قبل ثلاث سنوات، وعلى قطعة أرضٍ لا تتجاوز مساحتها 250 متراً مربعاً، غرَس رجائي الدبعي، 500 شتلة قات في قريته الواقعة في ريف محافظة تعز اليمنية، والتي تبعد عن مركز المدينة قرابة 50 كيلومتراً. وبعد مرور ستة أشهر من ذلك، بدأ رجائي بقطف أعشاب القات من مزرعته ويبيعها في الأسواق بشكل متواتر مرةً واحدةً كل 45 يوماً، ليصل عدد مرّات الإنتاج خلال ثلاث سنوات إلى 21 مرّةً، وهو رقم قياسي حصل عليه بعدما أترع مزرعته بكميات كبيرة جداً من الأسمدة الكيميائية والمهرّبة.
يقول رجائي، البالغ من العمر 37 عاماً، لرصيف22: "أستخدم الأسمدة الكيميائية مذ بدأت نشاطي الزراعي قبل ثلاثة أعوام، لأنّها توّفر لي محصولاً كبيراً في وقت قصير، وتضاعف أرباحي كثيراً، وتلك أشياء ما كنت لأحصل عليها لو لم أُشبع مزرعتي بأنواع متعددة من الأسمدة الكيميائية المتوفرة في الأسواق. في كل مرة أذهب إلى السوق أحرصُ على شراء أنواع وأصناف عدّة من الأسمدة، منها الذائبة، والمحببة، والسائلة، والمعلّقة. وأمّا أصنافها فهي أسمدة فوسفات وبوتاسيوم ومغنيزيوم، وأسمدة نتروجينية، وأسمدة اليوريا، وأسمدة حديدية".
طمعاً في الإنتاج الغزير، يذهب المزارعون اليمنيون إلى تكثيف استخدام الأسمدة الكيميائية.
يُضيف: "ليست هناك أسماء تجارية ثابتة للأسمدة التي أستعملها. عند كل زيارة إلى السوق أتفاجأ بمنتجات وعلامات تجارية جديدة لم أكن أعرفها من قبل، لكنّي أطمئن عندما يخبرني البائع بأن أداءها مشابه لتلك التي استخدمتها في المرّة السابقة. أشتري كل عام قرابة 100 كيلو من الأسمدة، وأستخدمها بالكامل خلال 12 شهراً، وأستعملها بطرق مختلفة عبر خلطها مع الماء ورشها على الأشجار، أو ريّ التربة بها".
وينبّه إلى أنه في بداية عمله لم تكن لديه أدنى فكرة عن السماد المناسب للمزرعة، أو كيفية استخدامه، لكن بعد ذهابه إلى محل بيع الأسمدة وعرض الأمر هناك، أعطاه التاجر مجموعة أصناف قال إنّها ستفيده. "بعد تجارب عدة عرفت كلّ الأسرار المرتبطة بطرق استعمالها حتى أضحت مزرعتي تُنتج في العام الواحد ثماني مرّات"، يختم.
ظاهرة متفشّية
رجائي واحد من بين عشرات الآلاف من المزارعين اليمنيين الذين يستخدمون الأسمدة الكيميائية بطرق عشوائية خطأ.
ويتحدث منصور الخليدي، أستاذ الكيمياء غير العضوية المشارك في جامعة تعز، لرصيف22، حول هذا الأمر قائلاً: "هناك مجموعة أسباب تجعل المزارعين يلجأون إلى استخدام الأسمدة الكيميائية بإفراط، وهي أنّها تزيد من إنتاجية المحاصيل الزراعية وجودتها، وتسرّع نموّ الثمار، فيعود ذلك بالفائدة والربح الوفير عليهم. وطمعاً في الإنتاج الغزير، يذهب المزارعون إلى تكثيف استخدام هذه الأسمدة".
بعض أنواع الأسمدة التي تباع في أسواق اليمن - خاص رصيف22
وتكمن خطورة ذلك وفق الخليدي، في أنّ معظم المزارعين لا يعلمون شيئاً عن الأسمدة التي يستخدمونها، ولا يستطيعون معرفة ما إذا كانت سليمةً أو منتهية الصلاحية، أو ما إذا كانت تحتوي على مواد خطرة على التربة والبيئة أم لا، عدا عن جهلهم بالطرق الصحيحة لاستخدامها، إذ يستقون معلوماتهم في هذا الإطار من الباعة والتجّار الذين لا يملكون غالباً أيّ صفة علمية أو خلفية معرفية تخوّلهم تقديم الإرشادات للمزارعين.
