، تجرأت اليوم فقط على البوح بها: "دخلت على صفحة اسمها 'اعترافات' على فيسبوك، حيث ينشر مسؤول الصفحة اعترافات دون ذكر هوية أصحابها، وشجعتني منشورات كثيرة تصفحتها لدرجة أنني تجرّأت وطلبت نشر حكايتي".
ميسون أرغمت على الزواج من صديق أخيها وكان يكبرها بأعوام عديدة، وحرمت الزواج من الشخص الذي كانت تحبه. تصف حالها اليوم: "رغم أنني أصبحت جدة لسبعة أحفاد، ما زلت غير قادرة على حب زوجي، ربما بسبب أسلوبه السلطوي معي وبخله في المشاعر والعطاء، على عكس ما كان عليه مع النساء اللواتي خانني معهن".
وتضيف: "اعترفت على فيسبوك أنني كنت أعلم عن كل امرأة خانني معها زوجي بالرغم من أنه لم يعلم، وذات مرة منذ حوالي عشرين عاماً طلبت منه الطلاق، فضحك وقال: إذا أهلك بوافقوا بطلقك. ضحكته كانت دليل ثقة بأن أهلي سيرفضون، وفعلاً عندما أخبرت والدتي ردت علي: بدك الناس يحكوا علينا زي ما بحكوا عن جارتنا الي تطلقت؟".
وتختم بتعليق نشر على قصتها في صفحة "اعترافات": "أنا عرفت مين أنت حتى لو ما حطيت اسمك. معقول لهلاً ما تطلقت منه؟ نصيحتي لك من خبرة بعد هاد العمر: ما فاتك قطار الخلاص... تطلقي".
تحررت من مأساة سرقت من عمري 37 عاماً، قضيتهم داخل بيت على شكل سجن، تعرضت فيه لمختلف أشكال التعذيب النفسي والجسدي من قبل زوجي، أمام عيون أبنائي وأحفادي. انتصرت لكرامتي بعد أن أعلنت ثورة بيضاء على معاناتي وتطلقت. نعم أنا في عمر الستين ومطلقة
ذات النصيحة "تطلقي" قدمتها سناء، (61) عاماً، لميسون وغيرها من السيدات، ويمكننا اعتبارها حالة استثنائية قفزت عن كل التابوهات والمحرمات التي فرضتها عليها العادات والتقاليد الاجتماعية، وحرمتها بحسب ما وصفته من "حرية الانتصار لكرامتها".
هذه الحرية كما توضح سناء هي "تحرري من مأساة حياتية سرقت من عمري 37 عاماً، قضيتهم داخل بيت على شكل سجن، تعرضت فيه لمختلف أشكال التعذيب النفسي والجسدي من قبل زوجي، أمام عيون أبنائي وحتى أحفادي. انتصرت لكرامتي بعد أن أعلنت ثورة بيضاء على معاناتي وتطلقت. نعم أنا في عمر الستين ومطلقة".
ليست مواقع التواصل الاجتماعي هي التي شجعت سناء لاتخاذ قرار طلاقها وهي جدة لخمسة أحفاد، بل كما بيّنت: القراءة، إذ اكتشفت متأخرة بأنها تعشق قراءة الكتب، وتقول: "سجني الزوجي حرمني أيضاً من أن أكتشف ماذا أحب، وما إذا كانت لي هواية، وقبل ثلاثة أعوام فقط استعرت من ابنة شقيقتي كتاب 'قواعد العشق الأربعون'، الذي كان بمثابة بوابة لاكتشافي أنني عشت حياة زوجية قاعدتها الأساسية: ممنوع دخول الحب للمنزل".
ونوهت بأن "الفجوة الثقافية" بينها وبين زوجها ليست هي ما حمّسها على قرار الطلاق، بل صدمتها: "عندما استشرت أبنائي، وهم متزوجون، برأيهم حول احتمال أن أطلب الطلاق من والدهم، وكنت أطرح السؤال بمثابة مزحة، صدمت بأن الأمر ليس مزحة بالنسبة إليهم بل رغبة تمنوها منذ صغرهم، بأن أتحرر من علاقة ظالمة. أبنائي يحلمون أن يروني سعيدة".
وأضافت: "تشجيع أبنائي لاتخاذي قرار الطلاق هو الذي جعلني أسير بالإجراءات بسرعة، حتى أن ابني الأكبر خلال تلك الفترة استأجر شقة صغيرة لي بالقرب من منزله كتحفيز مضاعف حتى لا أتراجع عن القرار. تعرضت بسبب هذه الخطوة لانتقادات كثيرة من ناس من جيلي ومن أقاربي، لكن قابلها تصفيق عال من صبايا وشباب هم أصدقائي على مواقع التواصل الاجتماعي، وأغلبهم قالوا لي: كفو خالتو".
وختمت حديثها بالقول: "اليوم ولو أنني تأخرت، حققت حلم أبنائي. اليوم أنا سعيدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...