بدونه يخيم الظلام، وتختنق الأنفاس، ويُقبل الهلاك، وفي التمسك به كأنه درع يحمي من الوحدة، وقوة تمنح الحياة. ذلك هو طوق النجاة الذي اتخذ منه أبطال فيلم "أغنية على الممر" رفيقاً لهم في عزلتهم، وقارباً يواجهون بواسطته الأمواج المتلاطمة.
في سينما تلحفت برداء الهروب من صدمة "نكسة 1967"، أو حاولت انتزاع الشعب من الكآبة التي تغشاه على إثرها، وتخفيف تبعات الهزيمة والذهول والحسرة عنه، أو وضعت نصب عينيها الاعتبارات المادية فقط، أطل "أغنية على الممر" عام 1972 كصرخة مكتومة ترفض وأد الذكرى وكأنها لم تكن، وتخلّد بطولات مجيدة تكتسحها هزيمة منكرة، وكبشرى لميلاد جيل جديد من صناع السينما عرف بـ"الواقعية الجديدة"، وهو الجيل الذي انتصر للمهمشين، والمحطمين، والمكبلين ببقايا مشاعر وأطلال طموحات، وعكَس واقعهم ووثّق همومهم وعبّر عن أحلامهم.
البداية
في باكورة أعماله، أزاح المخرج علي عبد الخالق أحد رواد ذلك الجيل، الستارَ عن أسلوبٍ فني مختلف، ميزه عن غيره من المخرجين، ورسم ملامحَ تجربته الفنية بشكل عام، والتي اتضحت على نطاق أكبر في أفلامه اللاحقة؛ فعلى سبيل المثال، نجد مشاهد مصورة بلقطات واحدة “One Shot” تتغير فيها الأحجام والشخصيات باستخدام كاميرا واحدة بدون قطع، وكذلك نجد تكثيفاً لاستخدام اللقطات القريبة في أغلب أحداث الفيلم، مما ساعد على وصف الحالة النفسية لأبطاله من خلال التركيز على ملامح وجوههم لإعطاء وصف دقيق لما يشعرون به بشكل مرئي فقط ودون الحاجة إلى حوار، فها هو الترقب يصلّب أبدانهم، وها هو الخوف يمزق أرواحهم، وها هي العزيمة تمنحهم القدرة على الصمود.
تشكلت بدايات ملامح تجربية فنية ستعرفها الأجيال اللاحقة بـ"الواقعية الجديدة"، استخدمت فيها تقنيات وأساليب تصوير جديدة، لوصف الحالة النفسية لأبطال مهزومين، يلحقهم عار الهزيمة، ويؤثر عليهم في مجريات أيامهم... ماذا نعرف عن "أغنية على الممرّ"؟
الفيلم حالة فنية متكاملة، أحداثها تدور في موقع محدد وسط الصحراء أثناء حرب 1967، نعيش فيه مع خمسة جنود مصريين، تحيط بهم العزلة بعد انقطاع الاتصال عبر جهاز اللاسلكي بمركز القيادة، وتنفد منهم الذخيرة والمؤن في الوقت الذي يواجهون فيه شبح الفناء.
نتعرف عليهم وعلى حياتهم قبل هذه الأزمة بسلاسة باهرة عبر تقنية "فلاش باك" التي وظفها عبد الخالق بشكل مبدع، لتنقلنا إلى عوالمهم المختلفة بدون أن تنسينا موقفهم الحالي ولو للحظة عابرة.
نشعر بغضب حمدي (أحمد مرعي) وسخطه على الوضع الرديء الذي تصبّغ به المجتمع، ونبتسم عندما يرى واقعاً آخر يحتضنه ليعطيه شيئاً من السلوى، يقف بينه وبين الجنون. ونعيش مع مسعد (صلاح السعدني) أحلامَه البسيطة، وفرحته الصادقة النابعة من قلب صافٍ، ونتطرّق إلى الظروف التي جعلت من شوقي (محمود ياسين) شاباً منبوذاً وسط أهله وزملائه، ينعته جميع من حوله بالفاشل، حتى الفتاة التي أحبها.