أستخدم الأسمدة الكيميائية مذ بدأت نشاطي الزراعي قبل ثلاثة أعوام، لأنّها توّفر لي محصولاً كبيراً في وقت قصير، وتضاعف أرباحي كثيراً، وتلك أشياء ما كنت لأحصل عليها لو لم أُشبع مزرعتي بأنواع متعددة من الأسمدة الكيميائية المتوفرة في الأسواق
وتعود أسباب جهل المزارعين اليمنيين بالأسمدة الكيميائية، وكل ما يرتبط باستخدامها، وفق المتحدث، إلى أنّ عدداً كبيراً منهم أميّون لا يقرؤون ولا يكتبون، وفي حال صدف أنّهم يقرأون فإنّ معظم معلومات تلك الأسمدة تكون مكتوبةً بالإنكليزية، وتالياً يعجزون عن قراءتها، بالإضافة إلى ذلك فإنّ إهمال الجهات الحكومية المختصة بتفعيل دور الإرشاد الزراعي ساهم في ترسيخ هذا الجهل لدى المزارعين.
"بالرغم من ذلك فإنّ في إمكان وزارة الزراعة والجهات الأخرى ذات الصلة معالجة هذه المعضلة عبر توفير المرشدين الزراعيين للمزارعين، ونشر مختصين في محال بيع الأسمدة، من أجل الإشراف والرقابة عليها"، يضيف.
أرقام تُعدّ وأخرى لا
تُشير بيانات "الرابطة الدولية للأسمدة"، إلى أنّ الاستهلاك العالمي للأسمدة الكيميائية الرئيسية، وهي النتروجين والفسفور والبوتاسيوم، بلغ في عام 2020 قرابة 203 ملايين طن.
وتُظهر الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة الزراعة والرّي اليمنية في صنعاء عام 2018، أنّ كمية استيراد المخصبات الزراعية والأسمدة الكيميائية في صورتيها الصلبة والسائلة كانت 15،004 أطنان من الأسمدة الصلبة، و514،875 ليتراً من الأسمدة السائلة. ويكمُن الفرق بين الأسمدة الصلبة والسائلة في طريقة استعمالها، إذ تُستخدم الأولى عن طريق الرّي، بينما تُستخدم الثانية بطريقة الرش.
وتشير البيانات ذاتها إلى أنّ استيراد هذه الأسمدة بلغ ذروةً قياسيةً عام 2020، وصلت إلى 49،466 طناً للأسمدة الصلبة، و1،337،267 ليتراً للأسمدة السائلة، أي أنّ نسبة الزيادة المئوية في استيراد الأسمدة الكيميائية الصلبة بلغت 230%، ونسبة الزيادة في استيراد الأسمدة الكيميائية السائلة وصلت إلى 160%.
من الأراضي المزروعة بالقات في اليمن - خاص رصيف22
ولا تُمثل هذه الأرقام في العادة النسب الكلية لكميات الأسمدة المستوردة في البلاد، إذ إن هناك آلاف الأطنان التي لا تستطيع الجهات الرسمية إحصاءها بسبب دخولها إلى البلاد بطريقة غير شرعية نتيجة عوامل مختلفة أبرزها الحرب الدائرة في البلاد منذ 2015، بالإضافة إلى الإهمال المتعمد لهذه القضية من قبل الجهات الحكومية التي ترفض الإدلاء بأي تصريحات إلى الصحافيين بهذا الخصوص.
خطر يداهم البيئة
يؤدي الاستخدام المُفرط للأسمدة الكيميائية إلى حدوث أضرار خطيرة في التربة والنباتات والمياه الجوفية، وصولاً إلى الإنسان نفسه، وتتضاعف هذه الأضرار عند استخدام الأسمدة بطريقة خطأ.
يقول خبير التلوث وأستاذ تقييم الأثر البيئي المشارك في جامعة الحديدة، الدكتور عبد القادر الخراز، لرصيف22: "الإفراط في استخدام الأسمدة الكيميائية يُفقد التربة خصوبتها، وهذا الأمر يجعل المزارعين يستخدمون كميات إضافيةً من الأسمدة ما يُسبّب تراكمها في التربة، وتالياً تسمّم النبات وتعيق نموّه، بالإضافة إلى أنّ تراكم الأسمدة يؤدي إلى تلوّث مياه الشرب بسبب تغلغلها إلى طبقات الأرض السفلى واختلاطها بالمياه الجوفية".
يؤدي الاستخدام المُفرط للأسمدة إلى حدوث أضرار خطيرة في التربة والنباتات والمياه الجوفية.
وينبّه إلى أنّ هذه الأسمدة تؤثر على سلامة الإنسان بشكل مباشر بسبب احتوائها على مركبات كيميائية خطيرة مثل النتيروجين والفوسفور واليوريا التي تؤثر على الصحة، نتيجة تناول الإنسان للمحاصيل والثمار المشبعة بها، ناهيك عن تسبّبها في موت الكائنات الدقيقة الموجودة في التربة، والتي تؤدي وظائف حيويةً للتربة والنبات على حد سواء.
ويستطرد بالقول: "ما يزيد الأمر خطورةً هو استخدام كثير من المزارعين للأسمدة الكيميائية المهرّبة التي تدخل البلاد بطريقة غير قانونية، إذ يتم بيع هذه الأسمدة واستخدامها من دون أيّ إشراف أو رقابة، وتكمن خطورة هذه الأسمدة في إمكانية احتوائها مواد سامةً، كما أنّها قد تكون منتهية الصلاحية، وغير صالحة للاستخدام الزراعي وفي هذه الحالة تُصبح البيئة والمزارعون أكبر المتضررين منها".
حلول
لا يُدرك السواد الأعظم من المزارعين أنّ استخدام الأسمدة الكيميائية يتّم وفق شروط ومعايير خاصة، وبإشراف مباشر من المهندسين والمرشدين الزراعيين، كما يجهلون التأثيرات الناجمة عن استخدام الأسمدة الكيميائية بطريقة مغلوطة، ومدى خطورة الأسمدة المهرّبة على مزارعهم، والبيئة بشكل عام.
فتحي الصعو، مهندس زراعي، ومدير مكتب الهيئة العامة لحماية البيئة في محافظة لحج جنوب شرق صنعاء. يقول لرصيف22: "في الإمكان التغلب على هذه المشكلات بثلاث خطوات، تتمثّل في تنظيم وتقنين استيراد الأسمدة، ومن ثمّ الإشراف والرقابة على بيعها، وتفعيل دور الإرشاد الزراعي لتوعية المزارعين بكيفية استخدامها".
ويُحقّق الاستخدام السليم للأسمدة الكيميائية جملةً من الفوائد للبيئة والمزارعين أنفسهم، فإلى جانب عدم تضرر النظام الحيوي والبيئي فإنّه يضمن للمزارعين الحصول على إنتاج وفير ومستدام من دون أيّة أضرار.
في الإمكان التغلب على هذه المشكلات بثلاث خطوات، تتمثّل في تنظيم وتقنين استيراد الأسمدة، ومن ثمّ الإشراف والرقابة على بيعها، وتفعيل دور الإرشاد الزراعي لتوعية المزارعين بكيفية استخدامها
وعن كيفية الاستخدام الصحيح لهذه الأسمدة، يضيف الصعو: "تجب الاستعانة في هذه الحالة بالمهندسين الزراعيين، الذين يوجهون المزارعين نحو شراء السماد المناسب، والكمية اللازمة منه، ويتولون إرشادهم إلى توقيت استخدامه، بالإضافة إلى تبصيرهم حول كيفية استعمال هذا السماد. ويُقدّم المهندس الزراعي في العادة هذه المعلومات بناءً على نتائج زيارته إلى المنطقة المزروعة".
ويضيف المتحدث: هناك إمكانية لتجنب أضرار الأسمدة الكيميائية باستبدالها بالأسمدة العضوية المكوّنة من روث الحيوانات وبقايا النباتات، والتي لا تنطوي عنها أيّة مخاطر للتربة والنبات والمزارعين والبيئة بشكل عام.
تجارب ناجحة
من أجل الحد من استخدام الأسمدة الكيميائية في الزراعة، تدرب بعض المنظمات العاملة في البلاد عدداً من المزارعين على إنتاج السماد العضوي واستخدامه بدلاً عن السماد الكيميائي.
برهان الكناني، واحد من المزارعين الذين حظوا بفرصة تدريبية في هذا الجانب، وبدأوا بتطبيقها في مزارعهم، واليوم يزرع الطماطم في مساحة تقدَّر بقرابة 1،160 متراً مربعاً في مزرعته الواقعة في ريف محافظة تعز.
بعض أنواع الأسمدة التي تباع في أسواق اليمن - خاص رصيف22
يقول المزارع لرصيف22: "بالإضافة إلى أنّ السماد العضوي رخيص الثمن، فإنّه أيضاً يوفر لي إنتاجاً كثيراً وبجودة عالية. أستخدم سنوياً قرابة 750 كيلوغراماً من هذا السماد الذي أنتجه بنفسي".
وعن طريقة الإنتاج يشرح: "أشتري فضلات الأبقار والمواشي من أهالي القرية، وأضعها مع أوراق وبقايا النباتات، وبعض الإضافات الأخرى في حفرة عميقة، ومن ثم أردمها بالقش والتراب وأتركها لمدة 8 أشهر حتى تجهز، وبعد ذلك أبدأ باستخدامها في المزرعة".
ويُتابع قائلاً: "تكلّفني هذه العملية 150 ألف ريال فقط (أي ما يعادل 135 دولاراً)، تتوزع بين قيمة شراء مخلفات الحيوانات، وتكاليف نقلها، وأجور العمال في أثناء تحضير السماد واستخراجه، وكذا وضعه تحت أشجار المزرعة. ويُعدُّ هذا المبلغ صغيراً إذا ما قارناه بمبلغ 380 ألف ريال كُنت أُنفقها سنوياً في شراء السماد الكيميائي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 17 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت