شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
غفوت بجوار أبي في السينما ذات يوم ولم أستيقظ حتى الآن

غفوت بجوار أبي في السينما ذات يوم ولم أستيقظ حتى الآن

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 13 فبراير 202204:17 م

أتذكر أنني غزوت سينما الكبار في سن صغير، كان ذلك عام 1996 وأنا لم أتخطَّ الخامسة، طفلة تستقل بكرسي سينما، يبتلعها لتشاهد واحداً من أفلام الكبار، الجادّة، الغارقة في السياسة والتاريخ وعالم الأبيض والأسود...

رأيتُ فيلم "ناصر 56".

رغم أنني كنت نائمة أغلب مدة الفيلم في المقعد السينمائي المريح، وسط ظلمات القاعة وسحر نور الشاشة، أتذكّر كل شيء كأني في حلم مستمر، ساعتان وأنا مغمضة العينين، تُغرق الأصوات أذني، وتصب السماعات العملاقة بها أصوات الممثلين والموسيقي التصويرية، حتى لحظات الصمت والسكون.

فيلمي المفضل الوحيد في ذلك الوقت هو "الأسد الملك".

خلال سنوات عمري الأولى، اعتدت على نصب قاعة السينما الخاصة بي، قابعة في صالون منزلنا، حيث الفيديو، هذا الاختراع المذهل الذي ازدهر مع مطلع التسعينيات.

لم توفر دار العرض خاصتي العديد من الأفلام، إذ اقتصر برنامج العروض على فيلم واحد كنت أطلب تكراره من عامل السينما/ماما في ذلك الوقت، فيلمي المفضل الوحيد في ذلك الوقت هو الأسد الملك/Lion King، توحّدتُ آنذاك مع البطل "سيمبا"، أبكي في اللقطات المعتاد البكاء بها، وأضحك في اللحظات الفكاهية، وأرقص مع كل نغمة راقصة. كنت أحفظ جمل ولحظات وأغاني هذا الفيلم، ومازلت، حتى إنه يرافقني في أحلامي أحياناً.

لا أبالغ إن قلت إنه أكثر الأفلام تأثيراً فيّ، لاسيما أنه يعتبر المدخل السينمائي الأول، تعلقت بالسينما، وأصبحت جزءاً من حياتي وأحلامي، ساعدني على ذلك حب والدي ووالدتي للسينما والأفلام. رحلة السينما كانت اعتيادية ومحببة لنا كأسرة، أتزيّن وكأنه العيد في كل مرة أثناء ذهابنا للسينما، تلك السينما التي تختلف عن سينما الأطفال، لم يعد الفيديو وعرضه الحصري هو ملاذي الوحيد وإنما الشاشة الكبيرة.

أنا وأبي وقاعة السينما

تكرّرت رحلاتي للسينما مع أسرتي، يمسك أبي بيدي للدخول إلى العالم السحري كيلا يفقدني داخل دهاليز القاعة المزدحمة حتى اعتدت على هذا المسار السحري للدخول إلى ظلمتها، دون حاجة إلى ضوء كاشف.

في يوم ما، تركت يد والدي، وذهبت وحدي إلى السينما، مستأنفة الرحلة وحدي. عادة ما كانت تسألني أمي هل أعجبك الفيلم؟

في البداية، كنت أسرح في حلمي السينمائي الخاص، وبمرور الوقت اعتدت على قول رأيي وأخذ السؤال والانطلاق معه بحديث دون انقطاع عن الفيلم ورأيي به وجمالياته وما لم يعجبني، لم أكن أعرف أن ما يحدث هو تشكيل وعيي الفني والفكري والنقدي.

والآن سُئلتُ سؤالاً آخر، غامضاً بعض الشيء، عن عالم الأحلام والسينما، في وعيي الفني بالأحلام، وحلمي بالأفلام؟

بالحديث عن الأحلام، عادة ما يتم التعبير عنها في الأفلام على أنها عالم غرائبي، غير واضحة بدايته ونهايته، حينما صوّر المخرج ذائع الصيت، ألفريد هيتشكوك، الحلم في فيلمه Spellbound 1945 صوّر به البطل جون الذي لعب دوره Gregory Peck، ضئيلاً وصغيراً في حين تراقبه الأعين الكبيرة المتجاورة، كما استخدم العين كنافذة للحلم الذي يسرده البطل، المدهش أن مصمم هذا التصور للحلم هو السريالي الشهير سلفادور دالي.

يمكن اعتبار السينما هي المعادل المصنوع للأحلام، إذ استهل بها السيرياليون وجودهم في السينما، وازدهرت الأحلام كمجال وانطلاق للسينما مع أفلام سلفادور دالي ولويس بونويل، رغم النهج الذي سلكه الأخير فيما بعد بمشواره السينمائي الثري.

بالعودة إلى الأحلام في السينما المصرية، فإنها وجدت طريقها هي الأخرى مبكراً للغاية، استهلت العروض السينمائية في مصر مع بداية كانون الثاني/ يناير 1896 بعد أيام من أول عرض سينمائي في العالم بباريس في 25 كانون الأول/ ديسمبير 1895.

فكاهة وغرائبية

توجو مزراحي رائد في الصناعة السينمائية في مصر، كاتب ومخرج وممثل أيضاً، تأثر بالسينما العالمية، وقدّم قصصاً "ممصَّرة" أحياناً، وأصيلة أحياناً أخرى، اللافت أن أحمد المشرقي (وهو الاسم الذي اختاره مزراحي لنفسه كممثل في بداياته بالسينما في نهايات ثلاثينيات القرن العشرين) قدم الحكايات السينمائية بمصرية بالغة.

حديثنا سيكون عن فيلم "الساعة 7"، الذي صدر مع نهاية عام 1937 في كانون الأول/ ديسمبر، لبطله المفضل "علي الكسار" وشخصيته الشهيرة عثمان عبد الباسط.

سار مزراحي والكسار مع شخصية عثمان عبد الباسط في العديد من الدروب، ومن بينها درب الأحلام كما حدث في فيلم "الساعة 7".

يعمل عثمان عبد الباسط كـ"مُحصِّل" لأحد البنوك، ويحمل حقيبة الأموال إلى منزله، عادة ما يضج بصراعات لا تنتهي بينه وبين حماته، يفرط في الشراب، ويصبح عرضة لحلم مزعج أو كابوس يغلب عليه الطابع الكوميدي، إذ تُسرق الأموال، ويضطر للهرب، ويتعرف على العديد من الاشخاص التي تربطه بهم مواقف كوميدية في بنيتها الدرامية، تعتمد على سوء الفهم.

في النهاية يفيق عثمان من حلمه/كابوسه، ويهبّ لتسليم حقيبة الأموال التي لديه إلى البنك.

بداية الرحلة عندما تركتُ يد أبي، مستأنفة طريقي إلى السينما وحيدة، وبداية النقد سؤال أمي: هل أعجبك الفيلم؟

الأحلام في السينما المصرية لم تقف عند حد الفكاهة والكوميديا، بل تخطتها إلى الدراما والتصعيد الدراماتيكي، كما حدث في فيلم "سفير جهنم"، الذي قدمه يوسف وهبي عام 1945.

القصة مقتبسة عن شخصية "فاوست" الشهيرة، الرجل الذي باع روحه للشيطان وبات عبداً له، اسمه المصري رمضان عبد الخلاق، ولنا في الاسم دلالة، رجل معدم، وتعيش أسرته ظروفاً صعبة، ويتخذ منهم الفقر رفيقاً، يلعب الحلم بعقولهم، ويصادقون الشيطان لسويعات ليلية أثناء نومهم، ويشاهدون ماذا فعلت بهم الأموال، وكيف أفسدتهم.

أحلام وتوجيه

الملاحظ أن الأحلام عادة ما ترافق الأموال في الأفلام المصرية الأبيض والأسود، كما هو الحال في فيلم يوسف شاهين الأول "بابا أمين" عام 1950، والملاحظ أيضاً أن الفيلم متأثر بصورة كبيرة بملامح السينما الأوروبية، خاصة خلال فترة الثلاثينيات والأربعينيات.

لم يغفل شاهين الحس الكوميدي، في قصة أراد لها أن تكون خفيفة في مظهرها، عميقة في جوهرها، لكن الملفت في النماذج المذكورة هو ثلاثية واضحة ومتجلية مرتبطة بتيمة الأحلام: "الأموال... الفساد... الرضا".

هل هذا الطرح والتتابع غرضه اكتساب جمهور ينتمي إلى فئات اجتماعية تعاني اقتصادياً، ويحاول مواساتهم بأنهم على خير ما يرام إذا بقيوا راضيين بحالهم وأوضاعهم المادية البسيطة، أم حقاً هذه هي قناعة صنّاع الأفلام؟

لا يغفل أحد عن توجه يوسف وهبي القيمي والأخلاقي في الأفلام، ولكن مزراحي خلال مشواره حاول مخاطبة الجمهور العام بأفلام رائجة يحبها الجمهور، مثل سلسلته "مع شالوم أو عثمان عبد الباسط"، وكذلك التوجه إلى الطبقات الارستقراطية بأفلام يغلب عليها الطابع الخطابي الأخلاقي، أما شاهين الذي شهد مشواره السينمائي اختلافات نوعية عن الأفلام التي قدمها في بداياته، مثل "بابا أمين"، فنجده متأثراً بالمسار العام الذي ساد في السينما، وهو المخاطبة "الشعبوية"، لكنه حاول تطعيم فيلمه بصورة سينمائية، فانتازية بصرياً.

الفلوس، الفلوس ،الفلوس... أحلام السينمائيين المصريين الأوائل كانت مرتبطة بـ"الفلوس"، ومن يحقق حلمه يبيع روحه لـ"الشيطان"... لماذا؟!

رغم تجاوز السينما المصرية القديمة التعبير عن الفانتازيا، بملامحها البصرية الغرائبية، فقد احتفظت بطزاجة سُلطة الأحلام على الشخوص والمشاهدين. أتذكر أثناء اصطحاب والدي لنا لمشاهدة فيلم "معالي الوزير" عام 2003، كنت في ذلك الوقت لم أتخطّ 12 عاماً، مع هذا مازال حاضراً في ذهني كيف هللت القاعة بسينما مترو بوسط البلد رافضة قصر مدة الفيلم، إذ لم تتعدّ الساعة ونصف إلا بقليل.

يبدو أنَّ الفيلم مرّ كالحلم بالنسبة للحاضرين آنذاك، بالنسبة لي يعتبر فيلم "معالي الوزير" واحداً من أهم وأفضل أفلام السينما المصرية، والتي سطرها وحيد حامد والمخرج سمير سيف.

يحلم رأفت رستم، بطل تلك الحكاية، بعد أن عيّن وزيراً بالخطأ، بكوابيس أنه لا يستطيع أن يصرف فلوسه من بنك سويسري، والشرطة تحتجزه، والأسرة تسعى للتخلص منه، تتابع تلك الكوابيس حتى يفقد النطق، ويلجأ لطبيب نفسي يصبح هو الآخر بطل خوفه، ويرى ملامحه بعد أن أفشى له أسراره، في كل الوجوه المحيطة به.

تبدو تلك القصة وكأنها تسير بشكل عكسي لمرزاحي، فالبطل هنا كأنه باع روحه للشيطان، مجسداً "فاوست"، وهو يعيش الآن في الجحيم رغم السلطة والمال.

"معالي الوزير" فيلم يقف على عتبة الأحلام لكن لا يغرق فيها بالكامل، على غرار أفلام الأبيض والأسود المذكورة سلفاً، يتأرجح ما بين الحلم والواقع الكابوسي الذي يعيشه الوزير رأفت رستم، وزير الصدفة والخطأ.

الأحلام التجريبية

تترافق الأفلام المذكورة سلفاً في طرح سؤال السينما المفضل "ماذا لو؟"، ماذا لو أخذنا الأحلام إلى أقصى حدودها كفكرة وحالة، وهذا ما ذهب إليه مخرج الأنمي الياباني Satoshi Kon ساتوشي كون.

أخذنا المخرج إلى حدود أقاصي الأحلام في فيلمي Perfect Blue 1997، Paprika 2006، وإن عدنا إلى مسيرة Kon وفق السير التاريخي، فإننا سنبدأ مع فيلم Perfect Blue، مغنية أغاني بوب شهيرة في سياقها وبين جمهورها، تقرر التوجه إلى التمثيل بجانبه الدرامي، لتقع حياتها تحت طائلة الحبكة التراجيدية.

خلال أحداث الفيلم، تشتبك الأزمنة والشخوص والعوالم، هل نحن في الزمن الحالي أم الماضي؟ هل نسير مع الشخصية ذاتها أم شبحها المختيل والأهم؟ هل نحن في عالم الحقيقة أم الخيال والحلم؟

تتجلى السريالية في صور الإنمي المتلاحقة.

أما "بابريكا" فيعد نموذجاً للسرد المتداخل والمشوّق، إذ تتجلى السريالية في صور الأنمي المتلاحقة.

تأثر المخرج الأمريكي دارين أرونوفسكي بسينما Satoshi Kon وعالم الحلم الذي يخلقه، وهو ما ظهر في أفلام، مثل: equiem for a Dream (2000) Black Swan (2010)، تتداخل العوالم لدى أرنوفسكي لكن من منطلق نفسي، ينعكس على الصورة البصرية، في حين يقدم Kon الأحلام كعالم ندور في فلكه، ونغرق فيه أغلب الأحيان، وهو ما حدث في فيلم Paprika.

أنمي وخيال علمي وجوانب نفسية، هذا هو الفلك الذي تدور فيه أحداث فيلم Paprika، قصة عن علاج يتحول إلى مرض وإدمان، تستخدم الطبيبة أتسوكو تشيبا الأحلام لعلاج مرضاها.

تعتبر الأحلام هي أكثر العوالم خصوصية، فما هو الحال إذا ما أصبحت الأحلام تحت تصرفنا ووعينا؟ يعتبر الكثير من المفكرين أن أزمة الإنسان المعاصر هي اتساع أفق التجريب إلى أقصى الحدود، لقد تجاوزنا الأسقف المعتادة، وباتت الحياة مملة إلى حد يدفعنا نحو العيش في الأحلام.

ويبقى حلم

تغير العالم، وكذلك نوعية الأفلام التي أصبحت جزءاً من ذاكرتي، أنا وجميع أبناء جيلي، حيث السينما العالمية بمختلف أطيافها، تجاوزنا السينما الأمريكية، البطولة البوليسية وأفلام الويسترن لنصل إلى أقصى الشرق، حيث السينما الأسيوية التي باتت ملاذ الحالمين ومحبي السينما، وكان اللقاء مع "بابريكا".

"بابريكا" هي شخصية افتراضية أو قد نعتبرها الوجه الآخر للطبيبة أتسوكا، وهو الحال في فيلم Perfect Blue، عادة ما نرى الشخوص في أفلام Kon لهما وجهان، يختلف الوجه في الحقيقة عنه في الخيال/الحلم، وهذا هو الاختلاف الجوهري.

إذا ما أردنا عقد مقارنة قصيرة المدى بين سينما Kon والأفلام العربية المذكورة سلفاً، مع الوضع في الاعتبار أن الطرح السريالي الذي يغلب عليه درامية يقدمها Kon، تتطلب معطيات مختلفة عن الطرح الكوميدي الفكاهي المصري، كما أن الغرض الدرامي في الحالتين مختلف أيضاً، ولكن جميعها أفلام تقدم الحلم أو تتقاطع معه.

غادر Satoshi Kon الحياة عام 2010 بعد أن علم بإصابته بمرض السرطان، وأن القدر سيمهله ستة أشهر فقط، في هذه الاثناء كان Kon يجهز لفيلم جديد يتقاطع مع الأحلام بل ويصنعها، حمل حلمه السينمائي اسم Dreaming Machine، يبدو من الاسم أن الفيلم كان يمثل أقصى التصور السريالي الغرائبي الذي يخلقه Kon، ولكن القدر كان له رأى آخر.

في تصورك ماذا كنا سنرى لو أكمل Kon آلته العجيبة نحو الأحلام؟

عالم السينما والشاشة المضيئة التي تملأ بسحرها ظلمة القاعات وربما الحياة، كانت هي ملاذي وبوابتي لعالم الأحلام، علاقتي بالسينما لا تقف عند حد المتعة والترفيه، لكنها علاقة روحانية، طقس أحب ممارسته يتجلى سحره مع كل لقطة سينمائية تتحرك أمام عيني، وكأنني في حضرة الفانوس السحري الذي يقلب الصور ولا يتوقف، وتعلو الدهشة وجوه الحاضرين وكأننا جميعا في حلم جماعي لا نصحو منه أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image