ونتعرف على حياة الشاويش محمد (محمود مرسي) ومعاناته مع الشعور بالخيانة الذي يطارده باستمرار، وتصدمنا حياة منير (صلاح قابيل) التي تظهر بشكل مغاير على لسانه. تساعدنا هذه المشاهد على التعمق في حياة الأبطال، وفهم مشاعرهم وأحلامهم وصراعاتهم الداخلية والخارجية، بل وتساعدنا على تفسير طرقهم المختلفة في التعامل مع موقف عصيب جمعهم ببعض في اللحظة ذاتها.
أبكى... أنزف... أموت... وتعيشى يا ضحكة مصر
قصة الفيلم التي كتبها علي سالم، وأعد لها السيناريو والحوار مصطفى محرم، رومانسيةٌ على كآبتها، اتخذت من أغنيةٍ وسيلةً للتحلي بالقوة والصمود وسط أحلك الأوقات، ومن أحلك الأوقات مصدراً لتحقيق الذات ومعنى للحياة، لتصبح في النهاية الأغنيةُ ذاتها هدفَ الحياة. فالأغنية التي كتبها عبدالرحمن الأبنودي، يلحنها ويشدوها في الفيلم حمدي، ويبدي مسعد اهتمامه بها قبل أن يبدأ في ترديدها، ويغنيها الاثنان مع الشاويش محمد وشوقي لتمنع عن مسامعهم مطالبات العدو (إسرائيل) لهم بالاستسلام، وتمنحهم الشجاعة والصلابة، ثم يتخذ منها شوقي في النهاية سبباً للتمسك بالنجاة كي تصل الأغنية إلى الإذاعة ويسمعها الشعب.
قصةُ الفيلم اتَّخذت من أحلك الأوقات مصدراً لتحقيق الذات ومعنى للحياة
شخص واحد لم يبالِ بالأغنية، وهو منير. ذلك الشاب الذي عاش حياةً ضائعة انتصر فيها لنفسه فقط، ورمى بكل شيء آخر عرض الحائط. فنجد الأنانية تظهر في أغلب تصرفاته عكس باقي أبطال الفيلم، ونراه يسخر من مشاعر زملائه واختياراتهم في الحياة بحدّة وغلاظة، ليداري ضعفه، وخوفه، وفشله الذي ربما يفوق أي فشل اعترفوا به أمامه، ليقود ذاته إلى الموت في النهاية، بينما يعتقد هو أنه في طريقه إلى الحياة.
"الرصاصة لا تزال في جيبي"
بالنظر إلى الأفلام الحربية في السينما المصرية على قلة عددها، والتي ينتمي لها "أغنية على الممر"، سنجد أن جماهيريته لا تضاهي تلك الجماهيرية التي يستحوذ عليها فيلم مثل "الرصاصة لا تزال في جيبي" الذي عُرض عام 1974. ولكن عند تحليل الفيلم الأول من الناحية الفنية، يتضح أنه يتفوق على الأخير كثيراً، سواءً من ناحية الإخراج أو القصة أو الصورة الجمالية.
حين نتفحص "رصاصة" الكاتب إحسان عبد القدوس، والمخرج حسام الدين مصطفى، نجد أنها تحوي بعض الأخطاء التي لا يمكن تجاهلها؛ مثل مشهد بتقنية "فلاش باك"، تتذكر فيه بطلة الفيلم فاطمة (نجوى إبراهيم) بعض الكلمات التي سبق أن ألقاها حبيبها محمد (محمود ياسين) على مسامعها قبل أن يسافر لتجنيده في الجيش المصري، رغم أن المشهد نفسه ظهر في وقت سابق من الفيلم في تسلسل زمني مختلف بعد عودة البطل لبلده عقب هزيمة 1967.
كما أن الفيلم اعتمد في حوالي ساعة إلا ربع كاملة على مشاهد لمعارك حربية تحاكي الواقع، ما يضمن الاستحواذ التام على اهتمام المُشاهدين، وإثارة غريزتهم الوطنية، وإعطائهم دوافع للفخر والاعتزاز، وانتزاع هتافات الإعجاب منهم، وبالطبع إشراكهم في فرحة النصر على العدو. أما بالنسبة إلى القصة ذاتها، فإذا جردناها من ظروف الحرب التي تحيق بها، ومن الرموز المباشرة التي ترمي إليها، سنجد أنها قصة تقليدية سبق أن تكررت في أكثر من فيلم: شاب وفتاة يجمعهما الحب، ودخيل يحول بينهما، ويطمع في الفتاة ليسطو عليها، فيسعى الشاب إلى الانتقام وإعادة وصل حبّه.
استسهال في اختيار بعض أبطال الفيلم، بعد أن سبق وقدموا أدواراً مشابهة.
هناك أيضاً استسهال في اختيار بعض أبطال الفيلم، بعد أن سبق وقدموا أدواراً مشابهة في "أغنية على الممر"، ليمتد الأمر إلى تشابه بين شخصياتهم بالفيلمين، فمحمود ياسين وصلاح السعدني يجتمعان مجدداً في ساحة المعركة. الأول أطل في الفيلمين كطالب جامعي قبل التحاقه بالتجنيد، ويستشهد الأخير كما استشهد "على الممر"، وسعيد صالح يقدم شخصية خفيفة الظل، كما ظهرت شخصية السعدني في الفيلم السابق.
أما الأدوار المختلفة بالفعل، فكانت من نصيب حسين فهمي ومحيي إسماعيل، ليظهر الأول في صورة جندي مصري برع في إخفاء حقيقة هويته قبل أن يستبسل في الدفاع عن أرضه أثناء الحرب، ويطل الثاني في صورة جندي إسرائيلي بغيض. التمثيل عنصر قوي في الفيلمين.
نقطة الضعف الرئيسية في "الرصاصة لا تزال في جيبي" هي فشله في التعمق في شخصيات أبطاله، باستثناء البطل الأول الذي تدور حوله قصة الفيلم، فلم نعرف أي شيء عن حياة أي شخصية أخرى من زملائه من الجنود، سوى من خلال جملة أو اثنتين فقط على لسان صالح والسعدني، عكس ما تبلور ببراعة في "أغنية على الممر"، ما يخلق ميلاً أكبر للتعاطف مع أبطال الأخير.
ومثلما يُحسب لـ"الرصاصة لا تزال في جيبي" أنه فيلم سارع بتوثيق الواقع، والاحتفاء بالبطولات، وغبطة النصر بعد عام واحد فقط من حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وكذلك نَقَل حقيقة ما كابده جنود 67 من صدمات نفسية، تفاقمت بسخرية أبناء بلدهم منهم قبل أن يستقبلوهم بالترحاب لاحقاً عقب تحقيقهم للانتصار، يُحسب لـ"أغنية على الممر" أيضاً الجرأة في الطرح أثناء توقيت حرج، وبواسطة مخرج يطرق أبواب السينما للمرة الأولى.
لكن بالطبع، إذا كان الاختيار بين فيلم يتناول فرحة النصر وآخر يكشف مرارة الهزيمة، سترجح كفة فيلم النصر لدى التيار الجماهيري.
يعلّق المخرج والمؤلف السينمائي، داود عبد السيد، في تصريح لرصيف22 أن "النوع الجيد من الفن له حضور ذاتي يفرض نفسه باختلاف الأسباب؛ فعلى سبيل المثال يملك فيلم (المومياء) لمخرجه شادي عبد السلام قدراً كافياً من الإشادة على المستوى الفني، بينما يستمد فيلم مثل (أريد حلاً) لمخرجه سعيد مرزوق أهميته من القضية التي يناقشها".
من ناحية أخرى، يضيف عبد السيد: "هناك أفلام تربطها بالجماهير عواطفُ وطنيةٌ إنسانية محددة، مثلما هو الحال في فيلمي (أغنية على الممر)، و(الرصاصة لا تزال في جيبي)، مما يصعب عملية المقارنة بينهما من الناحية الفنية".
أما بالنسبة إلى الناقد الفني رامي عبد الرازق، فيقول في تصريحه لنا إنه رغم قلة عدد الأفلام الحربية المصرية، وضعف مستوى أغلبها، يبقى "أغنية على الممر" كأحد أهم الأفلام التي أنتجت أثناء حرب الاستنزاف، وترجع أهميته لتأكيده على أن الهزيمة العسكرية جاءت نتيجة للهزيمة الاجتماعية والإنسانية، التي سادت المجتمع في تلك الفترة، ولم تكن سبباً لها، موضحاً أن هدف الفيلم الأساسي هو بلورة رفض الهزيمة، والتأكيد على المقاومة لآخر نفس، وهي فكرة كانت تُلحّ على جيل مخرج الفيلم علي عبد الخالق.
"أغلب الأفلام الحربية المصرية هي أفلام ضعيفة للغاية على المستوى الفني، ولذلك لا يوجد فيلم واحد منها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية"... لماذا؟
وتابع إن لـ"أغنية على الممر" جماله الخاص، الذي يجعل منه فيلماً صالحاً لأي زمان ومكان، كما أن عناصره الفنية متقنة الصنع، ما يخلق منه منتجاً دسماً لا ينتهي تأثيره بمرور الزمن. أما فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي"، فيحتوي على قدر كبير من الدعائية التي تميل إليها الأنظمة عادةً عقب تحقيق النصر لتسليط الضوء على البطولات، لكن يُحسب للفيلم إعادة تمثيل مشاهد الحرب، ليصبح بمثابة أرشيف توثيقي لمعركة قنطرة الشرق تحديداً، وهي أحد أهم معارك حرب أكتوبر.
وتتفق الناقدة الفنية حنان شومان مع عبد الرازق في أن "أغلب الأفلام الحربية المصرية هي أفلام ضعيفة للغاية على المستوى الفني، ولذلك لا يوجد فيلم واحد منها ضمن قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، وهذا يرجع لعدة أسباب، يأتي على رأسها عدم الانتظار لفترة كافية تسمح باستيعاب حدث جلل مثل حرب أكتوبر ودراسته جيداً، بجانب التكلفة الإنتاجية الضخمة التي تحتاجها هذه النوعية من الأفلام".
وأضافت أن "أغنية على الممر" أحد أفضل الأفلام الحربية المصرية، إن لم يكن أفضلها، مؤكدة أنه فيلم فني بحت، لكنه ليس دعائياً كما هو الحال مع "الرصاصة لا تزال في جيبي"، الذي تم تنفيذه كواجب وطني، يحتم على صنّاعه الاحتفاء بانتصار أكتوبر.
أما عن تفوق جماهيرية "الرصاصة لا تزالي في جيبي" على "أغنية على الممر"، أرجحت شومان السبب إلى عدة احتمالات، منها جودة الأخير الضعيفة التي قد لا تسمح بعرضه على مختلف القنوات الفضائية، أو سهولة توزيع الأول وانتشاره في عدة محطات تلفزيونية، نظراً لكونه من إنتاج مراد رمسيس نجيب.
وفي جميع الأحوال، يظل "أغنية على الممر" فيلماً حربياً إنسانياً يستحق الإشادة والتقدير، وربما يجد التكريم الذي يستحقه في الدورة المقبلة لمهرجان القاهرة السينمائي في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، حيث اختاره رئيس المهرجان الفنان حسين فهمي للترميم والعرض، كتكريم لمخرجه عبد الخالق الذي توفي في أوائل الشهر الماضي، وهو الذي سبق أن تعاون معه في أكثر من فيلم سينمائي، أشهرها "العار" عام 1982، و"جري الوحوش" عام 1987.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع